بينما تقتل الزنازين محتجزيها في السجون العربية، وتصنع من البعض الآخر مجرمين عتاة الإجرام، يتعامل الغرب مع النزلاء كبشر عاديين، يمكن الاستفادة منهم، وإفادتهم خلال فترات محكوميتهم التي قد تطول أو تقصر، في محاولة لإعادة تأهيل هؤلاء السجناء، ودمجهم في المجتمع، وتخفيض نسب الجريمة، حتى إن بعض السجناء في السجون الأوروبية واللاتينية والأمريكية، يصنعون ويبتكرون الكثير من الفنون والأعمال اليدوية، التي بات بعضها ماركات عالمية تصدر لدول الجوار.
الدعم ضروري
تجربة الاستفادة من المساجين ليست بالغريبة على المنطقة العربية، لكنها اعتمدت فيها على بعض الأعمال اليدوية البسيطة، بالتعاون مع المؤسسات الخيرية، لكن البيئة المحيطة بالسجين، وغياب الدعم النفسي والمادي اللازم، أحبط كل المحاولات، باستثناء تجربة السجون التونسية.
“نون بوست” يأخذكم في جولة داخل عدد من السجون حول العالم وكيف حولت نزلاءها إلى “رجال أعمال”.
تجربة سان بيدرو
نبدأ جولتنا من أمريكا اللاتينية، وتحديدًا في دولة بوليفيا الفقيرة، والتي تعد من دول العالم الثالث مثلها مثل الدول العربية، لكنها أدركت قيمة الإنسانية لسجنائها، وعملت جاهدة لتصنع منهم مواطنين جدد مفيدين للمجتمع.
في بوليفيا تعد تجربة سجن “سان بيدرو” نموذجًا عصريًا لكيفية استخدام طاقة السجناء، حيث حولت السلطات السجن الذي يحوي 1500 نزيل من مجرد أسوار وأسلاك شائكة، إلى قرية تحوي كل ما يحتاجه النزلاء حتى أسرهم، حيث يسمح السجن للنزلاء باصطحاب عائلاتهم للسجن، ولا يوجد بداخله حراس أو حتى رجال شرطة، فالسجناء وعوائلهم ينظمون حياتهم بأنفسهم، يبيعون ويشترون ويفتتحون مطاعم وصالونات للحلاقة، ومتاجر لبيع المواد الغذائية، وافتتح بعضهم مصانع صغيرة لإنتاج الحقائب وبيعها خارج حدود السجن.
سجون البيرو والماركات العالمية
وفي مكان ليس ببعيد عن بوليفيا سمحت السلطات للسجناء في “البيرو” بالعمل في إنتاج الملابس، واستغل أحدهم خبراته السابقة في العمل لإحدى دور الأزياء الشهيرة، في إنشاء مشغل صغير للملابس، يمتد على مساحة 50 مترًا داخل السجن، فيه مكان لتقطيع القماش، وآخر للحياكة، وثالث للتطريز اليدوي على هذه الملابس، يعمل به أكثر من 70% من النزلاء، رجال وسيدات، وتشرف عليه إدارة السجن، لإنتاج ماركة فاخرة من الملابس، تُباع الآن بمتاجر نيويورك وباريس منذ العام 2013، وعلى الإنترنت.
وفي هذا السجن يتم إنتاج مائة قميص في الأسبوع، وتذهب نسبة من المبيعات للسجناء كدخل خاص بهم وبعائلاتهم، وتم افتتاح بنك داخل السجن عملاؤه ومديروه من السجناء لإدارة أموالهم.
“هيدالجو” المكسيك
أما المكسيك، الجارة الجنوبية الفقيرة لإمبراطورية العالم أمريكا، فاستغلت السلطات الأعداد الكبيرة لنزلاء السجون قليلي الخبرة، المتورطين مع عتاة تجار المخدرات والمافيا، وقامت بإعادة تأهيلهم من خلال دورات للرسم اليدوي والرسم على الجلود، وكان من نتيجته أن سجن ولاية “هيدالجو” بوسط المكسيك، يعد من أفضل الأماكن للمكسيكيين لشراء الحقائب النسائية اليدوية من الجلود الفاخرة، والتي تباع الآن في أرقى المحال التجارية في البلاد، بمئات الدولارات، بل وُضعت خطة لتصديرها إلى الولايات المتحدة ولندن، فضلًا عن الأثر العائد على حياة 240 سجينًا، يعملون ضمن المشروع، في ستة سجون بالمكسيك.
“سيبو”… سجن الفلبين الراقص
آسيا هي الأخرى كانت لها تجربة مشابهة بدولة الفلبين، حيث بدأ القائمون على سجن “سيبو” في تدريب النزلاء على الرقص الجماعي اليومي، على أنغام أشهر الأغاني العالمية، كنوع من الترفيه وإعادة التقويم والعلاج النفسي لهم.
وبعد أقل من ثلاث سنوات على بداية الفكرة وتطبيقها يوميًا، أصبحت رقصات السجناء الجماعية، والتي يشترك فيها أكثر من 1200 سجين أكبر معرض سياحي يومي في البلاد، ويتم بيع البطاقات للسائحين لحضور العروض التي يقومون بتأديتها لمدة ساعة أسبوعيًا، وبعدها يلتقط السائحين الصور التذكارية مع السجناء، وهي خطوة تدر أسبوعيًا آلاف الدولارات توزع على إدارة السجن والسجناء.
فنانون خلف القضبان
أما السجون الأمريكية فهي تعد الآن واحدة من أهم المعارض الفنية للوحات والمنحوتات الفنية القيمة بأيدي النزلاء، كجزء من إعادة التأهيل، وتشمل المعروضات منتجات الحرف اليدوية واللوحات الفنية، ويقام لهم سنويًا معرض يحضره المئات من المهتمين بالفنون، ويجني أرباحًا بآلاف الدولارات.
مطاعم فاخرة
أوروبا كانت صاحبة الفضل في أفكار الاستفادة من نزلاء السجون، فعمدت بريطانيا وإيطاليا لتحويل السجون لمطاعم فاخرة.
بدأت الفكرة في بريطانيا خلال سعيها لتخفيض نسب الجرائم، وإعادة تأهيل السجناء في المجتمع البريطاني، وتوصلت مؤسسة “ذا- كلِنك تشارتي” إلى فكرة افتتاح مطاعم للجمهور بالسجون، وقامت باختيار السجناء، وتدريبهم، وتقوم بعمليات تدقيق الحسابات، وتقديم المشورة للسجناء، وحتى الآن هناك ثلاث مطاعم في ثلاث سجون بريطانية، آخرها كان مطعم “ذا- كلِنك” في سجن “بريكستن”، الذي افتتح في فبراير 2014، ويعمل في هذه السجون النزلاء كطهاة ومساعدين، ويعدون أطباقًا تنافس المستويات العالمية، ويتميزون في صناعة مأكولات متنوعة تتغير قائمتها يوميًا، ويقدمون أصنافًا من الأطباق الرئيسة والحلويات، حتى إن الإقبال الكبير عليها جعلها محجوزة لأكثر من ثلاثة أيام مسبقة، وعلى من يرغب في خوض تجربة العشاء في أي منها الحجز قبل 72 ساعة، ويستقبل 1000 زائر شهريًا.
بيزا… القلعة الحصينة
أما إيطاليا فحولت سجن “بيزا” – القلعة الحصينة التي تجاوز عمرها 500 عام -، والذي يقبع خلف أسواره عدد كبير من المجرمين والقتلة واللصوص، بالإضافة لعناصر من الـ “مافيا”، إلى أشهر مطعم بالمدينة التاريخية، يقوم السجناء بالعمل فيه، بدلاً من بقائهم بلا عمل، ونجحت الفكرة، وبات السياح يحرصون على زيارة هذا المطعم الفاخر، كما تزايد الإقبال على المطعم لدرجة جعلت من المستحيل الحصول على مكان من دون حجز مسبق، يكون عادة قبل شهور عدة من موعد الزيارة، كما طبقت نفس الفكرة بسجن “إن غاليرا” بمدينة ميلانو .
تونس الأوروبية!
عربيًا لم تجد فكرة للاستفادة من النزلاء طريقها للنور إلا في تونس، ربما لقربها من الجارة الأوروبية الشمالية، وتطبع معظم التونسيين بالثقافة الغربية، وكانت للورشة الفنية السينمائية التي خضع لها أكثر من 50 نزيلاً داخل السجن “المدني” بالمهدية، أكبر الأثر في اكتشاف موهبة عدد من النزلاء نجحوا في تقديم تجربتين فنيتين، هما “حكايات من الحيط” و”اضطراب”، وهما فيلمان تونسيان أبطالهما من سجناء تونس، عُرضا بإحدى قاعات السينما، بدعم من جمعية “عيون السمع” الفرنسية المتخصصة في صناعة السينما.
وركزت الأعمال الفنية تلك على رصد انفعالات وأحاسيس السجناء، ونظرتهم للمستقبل بعد قضاء فترة محكوميتهم، الأمر الذي كان له أثر كبير على المجتمع التونسي.