في مقالته المطولة في مجلة “وور أون ذا روكس”، يستهل الكاتب، توبياس شنايدر، مداخلته بمقابلة أجراها دافيد ميلر حديثًا لمجلة “فورين بوليسي” مع روبرت مالي، وهو أحد أكثر المستشارين موثوقية لدى الرئيس الأمريكي، خلال المقابلة، عدد الأخير “الأولويات المتنافسة” لسياسة الولايات المتحدة تجاه القضية السورية، وهي: تحقيق التوازن بين الضرورات الإنسانية والحفاظ على مؤسسات الدولة، وتجنب حدوث فراغ في السلطة قد يفضي إلى فوضى عارمة.
يقول الكاتب إنه خلال السنوات الثلاث الماضية، على وجه التحديد، لم تكن تلك الحجة، المحسوبة بعناية، الدعامة الأساسية لسياسة الولايات المتحدة تجاه سورية فحسب؛ بل كانت تمثل أيضًا رواية للكثير من المعلقين والمحللين السياسيين. السؤال المركزي الذي يحاول شنادير الإجابة عليه، ضمن هذا النقاش، هو: ما الذي تبقى حقًا من “الدولة المركزية السورية”؟
حالة إنكار
بعد الانهيار السريع لقواته في إدلب العام الماضي، ألقى الرئيس، بشار الأسد، خطابًا حمل نبرة مجاهرة أكبر، معترفًا أن قوات النظام المسلحة كانت تعاني من نقصٍ هائل في القوى البشرية (المجندين)، وسيكون عليها الانسحاب من بعض الجبهات، الصحف أيضًا، كما يقول الكاتب، كانت تنشر تقارير مشابهة، منذ أشهر خلت، عن جهود التجنيد اليائسة في جميع أنحاء البلاد.
ومع نهاية شهر تموز/ يوليو، بدا الأسد وكأنه ينهار تحت وطأة سنوات متراكمة من الاستنزاف والانشقاقات التي ضربت هياكل نظامه الحيوية، حتى تدخل الروس والإيرانيون، معًا، سعيًا منهما إلى استعادة مقدرات النظام، وبحلول شباط/ فبراير من هذا العام كانا قد نجحا في ذلك، إلى حد كبير، بإقرار محللين من داخل وخارج مؤسسة النظام.
لكن بقدر ما تذهب محاولات تقدير قوة النظام بعيدًا تقف تلك التقديرات أمام أوجه قصور تحليلية كثيرة، فثمة مغالاة كبيرة في تقدير أهمية العدد الحقيقي للجنود في الميدان، وكذلك في قياس مساحة الأرض الخاضعة لسيطرة كل طرف من أطراف القتال.
“ضمن المجموعات الموالية للنظام ثمة حفنة صغيرةٌ منها قادرة على القيام بما يمكن أن نطلق عليه عملًا هجوميا“
المعادلة بالنسبة لمثل هذا النمط من التحليلات تسير وفق النسق التالي: مع انهيار النظام، تبدأ القوات العاملة بالانهيار، لكن إذا كانت تجارب بناء الدولة في العراق وأفغانستان قد علمتنا شيئًا؛ فهو، كما يرى الكاتب، عدم الانخداع بالمظاهر الرسمية لمؤسسات دولة ضعيفة البنية، فالحرب الأهلية، في جوهرها، هي نزاع حول مبادئ أساسية في حياة المجتمع والمؤسسات التي تشكله، وعلى هذا النحو؛ فإن الديناميات الداخلية، في قلب مؤسسة الحكم، لا تقل أهمية عن النجاحات العسكرية على الأرض، وبالنظر إلى أن سورية لن تخلو من الرجال في سن القتال، ولا من الأسلحة الخفيفة، ولا من شاحنات الـ”بيك أب”، كما يجادل شنايدر؛ فمن الحري بنا الالتفات إلى الديناميات الهيكلية التي يقوم عليها الصراع المحتدم منذ خمس سنوات.
في الواقع، بعد خمس سنوات من القتال يمكن القول أن بنية النظام العسكرية اليوم لا تختلف تمامًا عن بنية معارضتها المسلحة، ففي الوقت الذي تحظى فيه بدعمٍ أقوى من هيكل الجيش السوري اللوجستي، والذي لا يزال قائمًا؛ إلا أن قوات الحكومة المقاتلة تتكون من مليشيات مذهلة من المقاتلين المحليين (شديدي الانتماء)، تسير إلى جانب فصائل مختلفة، ورعاة من الداخل والخارج، وأمراء حرب محليين.
لعل نظرة واحدة إلى قائمة المليشيات المقاتلة إلى جانب النظام في سورية قد توفر لنا فكرة عن مرجعياتهم المتباينة. ضمن تلك المجموعات؛ ثمة حفنة صغيرةٌ منها قادرة على القيام بما يمكن أن نطلق عليه “عملًا هجوميا”، طبيعة هذا التشرذم، في الواقع، تتجاوز بكثير الحدود الطائفية والديموغرافية، فهي نتيجة مباشرة للتفاعل بين الاقتصاد القومي والمحلي وبين ضغوطات الإدارة، إذن، في حين بدأت شمولية “الدولة المركزية في سورية” (كما كانت في السابق) بالانكماش فإن الأجزاء المكونة لها (سواءً أكانت طائفية، أم ريعية، أم حتى “غير متمدنة”)، أخذت تكتسب درجة مذهلة من الاستقلال السياسي والاقتصادي عن دمشق.
في هذا السياق، يجادل الكاتب أن نظام الأسد، على عكس ما يدعيه بعضهم، لم يحقق نوعًا من “الصفقة الكبيرة” مع قسم كبير من السنة ساكني المدن في سورية، بل، بدلًا من ذلك؛ عمد إلى ترقية أكثر عناصره وحشية إلى السلطة في البلاد، وضاعف بذلك النزعات الطائفية والقبلية، وحتى عقلية “قطع الطرق”، في بلد ينهشه الصراع.
اليوم، وإذ تظهر الخرائط على وسائل الإعلام سيطرة النظام، ظاهريًا، على معظم المحافظات الغربية فإنها لا تميز في الحقيقة أن ثمة العشرات، أو لربما المئات، من الإقطاعيات الصغيرة تظل موالية اسميًا للأسد، وفي الواقع، فإن قوات الأمن الموالية، في معظم أنحاء البلاد، تعمل الآن كمشروع ابتزاز كبير؛ فهي تعد، في الوقت نفسه، سببًا ونتيجة لانهيار الدولة على المستوى المحلي.
النمور وصقور الصحراء
لتفسير ما سبق، يتحدث الكاتب عن فصيلين يحملان على عاتقيهما أحمال النظام الثقيلة خلال هذه الفترة من الحرب، وهما “صقور الصحراء”، و”النمور”، ويعملان حاليا في حلب واللاذقية بشكل رئيسي، وهما، كما المعارضة تمامًا، يجمعان تشكيلة غريبة من أمراء الحرب المحليين، وفلول النظام، وجماعات دعم خارجية في تحالفاتٍ وغرف عمليات مؤقتة.
ويقول الكاتب إنه عند الحديث عن “قوات النمر”، لا بد من الإشارة إلى قائدها، سهيل حسان، الجندي المفضل للأسد، حسان هو ضابط في إدارة المخابرات الجوية سيئة السمعة، وإلى جانب ذلك، يقود ما تُعرف على أنها “القوة الأكثر نخبوية” لدى النظام، يُعتقد أيضًا أنه واحد من مهندسي سياسة “الأرض المحروقة” التي تجسدها براميل النظام المتفجرة، وهو يتمتع بشعبية جارفة لدى مؤيدي النظام.
غير أن القصة الحقيقة لقوات النمر أقل سحرًا من ذلك بكثير، فخلال الأيام الأولى من الثورة ضد نظام الأسد نسق حسان حملات قمع المتظاهرين في حماة، معتمدًا على مجموعات من “البلطجية”، وضباط القوات الجوية، وزعماء قبليين، قوته كانت تكمن في قدرته على حشد الدعم المحلي بدلًا من الاتكاء على مؤسسات الدولة المتهاوية بالفعل، وقد اكتسبت مجموعاته، مع مرور الوقت، اسم “قوات النمر”.
وفي حين شكلت تلك الوحدة، في حينها، نواةً أكثر استقرارًا من الجنود شبه الدائمين، فإن الموالين لـ”النمر” لا يزالون، اليوم، ينحدرون من مجموعة واسعة من المليشيات والمجرمين والمهربين، عدد كبير من أتباع حسان باتوا معروفين عبر البلاد بلصوصيتهم، ونشاطهم التهريبي، وجرائمهم المخالفة للقانون بشكل عام.
علي شلة، على سبيل المثال، هو أحد اللصوص الأقوياء في بلدة تل سحلب، ويتبع مباشرة لقيادة حسان، وقد وصلت انتهاكاته حدًا دفع النظام لإلقاء القبض عليه وزجه في السجن مؤخرًا، لكن ذلك لم يمكث لأيام، وبعدها أطلق سراح شلة وعاد إلى الجبهة.
هذه الحوادث لا ينبغي النظر إليها على أنها مجرد اقتتال داخلي على قضايا الفساد فحسب؛ فوفقًا لمقابلات أجراها الكاتب، بات معروفًا، على نطاق واسع، أن أتباع حسان مسؤولون عن عمليات تهريب أسلحة، وبشر، ونفط، لمناطق “داعش”، ومناطق المعارضة كذلك، وهم يقوضون، بشكل مباشر، المجهود الحربي للنظام، غير أن الحكومة لا تملك خيارًا إزاء ذلك.
ولعل ما يؤكد هذا الاستنتاج، وفقًا لتقرير حصل عليه الكاتب من “مجلس الأمن الإقليمي للجيش العربي السوري” مؤخرًا، هو أنه قد تم، بالفعل، إلقاء القبض على عصابة شلة وبحوزتها حمولة من الأسلحة المهربة مخبأةً تحت أكياس القمح، وعلى إثر ذلك، انخرطت العصابة في معركة مسلحة طويلة مع النظام السوري، ولم تتعرض لأي عقوبات، الإجابة على كل ذلك واضحة: لا توجد قوة موالية اليوم لدمشق قوية بما فيه الكفاية لتضع حدا لقطاع الطرق هؤلاء.
المصدر: العربي الجديد