ترجمة وتحرير نون بوست
إن السنوات الخمسة للحرب السورية يمكن تلخيصها في الصور المفجعة لطفل انتشله المنقذون من تحت الأنقاض، أو لجثة طفل آخر ملقى في أروقة أحد المستشفيات، أو لجثة مهملة في أحد أزقة المدن السورية، لم ينتشلها أقاربها خوفًا من رصاصة قنّاص ترصد تحركاتهم، أو حتى لصورة جيل من الأيتام لم يدخل يومًا أبواب المدرسة، لكن في استطاعته أن يخبرك عن الفارق الهش بين أصوات القذائف وأصوات الغارات الجوية، أو في مشهد مؤلم لمستشفى سوري يتعرض للقصف، أو في الأرقام المفجعة لضحايا الحرب السورية التي لم تتوقف عن الارتفاع رغم أنّ الأمم المتحدة أعلنت منذ سنتين توقفها عن تعداد عدد القتلى والجرحى في الحرب السورية، بسبب صعوبة التثبت من هذه الأرقام.
بعد سنوات من نهاية الحرب العالمية الأولى، أمضى محامٍ بريطاني يدعى هيو بيلو سنوات عديدة في محاولة إقناع عصبة الأمم بتأسيس محكمة دولية في لاهاي تعمل على محاكمة مرتكبي جرائم الحرب وكل الجرائم التي تخالف الأعراف الإنسانية، ويعتقد بيلو أن السماح بارتكاب “انتهاكات” خلال الحرب، بما في ذلك استعمال الأسلحة الكيميائية، يرتقي إلى مستوى الأعمال الوحشية التي تشكل تهديدًا حقيقيًا على الإنسانية والحضارة.
كان يجب على بيلو أن يبقى على قيد الحياة ليشهد فضائح الإنسانية في أمريكا الجنوبية، وإفريقيا، وآسيا، وأوروبا الشرقية قبل أن تتحقق أمنيته في إنشاء محكمة دولية تعمل على ملاحقة ومحاكمة مجرمي الحرب.
في سنة 1998، عقدت الأمم المتحدة اجتماعات روتينية في مدينة روما، وامتدت هذه اللقاءات أكثر من خمسة أسابيع عملت فيها الدول المشاركة، على صياغة معاهدة تقضي بتأسيس محكمة دولية تهتم بجرائم الحرب، والإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، وقد انطلقت هذه المشاورات في الوقت الذي شهد فيه العالم أحداث مفجعة، من الإبادة الجماعية وجرائم الحرب في رواندا والبوسنة.
من الناحية النظرية، تمثلت رؤية الأمم المتحدة لهذه الهيئة الدولية، باعتبارها محكمة دولية تمتلك الإمكانيات الضرورية لمحاكمة المستبدين ومجرمي الحرب، وملاحقتهم في كل مكان إلى آخر نفس في حياتهم.
لم تثبت آليات العدالة الدولية فشلها في أي مكان في العالم، مثلما أثبتت ذلك في سوريا، وقد وقعت سوريا، مثل أغلب دول العالم على معاهدة روما التي تنص وفقًا لمبادئ منظمة الأمم المتحدة، على “عدم تعطيل موضوع أو هدف هذه المعاهدة”، لكن سوريا لم تصادق على هذه المعاهدة، ولذلك فإن المحكمة الجنائية لا تمتلك أي سلطة مستقلة للتحقيق أو ملاحقة مرتكبي جرائم الحرب على الأراضي السورية.
يمتلك مجلس الأمن الدولي الصلاحية اللازمة لتفويض المحكمة الجنائية الدولية بالتحقيق في جرائم الحرب، لكن العدالة الجنائية الدولية تتميز منذ ظهورها بالهشاشة، وهي تخضع أيضًا للحسابات السياسية إلى حد ما، ففي سنة 2014، كانت هناك محاولة لتفويض المحكمة الجنائية الدولية للتحقيق في الحرب السورية من طرف مجلس الأمن، لكن الصين وروسيا قامتا بعرقلة هذا القرار عن طريق حق النقض.
منذ بداية الثورة السورية في سنة 2011، لم يتوان النظام السوري عن ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في كل مرة كان فيها في موقف ضعف، وقد عملت الهيئات الدولية على جمع كل الدلائل والقرائن التي تثبت إدانة النظام السوري وأبرز رموزه، لكن هذه الجهود بقيت حبرًا على ورق بسبب تعطل كل السبل المؤدية إلى محاكمتهم في المحاكم الدولية.
إن أبرز الشواهد والدلائل كانت الصور والفيديوهات التي التقطها جنود النظام السوري لآلاف الضحايا والمعتقلين الذي تعرضوا للقتل والتعذيب بطريقة بشعة في سجون الأسد، التي كانت مجالاً لممارسة كل أشكال العنف والتعذيب من طرف عناصر المخابرات والأمن السوري، وقد قام العديد من المحامين الدوليين والمحققين بتجميع هذه الصور، وتخزينها لاستعمالها في جرّ رموز النظام السوري إلى المحاكم الدولية.
دفع انسداد السبل أمام كل المحاولات داخل أروقة المحاكم الدولية التابعة للأمم المتحدة، إلى إطلاق مبادرات مستقلة من بينها المبادرة التي أطلقتها لجنة العدالة الدولية والمساءلة التي نجحت في تسريب 600 ألف وثيقة داخلية تابعة للنظام السوري، ما سمح لهم بتوثيق وتعقب عمليات التعذيب والقتل الممنهج، التي كانت تنفذ غالبًا بعد صدور أوامر من أعلى هرم النظام السوري، وتكون أحيانًا موقعة من طرف بشار الأسد.
تعمل منظمة “سيجا” أيضًا على توثيق جرائم الحرب التي يرتكبها تنظيم الدولة ضد اليزيديين، بهدف ملاحقة قادته قانونيًا، ورغم تعدد محاولات جر مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية إلى المحاكم، فإن المحاولات القليلة الجدية لتعقب جرائم الحرب السورية قد تشهدها المحاكم الأوروبية، بعد أن تمكنت الدول الأوروبية من التفطن لمحاولات تسلل قيادات من درجة وسطى ومتدنية في النظام السوري بين اللاجئين.
يعرّف نظام روما الأساسي “الجرائم ضد الإنسانية” على أنها مجموعة من الأعمال “التي ترتكب في شكل هجوم ممنهج أو عام يستهدف مجموعة من السكان المدنيين بطريقة مباشرة”، إن جرائم النظام السوري التي يمكن أن تدخل ضمن هذا الإطار متعددة، ومن بينها جرائم التعذيب، والقتل والاغتصاب والاختفاء القسري والاعتقال غير القانوني، وتشهد مراكز التعذيب في سراديب النظام السوري على كل هذه الجرائم خلال السنوات الماضية.
ويعمل النظام السوري على ارتكاب شكل آخر من أشكال جرائم الإبادة الجماعية من خلال منع المساعدات الإنسانية من دخول المناطق المنكوبة على الأراضي السورية التي تحاصرها القوات النظامية، وهو ما يدخل ضمن ما نص عليه نظام روما، باعتبار أنّ “الحرمان من الحصول على الطعام والدواء بهدف إهلاك جزء من السكان” تعتبر جريمة حرب. وتدخل “جرائم الحرب التي ترتكب ضمن إستراتيجية أو خطة” على نطاق واسع.
إذا تمكنت المحكمة الجنائية الدولية من التحقيق في جرائم الحرب السورية، فلن يكون من المفاجئ أن تتمكن من جرّ كبار رموز النظام السوري للمحاكمة والمساءلة القانونية، بما في ذلك بشار الأسد الذي سيواجه تهمًا عديدة، بموجب اتفاق جينيف، وقد تطول قائمة التهم لتشمل القتل العمد، والتدمير الوحشي والكلي للممتلكات لأسباب عسكرية، والتجنيد القسري للأشخاص للقتال نيابة عن مختطفهم، والهجمات المتعمدة ضد المدنيين، والهجمات المتعمدة ضد الناشطين الإنسانيين، وقصف مدن وقرى منزوعة السلاح، وقتل سجناء الحرب، قصف المدارس والمساجد والمستشفيات، واستعمال الأسلحة الكيميائية، وتجويع المدنيين العزل، ومنع وصول المساعدات الإنسانية.
منذ عملت روسيا على الوقوف إلى جانب الأسد، والمشاركة في عمليات القصف والقتل التي استهدفت العديد من المدن التي تسيطر عليها المعارضة، وتحديدًا قصف المستشفيات والمراكز الطبية، أصبحت إمكانية جرّ رموز النظام السوري إلى المحاكم الدولية وملاحقتهم قانونيًا شبه مستحيلة، وقد سمح للحرب السورية بالتحول إلى مسرح جريمة دولية، يتمتع فيها المذنبون بحصانة تامة من كل ملاحقة قانونية، وأصبحت تشكل بذلك جزءًا من المشهد العام للعنف والموت اللانهائي في سوريا.
المصدر:نيويوركر