ربما سأكون الشخص الأول الذي تسمع منه في حياتك أنه استمتع بثلاث ساعات من الانتظار الطويل في أحد المطارات منتظرًا وصوله لمنطقة ختم الجوازات، ليعبر متابعًا يومه في تلك البلد الغريب التي سافر إليها، ربما يتململ البعض من فكرة الانتظار نفسها، حتى ولو كان أمامك في الطابور بضعة أشخاص لا يتجاوزون في العدد أصابع اليد الواحدة، أو من الانتظار للوصول إلى الموظف في البنك، رغم أنك تعرف رقمك المخصص إليك، ومتى ستصل إلى نافذة الموظف تقريبًا، وأنت تنتظر جالسًا وليس في طابور يتحرك ببطء، فما بالك بنزولك في مطار معين، تتوقع أنه كالعادة سيكون هناك بضعة طائرات وصلت في نفس الوقت، ولأن المطار ضخم، والموظفين كُثر، لن يستغرق الانتظار الكثير، ساعة من الانتظار هو المتوسط في أغلب الأحيان، إذًا لننتظر تلك الساعة بصبر.
دخلت المطار كالعادة بعد انتهاء إجازتي الصيفية وعودتي لاستكمال عام الدراسة الجديد والرابع لي من مدة برنامج الدراسة الذي أتى بي إلى تركيا، كان المطار هادئًا كالعادة، كانت الأروقة خالية تقريبًا في الطريق المؤدي لمنطقة ختم الجوازات، وعندما وصلت إليها توقفت مكاني لأستوعب جيدًا ما رأيت، لقد كان الكل هنا حرفيًا، أكاد أجزم أن تكون هناك طائرة من أغلب بلاد العالم قد هبطت في نفس الوقت في مطار إسطنبول، لقد امتلأت كل الصفوف المؤدية لمنطقة ختم الجوازات كليًا بشكل مُكدس، ليبدأ الناس في تكوين صفوف خارج الصفوف، كما أن أول صف يجب على الواصل الجديد الوقوف فيه لا يُرى من على مد البصر، عجبًا، هل الكل يريد أن يعيش ويقوم بتجربة الانقلابات العسكرية بشكل مباشر؟
لقد مر حينها على محاولة الانقلاب الفاشل في تركيا أسبوعان فقط، وكل ما كان في مخيلتي، أن السياحة ستنهار مؤقتًا بالنسبة لتركيا، وكانت كل توقعاتي منصبة حول أن المطار سيكون خاليًا تمامًا، إلا من هم في مهمة لتركيا مثل العمل أو الدراسة إلى آخره، إلا أن الواقع كان مختلفًا تمامًا عن كل ما تخيلته، فكانت إسطنبول، والكل كان في إسطنبول.
مشيت خمس عشرة دقيقة تقريبًا حتى وجدت نهاية الصف الذي شكّله المسافرون خارج الصفوف الأصلية المؤدية لمنطقة ختم الجوازات، ليقول لي أحدهم بإنجليزية ركيكة إن هذا ليس الصف الأخير، وإن الصف الأخير مازال في الخلف، لأجد في الخلف مجموعة من الصفوف المتناثرة، لا تعرف إن كانت صفًا واحدًا أو ثلاثة مجتمعة، ولا عجب، لقد كان أغلب من في تلك الدائرة غير المفهمومة الشكل من الطائرة المصرية التي هبطت من عليها، فهي عادة سيئة فينا نحن المصريين، نحن لا نستطيع ضبط الصف، إن كنت تفهم ما أعنيه.
حاولت أن أجد طريقي لأقف في صف معين من بين الثلاثة الآخريين، وخلفي امرأة من إندونيسيا هي وطفلتها، وهما من كانا رفيقاتي في أغلب طريقي وصولًا لختم الجوازات، أو كما أحب أن أسميها، في رحلتي حتى العبور إلى الجهة الآخرى.
قضينا ساعة من الانتظار تقريبًا في ذلك الصف الخارجي، ليس لي قابلية للدخول على الإنترنت، ومنهكة لأقرأ كتابي الذي أحمله في حقيبتي، ولا أرغب في القضاء على بطارية هاتفي في الاستماع للموسيقى، فيبدو أن الأمر سيطول كثيرًا هنا، الكل متكدس في الصف، كما أنني لا أعتقد أن أجهزة التهوية في المطار قادرة على العمل لتزويد كل تلك الأعداد من البشر بالهواء النقي، الحرارة ترتفع هنا، والكل تغلب على وجهه قطرات العرق، ولم يكن أمامي غير حل واحد حينها، وهو مراقبة الناس.
أعلم أنك ستقول إن من راقب الناس مات همًا، ويقول ناجي العلي الرسام الفلسطيني بأن من راقب الأنظمة هو من يموت همًا، سأتفق مع ناجي أكثر منك، وأقول إن مراقبة الناس لن تميتني همًا، ليس أكثر من مراقبة الأنظمة على الأقل، إذًا فالنتيجة كانت مراقبة الناس.
بدأت الرحلة فعليًا عندما وصلت للصفوف التي يخصصها المطار بألواح زجاجية شفافة في تصميم حلزوني، فهو تصميم مريح يتيح لك الشعور بعدم الملل كثيرًا لأنك لست في خط مستقيم، يكون كل ما تحدق فيه هو رأس المسافر الذي أمامك، لذا أتاح ذلك التصميم رؤية مختلف البشر كل مرة استطعت فيها أن أنهي صفًا بعدما يمر من أمامي الناس ببطء شديد، أسمع لغات مختلفة من كل الجهات، من أمامي يتحدث الهندية، ومن خلفي يتحدث العربية، ومن جواري من الرفيقتان الإندونسيتان يتحدثان مزيجًا من الإنجليزية ومزيجًا من لغتهم الأصلية التي لم يتسن لي التعرف عليها، ثم يعودون لتحدث الإنجليزية معي.
لا تتخيل أننا ننهي الصف بتلك السرعة، فمن الممكن أن يطول الأمر لعشرين دقيقة في الصف الواحد في ذلك الوقت، لذا بدأت مهمتي في مراقبة كل من حولي، ألا ترى أنها فرصة عظيمة؟ كل البشر من كل الأجناس حولي وفي نفس المكان، لا أعلم عنك ولكنني رأيتها فرصة ذهبية بالتأكيد.
مر ذلك الرجل الذي يبدو بوضوح أنه ألماني الجنسية وبجواره تلك السيدة البسيطة التي يبدو من ملامحها أنها من الأكراد الأتراك، حاولت التركيز معهما لعدة دقائق لأجد أن كلاهما يتحدث الألمانية بالفعل وبطلاقة، وعلى الرغم أن ذلك كان متوقعًا من الرجل بالنسبة إلي، إلا أن السيدة من الواضح أنها واحدة من الأتراك الذين هاجروا ونشأوا في ألمانيا، فكانت تتحدث الألمانية ببراعة، وعلى الرغم من أن مظهر الرجل يشير إلى أنه ألماني بحت، ناصع البياض، أشقر الشعر، وأزرق العينين، أما هي فكانت شديدة الالتزام في ملابسها، لا يظهر منها سوى وجهها، الذي خلا من مساحيق التجميل كليًا، سمراء البشرة، ملامحها شرقية تمامًا تشبه ملامح الأكراد، كانا مثالين متضادين تمامًا مظهريًا، وإذا طبقنا كل الصور النمطية في هذا العالم الآن على هذين الاثنين، فكلها تقول بأن هذا الرجل لا بد أن يهاب تلك المرأة، وأن يظنها إرهابية ستحاول بالتأكيد تفجيره خلال دقائق معدودة، إلا أن الواقع يقول بأنهما كانا مستمتعين جدًا بالمحادثة الدائرة بينهما، بل كانا يضحكان بصوت عال، طوال الفترة التي تابعتهم فيها حتى افترقنا ولم أعد أستطيع أن أتابعهم من جديد، فلقد دخلت حينها إلى صف آخر.
التأفف كان من نصيب العرب، لا أحاول هنا أن أكون عنصرية، فأنا عربية مصرية في نهاية اليوم، إلا أن هذا لن يمنعني من أن أقول إن الجنسية التي أظهرت التأفف والتذمر طوال الوقت كانت من نصيب العرب، بل لم يقتصر الأمر عليهم كأشخاص، حيث نقلوا هذا التذمر لزوجاتهم وأولادهم، وترجموه إلى صوت عالٍ، وعصبية شديدة، ودفع لأطفالهم أمامهم بعنف، بل والتحديق فيمن حولهم بنظرات كراهية، أعلم أنهم لا يكرهون من حولهم، ولكنهم يكرهون الموقف برمته، وهذا من حقهم، ولكن هذا كان اختيارهم في قضاء 3 ساعات من حياتهم هم وكل من حولهم يعلمون أنها قصيرة وستنتهي قريبًا.
عندما انتقلت إلى صف جديد وجدت تلك الفتاة التي لا يتجاوز عمرها الـ 8 سنوات، جالسة على أحد الألواح الزجاجية التي تفصل بين الصفوف، والتي تم خلعها بسبب ضغط الناس المتتالي عليها، رأيت الفتاة ترسم في تركيز تام، الكل يمر بجوارها يظن أنها ضائعة، يمكنك أن تقرأ ذلك في نظراتهم المستفهمة، لقد تعجبت منها أنا أيضًا، فلماذا تركها أهلها هكذا دون رفيق، هذا لم أتعود عليه من قبل، فلا بد للطفل من رفيق دائم، لا يتركه ولا يغيب عنه، تابعتها منذ دخولي الصف وحتى نهايته، عرفت عندما اقتربت منها أنها لا ترسم، بل تكتب، لا أعلم ماذا ولكنها تكتب في مفكرة صغيرة بتركيز شديد، في النهاية وصلت والدتها، والتي تبين لي أنهم من روسيا بعد ذلك، اقتربت منها بابتسام، ولم تأمرها بترك ما تفعله وتلحق بها، هل هي عادة للفتاة أن تكتب وأنها موهبة في ذلك المجال، لا أعلم، ما لفت انتباهي هو أن أمها لم تنهرها، وتركتها تفعل ما يحلو لها، حتى انتهت الفتاة ولحقت بها، هل لي أن أقارن ذلك بالأب العربي الذي كان ينهر ابنه منذ قليل بسبب فعل لم يكن للابن دخل فيه؟ لا أعرف.
هناك شاب يقبل حبيبته، وأمامه مجموعة من الأمريكان قرروا لعب كرة القدم، ولكن بالحقائب هذه المرة بدلًا من الكرة، لم يستطع أي منهم حمل حقيبته على ظهره لمدة 3 ساعات، وكان الحل، هو اللعب بها، لم لا؟ بل شاركهم في ذلك جنسيات أخرى، والأجمل أنهم كانوا كلهم مختلفين تمامًا عن بعضهم في المظهر، كما بدأ العديد من المسافرين تكوين صداقات من “دول أخرى” خارج الحدود، أقصد من أفراد من صفوف أخرى، يتحدثون الإنجليزية جميعهم بلكنات مختلفة، لتنتهي المحادثة اللطيفة بصورة “سيلفي” التقطوها لأنفسهم وهم سعداء.
الأتراك في الخلف يتشاجرون، نعم، الأتراك لا يطيقون الانتظار، وهذا ما ترجموا ردة فعلهم إليه، الشجار مع بعضهم البعض، وحمدًا لله أن الشجار كان مع بعضهم البعض، لأنه لو كان عكس ذلك، لكان الأمر هزليًا بتصميم الأتراك على الشجار باللغة التركية مع الأجانب الذين لا يفقهون كلمة من التركية، كم كان ذلك سيكون مضحكًا بالتأكيد.
قام بعض من الأفراد من صفوف متجاورة بتصليح بعض الألواح الزجاجية التي خُلعت من مكانها، بعد أن مرّ عليها العشرات الذين لم يختاروا إلا أن يدعسوا عليها ويكملوا طريقهم، البعض قرر الهرب والدخول إلى صفوف متقدمة عن طريق المرور من الألواح الزجاجية المخلوعة، يتذمر أهل الصف الأصلي من هذا، يختار البعض أن يكتفي بنظرات استنكارية، ويتفهم البعض الآخر موقف “اللاجئين”، أقصد الهاربين من صفوف أخرى، فربما عانوا من ظروف قاسية في الصف الذي كانوا فيه، لذلك قرروا الهروب، والبعض تعامل مع الأمر بحدة، وأحيانًا بدفعهم جسديًا.
لقد قرر البعض الالتزام بمن يشابهه في المظهر، ليسيروا في جماعات تشبه أسراب الطيور، يظنون أن ذلك سيحميهم للوصول إلى نقطة النهاية بسلام، ورفضوا رفضًا تامًا التحدث مع من غيرهم من المختلفين عنهم في المظهر واللغة، وبالطبع العرق والديانة، لقد ظهر الكثير بملابس دينية تشير إلى انتمائه الديني، أو ملابس تقليدية يعتز بها بثقافته وسط كل تلك الحشود، أو بملابس متمدينة للغاية، أو بدون ملابس أصلًا ليقرروا السفر بملابس تشبه ملابس السباحة بالفعل.
مرّت كل الألوان التي تتخيلها من البشرة، وكل ما يمكن أن تتخيله من مظاهر خارجية للبشر، سمعت حينها أغلب ما تعرفه من لغات العالم، لقد كنا كلنا محجوزين في نفس المنطقة، التي كلنا نعرف أنها ستزول بعد وقت قصير، فمهما طال الانتظار، علينا كلنا أن نصل إلى موظف الجوازات، ليختم لنا بختم الدخول ونعبر، أي نتحرك للجهة الأخرى من المطار ونتابع حياتنا.
لقد عشنا في نفس الظروف، نفس المناخ، وتعرضنا لنفس الضغط العصبي تقريبًا، هناك من اختار أن يستمتع بالثلاث ساعات تلك، وقرر أن يستكشف فيها خبرات جديدة، وأن يتعرف على أنواع من الثقافات كانت غريبة عليه، وهناك من قرر التذمر والتأفف، وجعل الأمر عصيبًا ليس عليه فقط، بل عليه وعلى من رافقه من أسرته، وقرر البعض الالتزام في الطريق، فلم يتحدثوا مع أحد حولهم، ولم يعبأوا بالنظر إليهم حتى، قرر الآخرون أن يكونوا عمليين، وأن يستفيدوا من ساعات الانتظار في تكوين علاقات وصداقات جديدة، من يعرف، ربما نالوا فرصة عمل جديدة، أو بدأو في علاقة اجتماعية جديدة سواء كانت صداقة أو علاقة عاطفية.
المغزى هنا، أنك تختار كيف ستقضي هذا الوقت القصير لك هنا في هذه الحياة، الأمر كله بيديك، لن يهم في النهاية من أنت، وكيف جئت، كيف كان لونك أو عرقك، كم لغة تحدثت، كم منصب شغلت، هل ارتديت ملابسك التقليدية أم جئت حاملًا علم بلادك على كتفك، لقد وصل الكل إلى نفس نقطة النهاية، وهناك، يقرر المسؤولون وحدهم، هل سيمكنك العبور أم لا، وفي هذا قصة أخرى، وحديث آخر.