تعدّ تجربة تكتل اللقاء المشترك علامةً بارزةً في تاريخ الحياة السياسية اليمنية؛ إذ قدمت طريقةً ناجعةً للتعامل مع صلف الحاكم واستبداده. ولم تقف هذه التجربة عند وسائل مواجهة نظام صالح وآلياتها، بل ساهمت في رفع الوعي السياسي لدى المواطن اليمني. كما أنها كسرت حاجز الخوف والريبة بين مكونات المعارضة، ونقلتها من التمتّرس وراء الأيديولوجيا وموروثات التاريخ إلى البحث عن المشتركات والعمل على تعزيزها والانطلاقة منها.
بيد أنّ هذه التجربة كانت ضحية الأهداف التكتيكية وغياب الرؤى الإستراتيجية لروادها؛ ما يدعو إلى دراسة هذه التجربة “القصيرة”، والنظر في أسباب تعثرها، والبحث في إمكانية بناء تحالفٍ وطني قوي يحظى باحترامٍ شعبي واسعٍ وعلاقات دولية متينة، ويحمل المشروع الوطني، ويبني دولة القانون التي لم يهنأ اليمنيون بها حتى الآن، على الرغم من تضحياتهم الجسيمة في سبيل ذلك.
كما تكمن أهمية دراسة هذه المحاولة في ضرورة استثمار الوقت وعدم انتظار انتهاء الحرب القائمة حاليًا لتجد القوى السياسية نفسها أمام واقع مفاجئ لا تستطيع التعامل معه حينها. بمعنى، التحضير للمرحلة المقبلة بوعي سياسي لتحقيق الغايات الوطنية التي قامت من أجلها الثورة اليمنية عام 2011، ثم الحرب التي تلتها.
مكونات اللقاء المشترك
أُعلن عن تأسيس تكتل “اللقاء المشترك” في تشرين الثاني/ نوفمبر 2003، بعد أن كان يعرف سابقًا بـ “مجلس التنسيق الأعلى للمعارضة”. ويضمّ هذا التكتل أهم سبعة أحزاب سياسية في البلاد وهي: حزب التجمع اليمني للإصلاح (46 مقعدًا برلمانيًا)، والحزب الاشتراكي اليمني (8 مقاعد)، وحزب التنظيم الوحدوي الشعبي الناصري (3 مقاعد)، وحزب البعث العربي (مقعدان)، واتحاد القوى الشعبية وحزب الحق وحزب التجمع السبتمبري اليمني، وهي أحزاب لا تحظى بأي تمثيل في البرلمان اليمني. وعلى الرغم من الاختلافات الفكرية والأيديولوجية في هذا التكتل، فضلًا عن محاولة الرئيس السابق علي عبد الله صالح تفكيكه، فقد صمد لنحو عقدٍ من الزمن، وقدّم صورةً مثاليةً في التوافق والتعاطي السياسي بين مختلف مكوناته السياسية التي لم يكن يتوقع أحدٌ أن تتحالف يومًا.
وعلى الرغم من صغر حجم بعض أحزاب اللقاء المشترك وضعف تأثيرها الشعبي مقارنة بحزب الإصلاح، فإنها أعطت هذا التكتل مشروعيةً شعبيةً وسياسيةً أكثر، وجعلت النظام في مواجهة الجميع. أما عن رئاسة اللقاء المشترك فكانت بالتناوب بين الأحزاب بصرف النظر عن حجمها وثقلها الشعبي.
الصراع مع نظام صالح
في فترة ما قبل ثورة 2011، وصل الاحتقان السياسي مداه في البلاد، وظل الرئيس السابق علي صالح يغذي الخلاف بين مكونات المعارضة، وعمل على ضرب بعضها ببعض ليسهل عليه البقاء في السلطة وتمرير مشروع توريث الحكم لابنه من بعده. ففي عام 1994 إبان الحرب اليمنية بين الشمال والجنوب، استفاد صالح من الخلافات الفكرية بين حزبي الاشتراكي والإصلاح (أهم حزبين في اللقاء المشترك حاليًا). وبالفعل وقف حزب الإصلاح إلى جانب صالح في حربه ضد الحزب الاشتراكي وحكمه في الجنوب، مما زاد من حجم العداء بين الحزبين، والذي لم تنته آثاره حتى الآن.
وفي نهاية التسعينيات من القرن العشرين، أصبح حزب الإصلاح رقمًا صعبًا في المعادلة السياسية، وبات يشكل خطرًا حقيقيًا على مشروع صالح السياسي والعسكري. وفي ذلك الوقت، سعى علي صالح للتحالف مع الحزب الاشتراكي لضرب حزب الإصلاح “الإسلامي”. ولعل هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 التي ضربت الولايات المتحدة أعطته مبررًا لضرب الإسلاميين. ولكن الأمين العام المساعد للحزب الاشتراكي آنذاك “جار الله عمر” فضّل التقارب مع حزب الإصلاح وبقية أحزاب المعارضة، ودعا إلى تشكيل “اللقاء المشترك” (قبل اغتياله) لفرض واقعٍ سياسي جديد، وإنهاء حالة الصراع بين مكونات المعارضة وتوظيف النظام لها، بصرف النظر عن الموروث التاريخي والاختلاف الفكري، حتى بات جار الله عمر يُعرف بمهندس اللقاء المشترك؛ بوصف عملية تشكيل هذا التكتل لم تكن سهلة التحقق.
وإذا استثنينا اغتيال جار الله عمر، فإنّ أهم مرحلتين في تاريخ الصراع بين أحزاب اللقاء المشترك ونظام صالح هما:
1. انتخابات 2006
خاض اللقاء المشترك في عام 2006 معركةً انتخابيةً شرسةً قدّم فيها المهندس فيصل بن شملان كمرشحٍ وحيدٍ له. وكانت هذه تعد محاولةً حقيقيةً وقويةً أوصلت رسالةً لنظام صالح بأنّ حكم الحزب الأوحد قد انتهى، وأنّ الرهان على الاختلافات الفكرية والتاريخية بين أحزاب المعارضة لم يعد له جدوى.
رفع اللقاء المشترك في هذه المرحلة شعار “التبادل السلمي للسلطة” كغاية له، كما رفع أيضًا شعار “النضال السلمي طريقنا لنيل الحقوق والحريات” كوسيلة لتحقيق هذه الغاية. وخلال هذه الفترة، أظهر اللقاء المشترك حالةً من التماسك والانسجام في المواقف السياسية، ونجح في تهيئة الشارع اليمني لمرحلة التغيير القادمة.
وفي عام 2009، رفضت أحزاب اللقاء المشترك دعوة الرئيس صالح للدخول في جولة انتخابات جديدة واعتبرتها انتخابات شكلية نتيجة لرفض نظام صالح القيام بإصلاح السجل الانتخابي وتصحيح وضع اللجنة العليا للانتخابات. وبعد ذلك، وجدت أحزاب اللقاء المشترك نفسها مضطرة إلى العودة إلى الشارع من جديد، مما ساهم في إنضاج التفاعل الشعبي وتهيئة الشارع للقيام بثورة شعبية سلمية كان خطابها السياسي متقدمًا بشكلٍ لافت، وكانت أهدافها واضحة، بينما كان حضور الشباب والمرأة فيها غير معهود ولا متوقع.
2. ثورة 2011
تزامنًا مع ثورات الربيع العربي، جاءت الثورة اليمنية في عام 2011 كنتيجة طبيعية للحراك الشعبي الذي كان قد اشتد وهجه منذ عام 2006، وبسبب انسداد الأفق السياسي في اليمن. وقد جمع اللقاء المشترك في هذه الثورة بين المفاوضات السياسية والفعل الثوري. فإلى هنا، يمكن القول إنه قام بدورٍ فعالٍ واستطاع التعامل مع الشارع المطالب برحيل صالح عن السلطة، كما أنه شكّل موقفًا موحدًا أمام الدول الراعية للمبادرة الخليجية.
إلا أنّ اللقاء المشترك أخفق في الحفاظ على تماسكه بعد رحيل صالح عن السلطة. مما يطرح سؤالًا مهمًا، وهو: هل كان هذا التكتل إجراءً موسميًا مهمته إسقاط نظام صالح أو إزاحته عن السلطة أم إنّ التحولات الإقليمية والثورات المضادة في المنطقة حالت دون استمراره؟ ومهما كانت الإجابة عن هذا السؤال، فإنّ تصدع هذا المكوّن الوطني وتراجع فاعليته في هذه المرحلة الخطرة، وضياع فرصة تاريخية لبناء دولة القانون، تظل مسؤولية قادة تلك الأحزاب والنخب السياسية.
عوامل تفكك اللقاء المشترك
يبدو أنّ المرحلة التي تلت نقل السلطة من علي صالح إلى خلفه عبد ربه منصور هادي كانت أخطر المراحل في كينونة اللقاء المشترك وتماسكه، إذ تعرّض هذا التكتل لتجاذبات إقليمية ودولية وانقسامٍ في المواقف الداخلية، وبدأت تظهر ملامح الضعف والتفكك. ويعود ذلك إلى عدة عومل مباشرة وغير مباشرة.
أما العوامل غير المباشرة فيمكن قراءتها من خلال التغيرات الإقليمية والدولية، مثل سكون ثورات الربيع العربي، وعودة حكم العسكر في مصر، والدعم الذي حظي به نظام الأسد في سورية؛ ما أدى إلى حالة من التماسك والأمل في العودة بالنسبة إلى نظام صالح، كما شجع ذلك على المناورة أكثر بعد أن مُنح صالح نفسه حصانة تحميه من المحاكمة بناءً على المبادرة الخليجية. وفي المقابل، عاش اللقاء المشترك حالة من الإرباك والضغط الداخلي والخارجي؛ مما دفعه إلى التمسك ببقاء هادي منصور في السلطة، بل وتمديد رئاسته إلى سنتين إضافيتين، على الرغم من سوء تعاطيه مع أهداف الثورة ومتطلبات المرحلة الانتقالية.
أما العوامل المباشرة لتفكك هذا التكتل، فأهمها:
الحوار الوطني الشامل ونظام الأقاليم؛ فعلى الرغم من الصورة المثالية لمؤتمر الحوار الوطني وتمثيل جميع فئات الشعب فيه (السياسية والاجتماعية والدينية)، وطرح الملفات والقضايا من دون تحفظ، فإنه كشف الكثير من التباينات التي لم تجرؤ أحزاب اللقاء المشترك على مناقشتها من قبل، وأهمها شكل اليمن ما بعد صالح مثل عدد الأقاليم؛ إذ دفع الحزب الاشتراكي باتجاه نظام إقليمين (شمالي وجنوبي)، بينما تمسّك حزب الإصلاح بفكرة تعدّد الأقاليم بحيث تكون ثلاثة أو أكثر، وذلك لتجنُّب انفصال جنوب اليمن عن شماله. وبالفعل، تمّ التوقيع على نظام فيدرالي من ستة أقاليم، مما تسبب في فتور العلاقة بين حزبي الإصلاح والاشتراكي وتقارب الأخير مع جماعة الحوثي في هذه القضية، التي تعدّ جوهرية بالنسبة إليه.
فخ السلطة وتوسيع دائرة النفوذ؛ فبعد توقيع المبادرة الخليجية ورحيل صالح عن الرئاسة ودخول اليمن في مرحلة انتقالية توافقية، سعى كل حزب إلى محاولة التوغّل أكثر في مؤسسات الدولة ومحاولة توسيع نفوذه؛ مما أدى إلى تبادل التهم بمحاولة السيطرة والإقصاء. واستغل صالح ذلك، وعمل على تفكيك اللقاء المشترك للتخلّص من هذه الجبهة الموحدة؛ ما يعني أنّ أحزاب اللقاء المشترك صمدت مقابل مكائد السلطان ولم تصمد أمام مغريات السلطة.
شخصية الرئيس هادي؛ فعدم استناده إلى أي مكونٍ قبلي أو عسكري أو حتى سياسي جعل منه خيارًا مفضلًا للكثير من الأطراف السياسية، ويهدف كلُّ طرفٍ منها إلى البقاء معه وتحقيق مكاسب سياسية من خلاله. وقد شكّل ذلك خطرًا على وحدة اللقاء المشترك بوصف أطرافه لم تعد تشعر بخطر سيطرة الحاكم القوي، باعتبار أنّ هادي لا يمكنه السيطرة على الحكم ولا الاستمرار فيه، لكنّ الأحداث أثبتت أنّ ضعف هادي واستقلاليته لم يكن في مصلحة أحد.
اختلاف الرؤية لمهمة اللقاء المشترك؛ إذ يبدو أنّ أحزاب اللقاء المشترك لم تصل إلى رؤية إستراتيجية موحدة، فمنهم من يرى أنّ مهمة اللقاء المشترك هي إزاحة صالح ومنع مشروع التوريث وبعدها يجب الانتقال إلى تحالفات جديدة، كما صرح بذلك أمين عام الحزب الاشتراكي ياسين سعيد نعمان في عام 2014؛ إذ قال: “إنّ اللقاء المشترك أدى مهمة سياسية تاريخية، وآن الأوان لتقييمه والانتقال إلى صيغ جديدة من التحالفات التي تفرضها المستجدات في الحياة السياسية”. بينما يرى حزب الإصلاح أنّ الوضع يستدعي استمرار اللقاء المشترك لفترة قادمة، وذلك بحسب القيادي الإصلاحي محمد قحطان في عام 2013 بقوله: “نحن ندرك أنّ الحاجة ماسة إلى أن يستمر المشترك على الأقل لدورتين أو ثلاث دورات انتخابية قادمة”. ويوضح هذان التصريحان مدى التباين حول مهمة اللقاء المشترك، وضرورة استمراره من عدمها. ومن الجدير بالذكر أنّ محمد قحطان هو رديف جار الله عمر في نظرته نحو دور اللقاء المشترك وأهمية الحفاظ على تماسكه.
الخاتمة
إنّ تكتّل أحزاب اللقاء المشترك أصبح مشلولًا وغير قادرٍ على القيام بعمل جبهوي مشترك؛ مما يتعين على النخب السياسية والقيادات القبلية والعسكرية أن تسعى إلى تأسيس تحالفٍ وطنيٍ جديدٍ (أو على الأقل وثيقة شرف وطني) يحاكي تجربة اللقاء المشترك؛ مستفيدًا منها كفكرة جامعة يمكن البناء عليها لتصبح حالةً وطنيةً تستطيع التعامل مع الظروف الصعبة التي يمر بها اليمن وإخراجه من أزمته بدلًا من التنافس والصراعات السياسية الجانبية. ويتعين ألا يقتصر هذا التحالف على نخبوية الأحزاب، بل يشمل قوى الثورة ومكوناتها، والحراك الجنوبي الداعم للشرعية، ومنظمات المجتمع المدني. كما أنّ ثمة ضرورة أن تُحدَّد أهدافٌ إستراتيجية لهذا التحالف لما بعد الحرب، بحيث يعمل الجميع على تحقيقها؛ كي لا يتكرر خطأ اللقاء المشترك حين اعتقد بعض قادته أنّ حلم الديمقراطية والتداول السلمي قد تحقّق بمجرد إزاحة صالح من رأس السلطة، مما جرّ البلاد إلى الحالة الراهنة.
المصد: المركز العربي