كما تعرف الأشياء بأسمائها ومسمياتها، تعرف الرياضات بأبطالها وأساطيرها، فإذا ذكرت كرة القدم ذكرت معها مارادونا وبيليه، وإذا ذكرت الملاكمة ذكرت معها أسطورتها محمد علي كلاي، وإذا ذكرت السباحة ذكرت معها أسطورتها مايكل فيلبس، وهكذا الأمر بالنسبة لألعاب القوى ولا سيما رياضة العدو، التي أصبح ذكرها مقترنًا بذكر الأسطورة أوسين بولت.
فما الذي فعله العداء الجامايكي الملقب بـ (البرق) ليتحول في غضون 14 عامًا إلى أسطورة محت كل من سبقها في مجال السرعة؟ وما أبرز المحطات التي مر بها قطار حياته قبل أن يصل إلى هذا المجد؟ وكيف ساهم أهله ومدربوه في رعاية موهبته وصقلها وتوجيهها بالشكل الأمثل لتينع ثمارًا ذهبيةً لا مثيل لها؟
ولد أوسين سانت ليو بولت يوم 21 أغسطس 1986، في بلدة شيروود التابعة لمدينة تريلاوني في جزيرة جامايكا الكاريبية، لأسرة متوسطة الحال، يقتات أفرادها الـ 5 من متجر بقالة متواضع يمتلكه الأب (ويلسلي) داخل البلدة، فيما تكتفي الأم (جينيفر) بالإشراف على رعاية الأطفال الـ 3: شارين وساديكي وأوسين، الذين – وإن لم ينعموا بطفولة رغيدة مترفة – ولكنهم حظوا بقدر كاف من الرعاية والتعليم، حيث تلقوا تعليمهم الابتدائي في مدرسة (والدينسيا)، التي كانت باحاتها وصالاتها شاهدةً على خطوات أوسين الأولى في عالم الرياضة، فقد كان علَمًا من أعلام طلاب مدرسته، ليس بسبب تفوقه العلمي والأدبي، بل نتيجة تفوقه في حصص التربية البدنية، التي اعتاد الطفل أوسين على إمتاع وإبهار كل من في المدرسة بأدائه العالي وسرعته الهائلة في جميع الألعاب الرياضية، ولا سيما في لعبة الكريكيت التي يعشقها، لدرجة جعلت مدرسيه وزملاءه يطلقون عليه لقب (البرق بولت)، الذي رافقه طيلة حياته.
وبعد إنهائه المرحلة الابتدائية، نصح أساتذة أوسين أهله بأن يلحقوه بثانوية (وليام نيبال) ذات التاريخ الحافل بإعداد الأبطال الرياضيين، نظرًا لما تمتلكه من كوادر رياضية مختصة قادرة على العناية بموهبة أوسين وصقلها، ليتابع الطفل الموهوب نشاطه الرياضي تحت أنظار عدة مدربين مختصين، كلاعب كرة القدم الأمريكية السابق دوايت جاريت، والعداء السابق بابلو ماكنيل، الذين لاحظا بعينهما الخبيرة سرعة أوسين الفائقة وبنيته الجسمانية المتناسقة التي تساعده على العدو، فنصحاه بهجر ملاعب الكريكيت، وتركيز نشاطه على رياضة العدو، التي تنبآ له فيها بإنجازات كبيرة، على غرار العداء السابق مايكل غرين الذي كان أحد تلامذتهم في الثانوية ذاتها.
وأخذ أوسين بالنصيحة الذهبية، وتفرغ لرياضة العدو تفرغًا كاملًا، وركز جميع طاقاته فيها، فإذا به يقطف ثمار حسن اختياره سريعًا! إذ تمكن عام 2001 من إحراز المركز الأول على مستوى ثانويات جامايكا في سباق ال200م، والمركز الثاني في سباق ال100م، ليقرر مدربه بابلو ماكنيل المضي به قدمًا لتمثيل بلاده جامايكا في بطولة العالم للناشئين، التي أقيمت عام 2001 في المجر، حيث لم يستطع إحراز أية ميداليات نتيجة خوفه وقلة خبرته، التي عالجها ماكنيل من خلال الزج به في العديد من البطولات والملتقيات، سواءً على المستوى المحلي أو على مستوى منطقة الكاريبي، فتعززت ثقته بنفسه، وأصبح يمتلك خبرةً لا بأس بها، نمت على مدار عام كامل، ليأتي الموعد المنتظر في بطولة العالم للناشئين التي استضافتها بلاده عام 2002، واستطاع من خلالها تحقيق أولى ميدالياته العالمية، من خلال حصد ذهبية سباق 200م، إضافةً إلى فضيتين مع منتخب بلاده في سباقات التتابع، وأعاد الكرة في بطولة العالم للشبان عام 2003، حين فاز بذهبية سباق 200م، ليلفت حينها أنظار العالم إليه باعتباره الخليفة المنتظر لأسطورة سباقات السرعة العالمية الأمريكي مايكل جونسون.
ولم يطق أوسين بولت صبرًا ليثبت جدارته ضمن بطولات الكبار بعد تفوقه في بطولات الفئات السنية، فانخرط في معسكر تدريبي مطول تحت قيادة مدرب متخب بلاده فايتس كولمان، استعدادًا للمشاركة في أوليمبياد أثينا عام 2004، حيث كان ابن الـ 19 عامًا هو أصغر من يمثل بلاده في المحفل الدولي، حين شارك ضمن سباق 200م، ولكن إصابةً مفاجئةً في ساقه تسببت في إقصائه من المراحل التصفوية، ليتأجل حلمه الأوليمبي 4 أعوام كاملة، ويتابع البطل الناشئ بحثه عن ضالته من خلال المشاركة في بطولة العالم لألعاب القوى عام 2005 في هلسنكي، حيث استطاع التأهل إلى السباق النهائي لمسافة 200م، قبل أن تعاوده الإصابة اللعينة وتؤجل أحلامه حتى حين.
عام 2006، كان مفصليًا في حياة بولت، فقد كان عليه التعافي خلاله من آثار 3 صدمات قاسية، أولاها إصابة الساق المديدة، وثانيتها خيبة أمله في بطولة العالم والأوليمبياد، وثالثها آثار حادث سير تعرض له أواخر العام السابق، تسبب في بعض الجروح والكدمات في وجهه، مما أدى لابتعاده عن التدريبات وأجواء البطولات بضعة أشهر، عاد بعدها تدريجيًا للمشاركة في عدة بطولات وملتقيات أهمها كأس العالم لألعاب القوى باليونان، التي خرج منها بميدالية فضية في سباق الـ 200م، وسجل رقمًا ممتازًا جعله أحد أبرز المرشحين لإحراز الميداليات في بطولة العالم عام 2007 بأوساكا، حيث كان على حجم التوقعات، واستطاع إحراز فضية سباق 200م خلف بطل العالم الأمريكي تايسون جاي، كما أحرز فضيةً أخرى مع منتخب بلاده في سباق التتابع.
ومع مطلع العام التالي، اتخذ أوسين بولت قراره بالمشاركة ضمن سباقات مسافة 100م، إضافةً لاختصاصه الرئيسي في سباقات 200م، حيث حضر نفسه جيدًا للاستحقاق القادم والذي يمثل حلمه المؤجل، ألا وهو أوليمبياد بكين 2008، الذي كان شاهدًا على تسطير ملاحمه الخالدة، من خلال إحرازه 3 ذهبيات أوليمبية، وتحطيمه رقمين قياسيين عالميين في سباقي 100 و200م، حيث قطع مسافة السباق الأول في 9 ثوان و69 جزءًا بالمئة من الثانية محطمًا رقم مواطنه أسافا باول، فيما قطع مسافة السباق الثاني في 19 ثانيةً و30 جزءًا بالمئة من الثانية محطمًا رقم الأسطورة مايكل جونسون، ليتربع البطل الجامايكي على عرش سباقات السرعة في العالم منذ ذلك التاريخ، ويكرس هيمنته المطلقة على سباقي 100 و200م من خلال فوزه بذهبيتي بطولة العالم ببرلين عام 2009 إضافةً إلى ذهبية ثالثة مع منتخبه في سباق التتابع، مع تسجيله رقمين قياسيين عالميين لا يزالا عصيين على الكسر حتى اليوم، قوامهما: 58. 9 ثانيةً في سباق الـ 100م، و19.19 ثانيةً في سباق الـ 200م.
وتابع البطل الأسطوري مشواره التصاعدي، فحقق ذهبيتين جديدتين في بطولة العالم بدايجو عام 2011، قبل أن يتفوق على نفسه في أوليمبياد لندن عام 2012، ويحطم رقمًا قياسيًا أوليمبيًا جديدًا في طريقه للفوز بذهبية سباق 100م، التي أضافها إلى ذهبيتي سباقي 200م والتتابع، ليرفع رصيده من الذهبيات الأوليمبية إلى الرقم 6، الذي جعله جديرًا بلقب (الأسطورة) الذي أطلقه على نفسه! والذي تعزز مع فوزه بـ 6 ذهبيات جديدة في بطولتي العالم عامي 2013 و2015، الذين طبع فيهما سباقات: 100م و200م والتتابع بطابعه الخاص، ليرفع رصيده من الميداليات العالمية إلى 13، بواقع 11 ذهبيةً وفضيتين، توجته بلقب الرياضي الأنجح في بطولات العالم لألعاب القوى عبر تاريخها!
وحافظ بولت على شغف التفوق ونهم البطولات رغم أعوامه الـ 30، فخاض غمار أوليمبياد ريو الماضي بحماس الشاب ذي الـ 20 عامًا، ليحقق ما بدا مستحيلًا عبر العقود الماضية، بحفاظه على ثلاثيته الذهبية التاريخية في سباقات الـ 100م و200م والتتابع، للأولمبياد الثالث على التوالي! ليرفع غلته الأوليمبية من الميداليات الذهبية إلى 9، ويثبت بما لا يدع مجالًا للشك بأنه أعظم عداء عرفه التاريخ الأوليمبي والعالمي، كما أنه أسرع إنسان على وجه المعمورة حتى إشعار آخر.