شهدت منطقة القصرين في الشمال الغربي التونسي يوم أمس يومًا داميًا عاش خلاله أبناء الجهة على وقع حادثين مؤلمين تمثل الأول في عملية أمنية للقضاء على عدد من العناصر الإرهابية المتحصنة بأحد المنازل بالجهة؛ مما أسفر عن مقتل إرهابيين والقبض على آخر واستشهاد شاب من أبناء الجهة وإصابة عون أمن، لتعيش المنطقة بعد هذه العملية الأمنية بساعات قليلة حادثًا مأساويًا تمثل في اصطدام شاحنة مجنونة من النوع الثقيل محملة بكمية من الأسمنت في مرحلة أولى بحافلة نقل ركاب مما أنجر عن هذا التصادم الاصطدام بعمود كهربائي أشعل سوق المدينة الأسبوعي وأسفر عن وفاة 16 مواطنًا وجرح 85 آخرين بالإضافة إلى احتراق عشرات السيارات التي كانت متواجدة بالمكان واحتراق مواطنين كانوا بداخلها.
ورغم هاتين الكارثتين اللتين عاشت على وقعهما الولاية في ساعات قليلة ورغم خسارتها لعدد من خيرة أبنائها، فإن ذلك مر مرور الكرام حيث لم تكلف السلطات في تونس نفسها وعلى رأسها رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي مجرد إعلان حالة الحداد الوطني وتنكيس الإعلام رغم أن ذلك كان أقل القرارات التي يمكن أن يعلن عنها أي رئيس دولة يحترم شعبه ويحترم أرواح مواطنيه، حتى من أجل أن يشعر سكان هذه الجهة المهشمة أنهم غير منسيين وهم من مثلوا أحد المناطق الأكثر سخونة ممن أشعلوا ثورة الحرية والكرامة، لكن يبدو أن سكان القصرين خرجوا في الثورة مطالبين بالعيش الكريم وها هم بعد ست سنوات من اندلاعها لم يضمنوا حتى موتًا كريمًا ولائقًا.
لم يكلف رئيس الدولة نفسه مجرد إعلان الحداد الوطني رغم أنه كان لزامًا عليه أن يتحول إلى القصرين وإلى مكان وقوع الحادث حتى يطلع بنفسه على معاناة سكان هذه الجهة وعن تفاصيل وقوع الحادث خصوصًا أن رئيس الجمهورية تحول منذ أيام قليلة لحضور سفر أول بعثة من الحجاج التونسيين إلى البقاع المقدسة وكذلك لحضور نهائي كأس تونس لكرة القدم، فكيف يمكن أن يحضر كل هذه الأحداث غير المهمة ويتغافل في ذات الوقت عن التحول للاطلاع على الوضع في القصرين بعد حادث مأساوي أسفر عن وفاة 16 شخصًا، وكيف يمكن أن يتغافل رئيس جمهورية عن التحول إلى منطقة لا تبعد سوى مئات الكيلومترات عن قصره الرئاسي في حين كان أول الوافدين على فرنسا حين وقوع أحداث باريس الإرهابية في نوفمبر 2015 رغم أنها تبعد عن قصره الرئاسي آلاف الكيلومترات.
وعلى غرار رئيس الجمهورية لم يتحول أيضًا رئيس حكومة الوحدة الوطنية الجديد يوسف الشاهد إلى القصرين رغم أنه كان بإمكانه أن يوجه رسالة بعد توليه السلطة بأيام بأن كل مناطق تونس مهمة بالنسبة إليه وبأن أرواح المواطنين غالية عنده لكنه أراد العمل على طريقة أسلافه منذ البداية وعدم الاهتمام بمآسي هذا الشعب وإيصال رسالة إلى أبناء القصرين أنه لا شيء تغير ولا سيتغير حتى بقدومه إلى السلطة، فمن لم يكلف نفسه مجرد التحول عند حصول الكارثة لا يمكن أن تنتظر منه شيئًا آخر ذا قيمة، بل اكتفى بإرسال وزراء الدفاع والنقل والصحة إلى مكان وقوع الحادث للاطلاع على الأوضاع الكارثية التي تعيشها هذه الجهة المظلومة وإطلاق الوعود المعتادة التي مل متساكنو القصرين من سماعها منذ سنوات.
وفي ظل كل هذا الخذلان الذي أصاب أبناء القصرين من السلطات التونسية كان على وسائل الإعلام في تونس أن تواصل في سقطاتها وتبعث بنفس الرسالة المسمومة إلى سكان الجهة، ففي حين كانت وكالات الأنباء العالمية تواكب لحظة بلحظة أحداث العملية الأمنية بالقصرين في الساعات المبكرة من صباح الأربعاء كانت وسائل الإعلام التونسية مهتمة بإعادة بث برامجها العادية دون أدنى إشارة إلى العملية الأمنية ولا إلى استشهاد فتى لم ير من هذه الحياة شيئًا، وحتى تكتمل المصيبة لم تغير القنوات والإذاعات التونسية من برمجتها شيئًا رغم وقوع الحادث الأليم والذي أودى بحياة 16 تونسيًا، فواصلت بث الأغاني والبرامج الترفيهية دون أدنى احترام لأرواح المواطنين الذي لم يمض على وفاتهم بضع ساعات، حيث اكتفت وسائلنا الإعلامية ببث هذه الأخبار بصفة عادية كأنها تقع يوميًا والعودة مباشرة بعد ذلك إلى برامجها المعتادة.
ولعل جهة القصرين وهي إحدى أكثر الجهات التونسية تهميشًا حيث ترتفع نسب البطالة وتغيب التنمية وترتفع نسب الفقر لم تنتظر شيئًا من رئيس الجمهورية ومن رئيس الحكومة ولا من الإعلام التونسي، فقد تعودت الجحود والنكران من الحكومات المتعاقبة قبل وبعد الثورة، رغم أن سكانها انتظروا بعد الثورة أن تلتفت الدولة إليهم على الأقل نظرًا لتلك التضحيات الكبيرة التي قدموها من أجل صالح هذا الوطن ومن أجل إشعال الثورة التي حررت كل التونسيين من حكم الرئيس السابق.
لكن الغريب أن تتحالف ضدها كل الظروف من الدولة إلى الجغرافيا حيث تتمركز هذه الولاية على الحدود التونسية الجزائرية أين أصبحت الجبال القريبة منها مرتعًا للإرهابيين وللجماعات الإرهابية، وذلك ما زاد من معاناة سكان الجهة من ويلات المواجهات بين القوات الأمنية والعسكرية وهذه الجماعات، بالإضافة إلى تعمد الإرهابيين اقتحام منازل المواطنين لافتكاك المؤونة منهم وكذلك اختطاف كل من يقترب من الجبال التي يتمركزون بها والتي كانت مصدر عيش للعديد من سكان الجهة، فضلاً عن الظروف الطبيعية والمناخية الصعبة التي تمتاز بها هذه الجهة وكذلك التوتر على الحدود التونسية الجزائرية مما تسبب في تعقيد الحركة التجارية بين البلدين والتي كانت تمثل متنفسًا للسكان.
ويمكن الإقرار أن جهة القصرين أصبحت اليوم جهة منكوبة حيث تحالفت كل الظروف والأقدار ضدها في ظل غياب تام للدولة التونسية التي لم تلتفت إلى هذه الولاية المناضلة منذ أكثر من 60 سنة ولم تترك خيارًا لأبنائها غير حياة أليمة أو موت شنيع.