بعد السياسة والاقتصاد، انتقل الصراع بين الجزائر والمغرب، مؤخرًا، إلى الفن، حيث تدور “حربًا باردة بين الدولتين في ظل سعي كل دولة إلى تصنيف موسيقى “الراي” موروثًا غنائيًا شعبيًا خاصًا به لدى الهيئات الدولية المختصة.
وتخوض الجزائر والمغرب المساعي لدى “اليونسكو” لنسب أهلية هذا النوع من الغناء الذي يلاقي رواجًا كبيرًا في البلدين وتصنيفه كتراث إنساني لا مادي ضمن الثقافة المحلية لكل بلد.
الجزائر تقدم طلب رسمي إلى اليونسكو
الجزائر أعلنت، مطلع هذا الأسبوع، تقدمها بطلب رسمي إلى منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة “اليونسكو”، لتصنيف الراي موروثًا غنائيًا جزائريًا، وقال وزير الثقافة الجزائري عز الدين ميهوبي، إنه من حق أي جزائري أن يغار على موروثه الثقافي، مشيرًا إلى أنه جرى تقديم الطلب لدى المنظمة من أجل الحفاظ عليه وحمايته من السطو أو التحريف.
وموسيقى الراي هي حركة موسيقية غنائية نشأت في الستينات بالغرب الجزائري، تعود أصولها إلى شيوخ شعر الملحون، وهو الفن الغنائي الذي يعتمد على لهجة عامية قريبة من العربية الفصحى، وتأخذ جل مواضيعها من المديح الديني والـمشاكل الاجتماعية وركزت اهتمامها إبان فترة الاستعمار الفرنسي على سرد مآسي السكان.
لكن بعد أن استقلت الجزائر لم يعد للمواضيع السابقة مستمعون، فتغنى فنانو راي الشباب، بمغامرات الحب والغرام وكل ما يحلـم به الشباب مثل الهجرة والعمل والوطن، وفي تسعينات القرن الماضي خرج الراي من محليته ليغزو بلدان شمال إفريقيا مثل تونس وليبيا والمغرب وينتشر حتى في أوروبا مع نصرو والشاب حسني والشاب خالد.
ومن أشهر ما جادت به الساحة الجزائرية من نجوم الراي، هناك المرحوم الشاب حسني الذي اغتيل عام 1994 على أيادي إسلاميين، والشاب نصرو الذي يعيش في الولايات المتحدة الأمريكية منذ زمن، والشاب خالد الذي نال شهرة واسعة في السنوات الأخيرة، والشاب بلال، معشوق الجماهير المغربية، بالإضافة إلى أسماء نسائية على رأسها رائدة الراي الشابة الزهوانية والشابة خيرة، وتعود أصول الأغنية الرايوية إلى شيوخ الأغنية البدوية الجزائرية والتي يعتبر من روادها الشيخ حمادة وعبد القادر الخالدي.
تأتي الخطوة الجزائرية، بعدما تقدمت وزارة الثقافة المغربية بملف لدى اليونسكو لتصنيف “أغنية الراي تراثًا إنسانيًا لا ماديًا”
المسؤول الجزائري، أكّد، أن بلاده ستعتمد مستقبلاً سياسة، تقوم على وضع “خارطة ثقافية وطنية واستراتيجية إعلامية لحماية التراث داخليًا وخارجيًا، مع منع أي محاولات للسطو على التراث الجزائري.”
الشاب حسني
وتأتي الخطوة الجزائرية، بعدما تقدمت وزارة الثقافة المغربية بملف لدى اليونسكو لتصنيف “أغنية الراي تراثًا إنسانيًا لا ماديًا”، وبعد حصول عدد من مغنيي الراي الجزائريين على الجنسية المغربية، وإشادة العديد منهم بالمغرب والملك محمد السادس.
من جهته، كشف سليمان حاشي، مدير المركز الوطني للبحث فيما قبل التاريخ، الإنتروبولوجيا والتاريخ، أن الجزائر أودعت ثلاثة ملفات للتصنيف ضمن التراث الإنساني العالمي، ويتعلق الأمر بـ “التقطار” (صناعة ماء الورد وماء الزهر)، “كيالين الماء” (التسيير التقليدي للماء في الجنوب)، وأغنية الراي التي تتطلع الجزائر لتصنيفها كغناء شعبي جزائري.
أثار تجنّس فناني “راي” جزائريين بالجنسية المغربية جدلاً واسعًا في البلاد بعد تغنيهما بالملك المغربي محمد السادس وإشادتهما به
ويتهم جزائريون فناني المغرب بسرقة أغانٍ جزائرية وتقديمها كتراث محلي، ونشر غاضبون من الفنان المغربي سعد لمجرد، فيديوهات، تؤكد أداء المجرد لأغاني جزائرية في حفلاته ونسبها إلى نفسه وبلده المغرب، مثل أغنية “الشمعة” التي تؤرخ لفترة الإرهاب الدامية التي عاشتها الجزائر وتعبر عن جراح عاشها الفنان الراحل مسعودي خلال سنين الجمر والدموع.
وأثار تجنّس فناني “راي” جزائريين بالجنسية المغربية جدلاً واسعًا في البلاد بعد تغنيهما بالملك المغربي محمد السادس وإشادتهما به، ما اعتبرته أوساط جزائرية مسعى رسمي من المغرب لتجنيد مشاهير الفن الجزائري بقصد تصنيفه لدى اليونسكو كلون تراثي مغربي.
المغرب يحاول نسب الراي لنفسه
المغرب، أيضًا، يسعى لنسب فن الراي لنفسه، حيث سبق الجزائر، وقدمت وزارة ثقافته مطلع هذا العام، ملفًّا لـ “اليونسكو” لتصنيف أغنية الراي تراثًا إنسانيًا لا ماديًا مغربيًا، وهي خطوة رأى فيها مهتمّون بموسيقى الراي “محاولة لتوظيف الراي لتسيير مغاربيي المهجر الفرنسي”، ويُنظّم المغرب كلّ سنة مهرجانًا للراي في وجدة القريبة من الحدود مع الجزائر، وقد وصل هذا العام إلى دورته العاشرة.
يرفض باحثون أكاديميون هذا الصراع، حيث يقولون إن فن الراي لا ينتمي لأية دولة أو جهة
كان المغرب قد شهد خلال عقد التسعينات وبداية الألفية الكثير من الأسماء التي بزغت في فن الراي، على رأسهم الشاب ميمون الوجدي الذي استمد إيقاعات العديد من أغانيه من فن “الركادة” الذي تشتهر به المنطقة الشرقية للمغرب، بالإضافة إلى الشاب كمال ورشيد برياح والإخوان بوشناق وهند حنوني الملقبة بالداودية، والتي انتقلت مؤخرًا إلى غناء ما يعرف بـ”فن الشعبي”، وغيرهم، ولكن هؤلاء الفنانين المغاربة لم تتجاوز شهرتهم نطاقًا ضيقًا، على عكس الشاب خالد والشاب مامي الذين بلغا درجة عالية من العالمية.
في مقابل ذلك، يرفض باحثون أكاديميون هذا الصراع، حيث يقولون إن فن الراي لا ينتمي لأية دولة أو جهة، وأجمعوا، خلال ملتقى دولي نظم في وقت سابق بمدينة وجدة المغربية، أن “فن الراي يعتبر من الإبداعات التي تميز الجهة الشرقية والغرب الجزائري، ويشكل امتدادًا لثقافة سائدة في المنطقة الجغرافية ما بين البلدين”، معتبرين أن هذا “الصراع” يخفي أشياءً أخرى أكثر أهمية لها علاقة بالسياسة.
المهرجان الدولي للراي بمدينة وجدة المغربية
وسبق لأستاذ في كلية الأداب بمدينة وجدة المغربية، بلقاسم الجطاري، أن أشار في وقت سابق إلى أن فن الراي لا ينتمي إلى بيئة بعينها، بل “هو امتداد لثقافة شعبية كان يؤمن بها في المجتمعات المغاربية سواء في منطقة الجزائر أو الريف، خاصة أنه ليس هناك معايير لانتماء نمط غنائي لمنطقة معيّنة”.
مواضيع فن الراي
يركز فن الراي على عديد من المواضيع، حسب الفترة الزمانية، فركز خلال فترة الاستعمار الفرنسي على توعية الناس من خلال سرد مآسي السكان مع مصاعب الحياة في تلك الفترة.
أما الأن فيعالج مشاكل الشباب المعاصر ومعاناتهم، حتى بات الطابع الطاغي على أغاني الراي هو الحزن والألم والمرارة، ويتم التعبير عن الألم دائمًا داخل ثنائيته مع الأمل، والحلم بغدٍ أفضل، ففن الراي يتحدث عن الغبن الذي يعانيه الشباب، كالفشل العاطفي بسبب الفقر والبطالة، والاصطدام بالواقع المرير، والرغبة في الهجرة وغيرها من المشاكل.
نتيجة المواضيع التي يعالجها، أصبح الراي منتشرًا في كامل دول شمال إفريقيا، وخصوصًا المغرب والجزائر وتونس، كما أصبح مسموعًا في جميع دول أورةبا، خصوصا فرنسا حيث توجد نسبة عالية من المهاجرين المغاربيين، واستطاع فنانو الراي أن يقيموا حفلاتهم في جل عواصم الفن العالمية.