وقع النظام السوري حاليًا على مدار خمس سنوات من الثورة والحصار اتفاقات إخلاء لمدن بعينها لتسلمها من مسلحي المعارضة، ربما كان آخر هذه الاتفاقات تسليم داريا، والتفاوض لتسليم معضمية الشام وحي الوعر، وقبلها اتفاقات الزبداني والفوعة وكفريا.
هذه الاتفاقات كلما يمر أحدها يفتح باب الحديث عن تعمد النظام السوري إفراغ بلدات بعينها من أهلها وتسلمها خاوية على عروشها ضمن مخطط تغيير ديموغرافي في سوريا، لتنفيذ مشروع تقسيم أكبر في المناطق السورية المختلفة.
الحقيقة أنه بالبحث حول منهجية النظام في هذا الأمر نجده يركز على العاصمة دمشق ومحيطها ومدينة حمص وبعض مناطق حماة المجاورة للشريط الساحلي، حيث عقد قبل نحو عامين سلسلة اتفاقيات وهدن، شملت أحياء برزة والقابون وتشرين (شمالي العاصمة)، التي دخلت هدنة مع نظام الأسد ابتداءً من برزة في فبراير 2014، ثم القابون وتشرين في سبتمبر من العام ذاته.
أما في جنوبي دمشق، فدخلت بلدات بيت سحم ويلدا وببيلا في هدنة مفتوحة مع قوات الأسد في فبراير 2014، وبعد ثلاثة أشهر – وتحديدًا في مايو – دخل حيّا القدم والعسالي في هدنة أيضًا، ليصبح جنوبي دمشق خاليًا من مقاتلي المعارضة، باستثناء حي التضامن، إضافة إلى حي الحجر الأسود، الذي سيطر عليه تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في مطلع عام 2014، إضافة إلى مخيم اليرموك الذي كان يتواجد فيه مقاتلو “جبهة النصرة” وآخرون.
التقدير الأكثر دقة لعدد سكان سوريا في العام 2010، بلغ 21.79 مليون نسمة، وانخفض العدد إلى 20.44 مليون نسمة في منتصف العام 2015، وإلى 20.21 في نهايته، وسجل النمو السكاني معدلًا سالبًا خلال العام 2015.
التفريغ الديموغرافي بفعل النزوح الداخلي
لا شك وأن عمليات الهدن أو اتفاقات التسليم تكون فرصة سانحة للمدنيين للهروب من جحيم الحرب التي قد تستعر في أي وقت، لذا في هذا الصدد يمكن الإشارة إلى بدء السوريين رحلات النزوح القسري من مناطقهم إلى مناطق أكثر أمنًا واستقرارًا داخل سوريا، بينما توجه آخرون إلى خارج الأراضي السورية هربًا من ويلات الحرب.
هذا ساعد بشكل أو بآخر بطريقة متعمدة أو غير متعمدة من النظام السوري على صناعة عملية نزوح داخلية تساعد على عملية التفريغ الديموغرافي التي يتحدث عنها البعض.
وبحسب أعداد السكان النازحين من المحافظات السورية المختلفة وفق آخر دراسة استقصائية للشبكة السورية لحقوق الإنسان، تصدرت قائمة النزوح منطقة ريف دمشق، حيث تجاوز عدد النازحين عتبة 2.2 مليون نسمة، معظمهم من أحياء العاصمة الجنوبية التي كان لها النسبة الأعلى في النزوح بسبب الدمار الواسع والمنهجي الذي طال تلك الأحياء.
ومن مدينة داريا والغوطة الشرقية في كل من دوما وحرستا وجوبر والقابون وبرزة على نحو خاص، والتي تعتبر مناطق شبه خالية نتيجة محاصرتها من قبل قوات النظام واستهدافها بشكل مباشر لوقت طويل.
وتعتبر محافظة الرقة من أكثر المحافظات احتضانًا للنازحين، حيث يتواجد فيها ما لا يقل عن 1.4 مليون نازح، معظمهم من حلب وإدلب، تليها مدينة دمشق باحتضان ما لا يقل عن 1.2 مليون نازح، معظمهم نزحوا من الأحياء الجنوبية ومن مدن الغوطة الشرقية وداريا ودوما وجوبر والقابون وبرزة، ومن منطقة القلمون.
تليها محافظة حماة التي تحتضن ما لا يقل عن 650 ألف نازح، أغلبهم من محافظة حمص ومن مدينتي الرستن وتلبيسة وأحياء حمص المدمرة بشكل شبه كامل، تليها محافظة السويداء التي تحتضن ما لا يقل عن 300 ألف نازح أغلبهم من محافظة درعا، وبعضهم من غوطة دمشق الغربية.
عمليات الإحلال السكاني
يؤكد مراقبون أن مدنًا سورية بأكملها أصبحت مدمرة اليوم، وهناك رغبة عارمة من النظام لمنع السكان المهجرين من العودة إلى ديارهم، في محاولة لإعادة رسم الخريطة الديمغرافية لسوريا.
وفي تقرير صدر عن “المركز السوري لبحوث السياسات”، يتناول الآثار الاقتصادية والاجتماعية للأزمة السورية، ومن بينها نسب الدمار والتغيير الديموغرافي.
التقرير يشير إلى أن استمرار النزاع في سوريا أثر بشكل كارثي على الوضع الديموغرافي هناك، فالمهجرون واللاجئون والوفيات المرتبطة بالنزاع، تُفرغ البلد من السكان بشكل غير مسبوق، وبالتالي تغيرت التركيبة السكانية بشكل واضح.
التقرير يشير إلى أن التقدير الأكثر دقة لعدد سكان سوريا في العام 2010، بلغ 21.79 مليون نسمة، وانخفض العدد إلى 20.44 مليون نسمة في منتصف العام 2015، وإلى 20.21 في نهايته، وسجل النمو السكاني معدلًا سالبًا خلال العام 2015.
وأشارت تقديرات “السيناريو الاستمراري”، أي في حال عدم حدوث الأزمة، إلى أن عدد السكان كان سيصل إلى 25.59 مليون نسمة في نهاية العام 2015، وبالمقارنة مع “سيناريو الأزمة”، بلغ التراجع في عدد السكان نحو 21%.
الواقع يقول بأن ثمة دولًا استثمرت في الأزمة السورية وعملت على مشروع يهدف إلى تفريغ مدن من سكانها وإحلالها بغيرهم، وقد كان من بين هذه الدول “إيران” الحليف الوثيق لنظام الأسد، والمسؤولة عن الفتك بمناطق كاملة في سوريا لصالح مخططها.
سكان جميع القرى والبلدات في القصير قد تهجرت، وتم جلب أهالي الميليشيات الشيعية من لبنان عبر القرى الحدودية إلى المناطق السنية في القصير
وقد كانت معركة الزبداني هي الفاضحة للمشروع الإيراني القاضي بتفريغ الزبداني من سكانها واستبدالهم بسكان بلدتي كفريا والفوعة الشيعيتين بريف إدلب، ويتزامن ذلك مع تعزيز النفوذ الإيراني بالعاصمة دمشق وما حولها.
ومدينة القصير بريف حمص تهجر آلاف السكان السنة منها بعد سيطرة قوات النظام والميليشيات الطائفية المدعومة إيرانيًا عليها لا سيما “حزب الله اللبناني” في منتصف العام 2013، ولم تخف الميليشيات حينها سعيها إلى تحويل المدينة إلى ملاذ للشيعة، حيث ظهر جنود في تسجيل مصور نشر على مواقع التواصل الاجتماعي، وهم يرددون عبارات طائفية.
وباعتراف لبناني، فإن القصير باتت تشهد تواجدًا شيعيًا كبيرًا من قبل “حزب الله”، حيث أكد عضو البرلمان اللبناني النائب معين المرعبي في وقت سابق تواجد مطلوبين من حزب الله للحكومة اللبنانية في مدينة القصير وإقامتهم فيها.
وتمنع قوات النظام ومقاتلو حزب الله سكان القصير من العودة إليها، بحسب ما أكد نشطاء من مدينة حمص لوسائل إعلام سورية.
حيث إن سكان جميع القرى والبلدات في القصير قد تهجرت، وتم جلب أهالي الميليشيات الشيعية من لبنان عبر القرى الحدودية إلى المناطق السنية في القصير، وكذلك حول “حزب الله” والمليشيات المدعومة إيرانيًا المدينة إلى ثكنات عسكرية ومراكز لتدريب الميليشيات الشيعية ومن بينها بالتحديد ميليشيا “لواء الرضا” ذات النفوذ الواسع في حمص.
ويمكن رصد هنا أيضًا التحركات الإيرانية بمساعدة نظام الأسد في تغيير التركيبة السكانية للأحياء الدمشقية عبر بيع العقارات إلى عائلات المقاتلين الشيعة من العراقيين واللبنانيين، حيث وثقت حالات عمل شركات إيرانية تحاول السيطرة على أكبر قدر ممكن من المنازل في دمشق.
وفي دمشق أيضًا أحياء ومناطق بات يطغى عليها التواجد الشيعي أكثر من ذي قبل كـ(حي الأمين، وزين العابدين، وحي الجورة (الذي بات يسمى بحي زين العابدين) وأحياء في دمشق القديمة، ومنطقة السيدة زينب). ويتحدث سكان العاصمة عن أن دمشق بات يكسوها السواد بشكل لافت خلال العامين الأخيرين، حيث تنتشر الأعلام السوداء التي تعد رمزًا للشيعة، إضافة إلى انتشار اللطميات في أسواق دمشق كسوق الحميدية.
كما يؤكد كثيرون لعب الحوزات الدور الأكبر في التغيير الديموغرافي، من خلال نشاطاتها في مجال شراء العقارات من السنة تحت إغراء دفع مبالغ تفوق سعرها الطبيعي، وإحلال عائلات شيعية بدلاً منها.
ماذا عن “سوريا المفيدة”؟
يتركز التغيير الديموغرافي في مناطق غرب سوريا، بحيث يتم خلق منطقة نفوذ تضم المؤيدين للنظام وأصحاب الولاءات للنظام من الطائفة العلوية، بما يساعد أيضًا على توسيع رقعة النفوذ إلى الأراضي اللبنانية حيث يتواجد أنصار “حزب الله” في البقاع وبعلبك على الحدود السورية اللبنانية.
وكذلك في أرياف حماة تم تهجير سكان قرى “العشارنة، وقبر فضة، والرملة” عبر عمليات القصف الممنهجة، ويذكر أن سكان من قرية اشتبرق العلوية قد انتقلوا إلى “قبر فضة والرملة” وسكنوا في منازل المهجرين منها.
بعد كل ذلك تأتي الهدن بعد حرب تجويع يقوم بها النظام السوري ضد مناطق بعينها، ولا سيما في دمشق وريفها وحمص، بوصفها مناطق ضرورية، تدخل في إطار ما يسعى النظام إليه كخيار إرادي، يسميه “سوريا المفيدة”، التي تشمل العاصمة ومحيطها وصولًا إلى الحدود اللبنانية، وحمص والشريط الساحلي.
في أرياف حماة تم تهجير سكان قرى “العشارنة، وقبر فضة، والرملة” عبر عمليات القصف الممنهجة
ولعلنا في هذا الصدد نشير إلى ما بعد الهدن التي يعقدها النظام مع مقاتلين المعارضة، حيث يظهر مسعى النظام التقسيمي، فيتم إخراج المقاتلين وما تبقى من سكان المناطق المحاصرة، وترحيلهم إلى سوريا الأخرى، المدمرة بالقصف الروسي.
الهندسة الاجتماعية الجديدة التي يقوم عليها النظام السوري وحلفاؤه حاليًا تقضي بتقسيم سوريا إلى أقاليم قائمة على إفراغ المدن والبلدات والمناطق من سكانها، المنتمين للأكثرية، وتوطين سواهم من أقلية بعينها، الأمر الذي يفسر إصرار نظام الأسد على عدم السماح لسكان حمص القديمة بالعودة إلى بيوتهم وممتلكاتهم، بعد توقيع الهدنة، والأمر نفسه ينطبق على باقي المناطق الأخرى، التي يرحل مقاتلوها ومدنيوها إلى سوريا الأخرى.