“إصلاح الجهاز الإداري للدولة ليكون في صدارة إعادة بناء الدولة المصرية، وذلك من خلال تطويره وتحديثه بشكل مستدام ليكون قادرًا على تطبيق الخطط التنموية وخدمة المواطنين وتعزيز ثقتهم فيه، وذلك على أسس الشفافية والنزاهة والكفاءة وحكم القانون والمساءلة والمحاسبة”.
الكلمات السابقة هي رسالة وزارة التخطيط والمتابعة والإصلاح الإداري (التنمية الادارية) في مصر، أو بالأحرى وظيفتها التي يجب أن تؤديها، لكن من الواضح أن هناك تغير ما يحدث داخل الوزارة، فقد اعترف الدكتور أشرف العربي وزير التخطيط، أن الفساد في مصر مؤسسي، وأن الدولة لا تمتلك أي خطة أو استراتجية لمكافحته!
قد تتعجب أن تخرج كلمات كهذه من وزير ما، ولكن الأعجب أن يتفوه بها الوزير المنوط في الأساس بخطط إصلاح الجهاز الإداري لمحاربة الفساد، الأمر الذي يكشف حقيقة ما تعيشه الدولة المصرية تحت إدارة المجموعة الاقتصادية الحالية التي لا تعرف حتى الآن ما تفعل ولا ما الذي يجب أن تفعله.
لكن السؤال هو: ما الفساد المؤسسي الذي يقصده الوزير؟! ربما نحتاج لدراسات وأبحاث كثيرة لنثبت أن الفساد في دولة ما مؤسسي، ولكن إثبات ذلك في مصر أمر في غاية البساطة، فلا نحتاج سوى متابعة مسار حدثين فقط لا أكثر وهما قضية فساد القمح القديمة الحديثة، وقضايا الفساد الذي كشف عنها المستشار هشام جنينة.
“شبكة الفساد في هذه البلاد، أكبر من شبكة الصرف الصحي”، جلال عامر.
بالفعل لم تتأثر شبكة الفساد في مصر بأي أحداث سواء ثورة يناير أو أحداث 30-6، بل إن هذه الشبكة تواصل التوسع وتحصد الأرباح بدون توقف وبكل سلاسة، فهذه الشبكة تمتلك أقوى المؤسسات وهي فوق مؤسسات الدولة، ونجاح الفساد المؤسسي في مصر ليس من فراغ، ولذلك لأن وزراء هذه البلاد يقتصر عملهم على حماية الفساد سواء بقصد أو بدون قصد، ولعل كلمات العربي خير دليل على ذلك.
ذكرت أن الطريق المختصر لفهم الفساد المؤسسي لا يحتاج منك سوى معرفة ملامح ملف فساد القمح، وملف قضية المستشار هشام جنينة، وسأحاول تناول ملامح بسيطة حول هذين الملفين:
ماذا حدث بملف القمح؟!
منذ صغري وأنا أسمع بالفساد داخل منظومة القمح سواء زراعة أو استيراد أو حتى دعمه كرغيف خبز، وهذا أمر يعلمه الصغير قبل الكبير في هذا البلد، ورغم كل ذلك لم نجد أي تحرك حكومي يذكر للقضاء على هذه الظاهرة، فمصر – أكبر مستورد للقمح في العالم – هي صاحبة أكبر منظومة قمح فاسدة في العالم، ولا يوجد أي مبرر لهذا الفساد سوى أن هناك مؤسسة قوية ترعى هذا الفساد، ولا شك أن جميع الحكومات التي تولت المسؤولية في مصر في العقود الأخيرة تشارك في هذه الجريمة، سواء بمساندة هذه المؤسسة أو السكوت عنها.
وبعيدًا عن البُعد التاريخي لهذا الملف، ففساد هذا العام بدأ بداية درامية بعض الشيء سواء بالشون الترابية أو بالرقم الضخم الذي أعلنت عنه الحكومة بخصوص ما تم توريده، ولن نسرد تفاصيل الملف، ولكن يكفي الحديث عما خلص إليه تقرير اللجنة البرلمانية لتقصي الحقائق في الفساد بقطاع القمح، الذي أتهم الحكومة بإهدار المال العام والمشاركة في فساد القمح.
التقرير قال إن جهات حكومية تجاهلت مرافقها التخزينية لصالح مواقع تابعة للقطاع الخاص تخضع لرقابة أقل وأبرمت عقودًا مع “جهات وهمية” وأشرفت على إصلاحات معيبة أدت إلى زيادة الإنفاق على دعم القمح بدلاً من خفضه كما هو معلن، إذن تقرير البرلمان يكشف عن دور مؤسسة الفساد في إدارة الملف.
وبحسب الأرقام المعلنة فإن حوالي 5 ملايين طن من القمح، قالت الحكومة إنها اشترتها من محصول العام الحالي وغير موجودة إلا على الورق بسبب قيام الموردين بتزوير الإيصالات لتقاضي مزيد من المدفوعات الحكومية، وهو ما حدث بالفعل ولن نخوض أكثر في هذه القضية ولكن ما تم كشفه حتى الآن يظهر ضخامة وقوة الفساد المؤسسي في مصر.
المستشار هشام جنينة وقنبلة الفساد
يقول الكاتب الصحفي فهمي هويدي: “أزعم أن كل من يسكت عن المعلومات الخطيرة التي كشف عنها المستشار هشام جنينة في حديثه عن الفساد في مصر يصبح ضالعًا في الفساد ومتواطئًا معه”.
كلمات هويدي التي اتفق معه تمامًا فيها لم تحدث فقط، بل لم تكتف المؤسسات في البلاد بالسكوت عن معلومات جنينة فقط، ولكن حدثت ثورة عارمة ضد الرجل انتهت إلى أن جنينة أصبح هو المتهم ومؤسسات الفساد صاحبة الحق، وهذا الأمر يكشف مدى قوة الفساد المؤسسي في مصر، وكل هذا تحت علم الحكومة كما كشف وزير التخطيط أشرف العربي.
الغريب فيما كشف عنه جنينة هو أنه قال في تقريره إن فكرة فتح ملف الفساد وتحديد حجمه هى بالأساس مشروع لوزارة التخطيط – الذي أعترف وزيرها بالفساد المؤسسي -، وأوضح أن قيمة الفساد في مصر في السنة الواحدة تقدر بنحو 247.7 مليار جنيه.
جنينة قال إن الدراسات المتعلقة بالفساد التي أرسلت نتائجها إلى رئاسة الجمهورية ورئيس الحكومة ووزير التخطيط، لم يتم التعقيب عليها ولا أحد يعرف لماذا، لكن الإجابة واضحة فشبكة الفساد المؤسسي في مصر أقوى من كل أجهزة الدولة، بل إن الأدهى من ذلك هو أن أجهزة الدولة تتطوع لخدمة هذه الشبكة لنيل رضاها.
بحر الفساد في مصر واسع جدًا ومناقشة صوره تحتاج لمجلدات لحصرها، لكن هذا المقال فقط لتوضيح أن الحصة الأكبر من الفساد في مصر مؤسسية، وللقضاء على هذا الفساد سنحتاج لإعادة هيكلة الكثير من قطاعات الدولة – إن لم يكن جميعها – وليس محاربة الفساد بها، فسواء القطاع العقاري أو هيئة المجتمعات العمرانية وهيئة التنمية السياحية وهيئة التنمية الصناعية والزراعية والصناديق الخاصة في الوزارات والمحليات… إلخ، كل تلك القطاعات يتمدد بها الفساد بسرعة كارثية، وبما أن الدكتور أشرف العربي، قال إن الدولة لا تمتلك أي خطة أو استراتجية لمكافحته، فعلينا أن ننتظر مزيد من التمدد ومزيد من غرق البلاد في مستنقع الفساد.