رأينا في المقال السابق كيف أن رسائل إيران – رفسنجاني التصالحية قد قرئت بشكل خاطئ، وأن محاولاتها للاندماج من جديد في النظامين الإقليمي والدولي قد باءت بالفشل، حيث كانت محصلة التعامل الدولي مع إيران هي زيادة في عزلها واستبعادها، ظهر ذلك جليًا من خلال استثناء إيران من أي ترتيبات أمنية لمنطقة الخليج كانت قد عقدت على المستويين العربي – العربي، أو العربي – الغربي، بالإضافة إلى تجاهل إيران الكامل فيما يتعلق بترتيبات عملية السلام في المنطقة التي هدفت إلى دمج إسرائيل مع محيطها العربي، وهو ما رأت فيه إيران تهديدًا لمصالحها الحيوية.
كان تخريب عملية السلام هو رد الفعل المنطقي من قِبل إيران على مشروعٍ تشعر أنه مصمم من أجل عزلها، وضرب اقتصادها وقدرتها على النهوض بعد الحرب، وجهت إيران نظرها إلى القوى والفصائل الرافضة لعملية السلام والتطبيع مع إسرائيل خصوصًا الفلسطينية منها، ولم يكن ذلك ليشكل معضلة في ضوء اشتعال الانتفاضة في الأراضي الفلسطينية قبل ذلك الوقت بعدة سنوات، والتي امتازت بظهور القوى الإسلامية كلاعب رئيسي ومؤثر على خريطة الصراع مع إسرائيل.
حيث انكسر ولأول مرة احتكار فصائل منظمة التحرير للتمثيل الفلسطيني في الصراع مع إسرائيل، وإذا أخذنا بعين الاعتبار سوء العلاقة الذي كانت تتسم بها علاقة إيران مع منظمة التحرير بزعامة ياسر عرفات، أدركنا المتنفس الاستراتيجي الذي وفرته فصائل المقاومة الإسلامية الفلسطينية لإيران من أجل إنجاح مشروعها المضاد لمشروع عملية السلام.
حدد هذا التوجه منذ البداية المنطلقات التي جمعت بين إيران من جهة وبين فصائل المقاومة الإسلامية الفلسطينية (حماس والجهاد الإسلامي) من جهة أخرى، ارتكزت هذه المنطلقات على الاعتبارات السياسية والجيواستراتيجية بالمقام الأول، بينما لعبت الإيديولوجية الإسلامية الإطار النظري الذي ساهم بدوره في تقريب وجهات النظر بين الطرفين.
برزت المصلحة المشتركة كعامل محفز للتعاون على صعيد تحقيق هدف مشترك ألا هو تخريب عملية السلام، هذا بالرغم من كون الأهداف النهائية لكلا الفريقين كانت مختلفة، فبينما كان تحرير فلسطين بشكل كامل الهدف الاستراتيجي لفصائل المقاومة الفلسطينية، كان الهدف الاستراتيجي لإيران إعادة الاعتبار لوزنها الإقليمي في المنطقة.
على الصعيد العملي أخذت إيران ترفع من حدة انتقادها وتهديدها لإسرائيل، وبدأت بتقديم الدعم لفصائل المقاومة، وسارعت بعقد مؤتمر دولي لقوى الرفض في طهران تحت عنوان: “المؤتمر الدولي لدعم الثورة الإسلامية للشعب الفلسطيني” وذلك في الفترة من 19 ولغاية 22 أكتوبر من العام 1991 وحضره ما يقرب من 400 وفد من 60 دولة تقريبًا.
حاولت إيران بذلك أن تضع نفسها في مقام القيادة لمحور آخذ بالتشكل يهدف إلى مقاومة أهداف القوى الغربية الساعية لتذويب القضية الفلسطينية بمشاريع السلام، والشرق الأوسط الجديد، وقد نجحت إيران في ذلك إلى حد كبير حيث أصبحت عنوان المقاومة في المنطقة، واستطاعت أن تتجاوز الخطوط الطائفية لتشكل حالة عامة تضع المقاومة الإسلامية في مواجهة الإمبرالية الغربية.
وبذلك دخلت العلاقات بين إيران وبين إسرائيل طورًا جديدًا يتسم بالعداء وذلك بالتزامن مع المراجعة الاستراتيجية التي كانت تجريها تل أبيب لمكانتها الإقليمية وعقيدة تحالفاتها في المنطقة، علينا التذكير هنا أن إسرائيل وحتى ذلك الوقت (أي بداية تسعينات القرن العشرين) كان تسير وفق المسار الذي رسمه بن غورين منذ إنشاء دولة إسرائيل والذي يتخذ من “المبدأ المحيط” أساسًا له، آمن بن غورين أن تشكيل حلف محيطي من الدول الإقليمية غير العربية لاحتواء الدول العربية المعادية يشكل مصلحة عليا لأمن إسرائيل، وقد تشكل الحلف المحيط بالفعل من إثيوبيا وتركيا وإيران، حيث تحملت الأخيرة العبء الأكبر في هذا الحلف نظرًا لموقعها الاستراتيجي وإمكاناتها الهائلة.
مع بداية التسعينيات بدا أن المعطيات على الأرض قد تغيرت بشكل جذري وهو ما تطلب حينها من الاستراتيجيين الإسرائيليين مراجعة جذرية للمبدأ المحيط، فلم تعد الدول العربية تشكل تهديدًا وجوديًا على إسرائيل وذلك مع تخليهم عن الخيار العسكري وتبنيهم لخيار السلام، بالاضافة لاختفاء التهديد القادم من الجبهة الشرقية مع هزيمة القوات العراقية في حرب الخليج الثانية.
طرحت إسرائيل مبدأ “الشرق الأوسط الجديد” كبديل عن المبدأ المحيط، ويقوم المبدأ الجديد على تحويل إسرائيل إلى “هونغ كونغ الشرق الأوسط” من خلال جعلها القبلة الاقتصادية للمنطقة، ونقل الثقل الاستراتيجي لخطوط الملاحة من الخليج العربي إلى شرق المتوسط والبحر الأحمر، وقد تطلب هذا المبدأ شرطين أولهما عقد اتفاقيات سلام مع العرب وخصوصًا مع الفلسطينيين وذلك لتطبيع العلاقات وفتح أبواب الاستثمار والتصدير، وثانيهما شيطنة إيران وذلك من أجل تسهيل عملية التقارب مع العرب، فما دام العرب يرون في إيران العدو الأول فسوف يكون بمقدور إسرائيل فرض إرادتها عليهم.
أخذت استراتيجية إسرائيل لشيطنة إيران مسارين اثنين تمثل أولهما بالضغط الذي مارسته تل أبيب على إدارة الرئيس الأمريكي بيل كلينتون لتبني سياسة خشنة ضد طهران، وثانيهما تمثل بالحملة الإعلامية غير المسبوقة للترويج للخطر الذي باتت تمثله إيران ليس على أمن المنطقة وحسب بل على أمن العالم ككل وذلك بتطويرها لأسلحة الدمار الشامل.
وقد آتت الجهود الإسرائيلية ثمارها عندما تبنت إدارة الرئيس بيل كلينتون سياسة الاحتواء المزدوج والتي هدفت بالأساس لاحتواء كل من العراق وإيران، كما أثمرت جهود السلام إلى توقيع اتفاقيات سلام مع منظمة التحرير الفلسطينية في العام 1993 ومن ثم مع الأردن في العام 1994، وكان هناك حديث عن قرب عقد اتفاق مشابه مع سوريا حليف إيران الاستراتيجي، كان يبدو أن مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي تبنته حكومة رابين – بيرز قد بدأ فعلًا بالسير في المسار الذي رُسِمَ له.
أدانت إيران اتفاقيات السلام واعتبرتها “خيانة للشعب الفلسطيني”، وأخذت ترفع من مستوى دعمها لفصائل المقاومة الفلسطينية، فمع انتقال الانتفاضة من مرحلة الحجر إلى مرحلة العمليات العسكرية، كان لا بدَّ من الحصول على التدريب والتصنيع العسكري والتمويل وهو ما وفرته إيران، وقد ساهم الدعم الإيراني على المستوى العسكري من رفع كفاءه العمليات التي نفذتها فصائل المقاومة الفلسطينية ضد الأهداف الإسرائيلية الأمر الذي أعاد خلط الأوراق.
كانت للعمليات التي شنتها فصائل المقاومة الفلسطينية أثرًا واضحًا في دفع عملية السلام للخلف، ولكن الضربة القاسمة لمشروع السلام لم تكن من قوى الرفض الفلسطينية وإيران، بل كانت هذه المرة من قوى الرفض اليمينية اليهودية في إسرائيل، وذلك عندما أقدم يميني يهودي متطرف هو باروخ جولدشتاين على تنفيذ مجزرة الحرم الإبراهيمي في فبراير من العام 1994 والتي أشعلت موجة عنف شملت غالبية الأراضي الفلسطينية المحتلة، ومن ثم إقدام يميني يهودي آخر هو إيجال عامير على اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين الذي يعد “الأب الروحي” لمشروع السلام والشرق الأوسط الجديد.
عمليًا كانت القوى اليمينية الإسرائيلية هي صاحبة الفضل في تخريب مشروع السلام، وبذلك تكون قد قدمت – من حيث تعلم أو لا تعلم – خدمة لإيران التي كانت تسعى لتخريب ذات المشروع. أدى اغتيال رابين، واشتعال العنف في الأراضي الفلسطينية المحتلة إلى انتخاب حكومة يمينية جديدة برئاسة بنيامين نتنياهو خلفًا لحكومة رابين – بيرز، كان انتخاب نتنياهو التعبير الأوضح على توقف مشروع السلام.
لم يؤمن نتنياهو أبدًا بمشروع السلام كمصلحة استراتيجية لإسرائيل، حيث قاد حملته الانتخابية على مبدأ الأمن لا السلام، وقد قام بمراجعة شاملة لمسار إسرائيل الاستراتيجي الأمر الذي أفرز مقاربة جديدة كان لإيران نصيب منها، ولكن هذه المرة على عكس المتوقع، ما هذه المقاربة الجديدة؟ هذا ما سوف نتناوله في المقال القادم.