بعد ثلاث سنوات
رغم مرور ثلاث سنوات حتى تاريخ كتابة هذه الورقة فإن ردود الفعل الرسمية للفاعلين الدوليين لم تراوح على مدار هذه الفترة منطقة الشجب والاستنكار والإدانة، أو التعبير عن القلق ولم تدفع تجاه إجراء حقيقي على الأرض لمحاسبة الجناة.
على مستوى المنظمات الدولية، فقد توالت تقارير المنظمات التي وثقت وأدانت ما حدث في رابعة والنهضة، ويأتي على رأسها منظمة هيومن رايتس واتش ومنظمة العفو الدولية.
منظمة هيومن رايتس ووتش
في ملخص تقريرها الصادر في 12 أغسطس/ آب 2014، أشارت هيومن رايتس واتش إلى أن عمليات القتل لم تشكل انتهاكات جسيمة للقانون الدولي لحقوق الإنسان فحسب، بل إنها ترقى على الأرجح إلى مصاف الجرائم ضد الإنسانية، بالنظر إلى اتساع نطاقها وطبيعتها الممنهجة، وكذلك إلى الأدلة التي توحي بأن عمليات القتل كانت جزءًا من سياسة تقضي بالاعتداء على الأشخاص العزل على أسس سياسية، وجاء في أهم التوصيات الموجهة للدول الأعضاء في الأمم المتحدة أن تُشكل من خلال المجلس الأممي لحقوق الإنسان لجنة دولية لتقصي الحقائق بغرض التحقيق في كافة انتهاكات حقوق الإنسان الناجمة عن أعمال القتل الجماعي للمتظاهرين منذ 30 يونيو/ حزيران 2013.
كذلك تعليق كافة مبيعات وتوريدات الأصناف والمساعدات المتعلقة بالأمن لمصر حتى تتبنى الحكومة إجراءات لإنهاء الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، مثل تلك المتعلقة بقمع المظاهرات السلمية إلى حد بعيد، ومحاسبة منتهكي الحقوق.(3)
مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة
اعتمد مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في جنيف تقرير مصر النهائي للمراجعة الدورية الشاملة لملف حقوق الإنسان، والذي اشتمل على أكثر من 300 توصية قدمتها 122 دولة من دول العالم لمصر بغية تحسين ظروف حقوق الإنسان، وقد اعتبر رافضو الانقلاب في مصر وقتها ذلك انتصارًا كبيرًا للملف الحقوقى المصري.
غير أنه منذ تاريخ اعتماد هذه التوصيات في نوفمبر 2014 لم يحدث ثمة تقدم في الملف الحقوقي المصري، بل تفاقمت الانتهاكات حيث انتقدت منظمة “هيومن رايتس ووتش” وقت اعتماد مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة تقرير مصر للمراجعة الدورية الشامل في 20 مارس 2015 ما وصفته “قمع غير مسبوق ومستمر تمر به مصر الآن لاسيما وأن الحكومة المصرية ومنذ الاستعراض الدوري الشامل في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي 2014 ارتكبت انتهاكات أكثر”.
منظمة العفو الدولية
كذلك أشارت منظمة العفو الدولية في تقريرها الصادر عن مصر 2015/ 2016 إلى استمرار وضع حقوق الإنسان في التدهور، حيث فرضت السلطات بشكل تعسفي قيودًا على حرية التعبير وحرية تكوين الجمعيات وحرية التجمع السلمي، كما أشارت إلى إصدار مئات من أحكام الإعدام الجائرة.
وحول ما يتعلق بالإفلات من العقاب أشارت منظمة العفو إلى تقاعس السلطات المصرية عن إجراء تحقيقات فعَّالة ومستقلة ونزيهة بخصوص معظم حالات انتهاكات حقوق الإنسان، بما في ذلك الاستخدام المتكرر للقوة المفرطة من جانب قوات الأمن، مما أسفر عن وفاة مئات المتظاهرين منذ يوليو/ تموز 2013.
سؤال مهم يحتاج إجابة
في إطار الاستعراض التمهيدي السابق وبعد ثلاث سنوات من مجزرة فض اعتصامي رابعة والنهضة، مازال هناك من يأمل في نصرة النظام العالمي – الذي يقوده الغرب وأمريكا – لملف حقوق الإنسان والديمقراطية في مصر ومحاسبة المسؤولين عن الجرائم التي ارتُكبت، حيث يرى البعض أن هناك قصور في الملف الحقوقي من جانب رافضي الانقلاب في ثلاث مسارات هامة وهي مسار التوثيق ومسار المتابعة الجنائية ومسار جماعات الضغط، ومن الممكن عند تدارك القصور فيها أن يتم الوصول إلى محاكمة المسؤولين دوليًا.
ورغم وضوح الحالة المزرية لحقوق الإنسان والإدانات والاستنكارات المتتالية والتوصيات الصادرة والحقائق الموثقة وتصاعد الانتهاكات المنهجية والمتنوعة لحقوق الإنسان وقتل الآلاف واعتقال عشرات الآلاف، يثور على الدوام تساؤل حول مدى مصداقية دعم المنظومة العالمية لتحول ديمقراطي حقيقي والانتصار لحقوق الإنسان، في ظل ما يأمله البعض من أن ينتصر النظام العالمي بقيادة أمريكا والغرب (بمنظماته الأممية ومجالسه ومحاكمه الدولية التي يسيطر عليها) للديمقراطية وحقوق الإنسان في الحالة المصرية وفي غيرها، رغم ازدواجية المعايير على أرض الواقع، ومشاركة الغرب وأمريكا في انتهاك الديمقراطية وحقوق الإنسان في مناطق مختلفة من العالم وفي منطقتنا العربية تحديدًا.
في هذه الورقة نحن معنيون بالنظر في هذا السؤال، والإجابة عليه في إطار معطيات التاريخ والواقع والمصالح، والقيم الإنسانية المجردة، من أجل وضع اليد على الحقيقة، ووضوح الرؤية بين من يرى أن الغرب لن ينتصر متجردًا للشرعية وحقوق الإنسان في الحالة المصرية أو غيرها، وبين من يعول على الغرب وهيئاته ومنظماته الحقوقية ومحاكمه الجنائية عبر نافذة الحريات وحقوق الإنسان ويتوسع في ذلك أملاً في تحقيق نصر لملف الديمقراطية وحقوق الإنسان، وفي سبيل ذلك سوف نتناول الأمر عبر المحاور التالية:
أولاً:ما حقيقة الموقف الأمريكي والأوروبي من الأحداث في مصر؟
ثانيًا:ماذا يريد الغرب وأمريكا من مصر؟
ثالثًا:هل حقوق الإنسان والديمقراطية مجرد دعاوى وأدوات ضغط؟
رابعًا:ماذا بعد في ظل المشهد الحالي؟
أولاً: ما حقيقة الموقف الأمريكي والأوروبي من الأحداث في مصر؟
منذ اللحظات الأولى للانقلاب على الرئيس المنتخب (دكتور محمد مرسى) كان الموقف الأمريكي والأوروبي واضحًا، ويمثل استكمالاً لذات المسار قبل الثالث من يوليو، والذي لم يكن مع الربيع العربي ولم يتعامل مع المنطقة بأسلوب جديد بعيدًا عن الأسلوب القديم الذي يعتمد على الانقلابات العسكرية، ولكنهم دعموا انقلابًا خشنًا وعنيفًا، وامتنعت أمريكا وأوروبا عن وصف ما جرى في مصر بأنه انقلاب عسكري.
ومع تصاعد انتهاكات السلطة وكبت الحريات والزج بالآلاف في المعتقلات ظل الموقف ثابتًا ولم يخل الأمر من تصريحات دبلوماسية وتكتيكية ناعمة لمخاطبة الداخل الأمريكي والأوروبي، وامتصاص غضب الداخل المصري، ليبدو الموقف الغربي أقرب إلى الترحيب بالانقلاب واعترافًا به واعتبار عودة ما قبل الثالث من يوليو 2013 أمرًا مستحيلاً.
كذلك فإنه مما لا شك فيه أن المواقف الأمريكية والأوروبية تجاه مصر والمنطقة تنحاز دائمًا مع مصالحها ومحكومة بهواجس ومصالح الكيان الإسرائيلي المحتل، والذي يري في وجود حكومة منتخبة، ورئيس منتخب بمرجعية وطنية وإسلامية تهديدًا مباشرًا لوجوده، حتى وإن أكدوا على احترام معاهدة السلام واتفاقية كامب ديفيد، فالعملية الديمقراطية إن أتت بمن يعمل خالصًا للمصالح الوطنية المصرية فإن ذلك سيتصادم مع مصالح الكيان الإسرائيلي المحتل والهيمنة الغربية في المنطقة.
لقد شهدت الثلاث سنوات السابقة وخاصة الفترة بعد تولي السيسي تأكيدًا لدور الكيان الإسرائيلي المحتل، والدور الغربي الفاعل في الانقضاض على تجربة 25 يناير والانقلاب على الرئيس المنتخب والعمل بقوة على دعم مرحلة ما بعد الثالث من يوليو وقام الكيان الإسرائيلي المحتل بحض القوى الدولية على دعم رأس السلطة المصرية عبدالفتاح السيسي رغم الحالة الاستبدادية وانتهاكات حقوق الإنسان التي أنتجتها هذه المرحلة.
ثانيًا: ماذا يريد الغرب وأمريكا من مصر؟
ماذا يريد الغرب وأمريكا من مصر؟ سؤال لا بد أن تكون إجابته معلومة بوضوح لدى الجميع لأنه أحد المحددات الهامة للأهداف الاستراتيجية الوطنية ولتأطير قواعد التعامل مع الغرب وأمريكا بما يحقق الاستقلالية الوطنية، إذ لا يستقيم ألا يكون هناك وعي بذلك.
إن الهدف الذي يسعى إليه الغرب وأمريكا وبطبيعة الحال الحليف الإسرائيلي هو السيطرة على مصر وإبقائها قيد الهيمنة والتبعية، والحفاظ على ذلك بعيدًا عن أي تغيير.
يقول الدكتور حامد ربيع – رحمه الله – “والواقع أن هذا ينطلق من مقدمات معينه تدور حول أسلوب التعامل مع دول العالم الثالث، فأي حركة في تلك الدول ترمي إلى تغيير الوضع القائم يجب أن تواجه بالعنف، إنها نوع من الإرهاب الدولي، يقول هيج عندما كان مسؤولاً عن وزارة الخارجية بهذا الخصوص: إن مفهوم مقاومة الإرهاب الدولي – وهو الاصطلاح الذي استخدم للتعبير في العالم الثالث – يجب أن يحل في اهتمامنا موضع مفهوم الدفاع عن حقوق الإنسان، وكذلك فإن مواجهة هذا الإرهاب الدولى يجب أن تتم من خلال استخدام القوة العسكرية، من العبث الحديث عن الإصلاح أو التقدم أو التجديد، الذي يعني القيادات الأمريكية هو القدرة على الاستئصال الجسدي والعنصري للقوى الثورية والقيادات الرافضة”.
فهناك قناعة لدى هذه القوى مجتمعة أن مصر لو استطاعت أن تهئ لنفسها قيادة حقيقية فهي مؤهلة لأن تجمع تحت رايتها الدول العربية بما يعنى ذوبان إسرائيل ووضع حد للنهب الاقتصادي الذي تمارسه القوى الغربية وأمريكا.
لذلك تري القوي الكبرى وأمريكا أن الضمانة الوحيدة لمنع مصر من استعادة مكانتها ومحوريتها يستوجب الأخذ بوسائل السيطرة الكاملة وتأكيد التبعية، والهيمنة بما فيها الهيمنة المعنوية على الشعب المصري وشعوب المنطقة العربية.
إن الحالة المصرية ما بعد الثالث من يوليو 2013 وحتى مرحلة السيسي الحالية هي امتداد للمخطط الاستعماري تجاه مصر والذي يرتكز على إضعاف مصر في علاقة السلطة أو القيادة الحاكمة بالشعب، وكذلك إضعافها في علاقتها بالمنطقة، وهذا ما تعيشه مصر فعليًا عبر قبضة أمنية عسكرية تولد عنها الانتهاكات المتصاعدة للحريات وحقوق الإنسان، ويُعد الوضع المثالي لاستمرار التبعية والهيمنة، فمصر في أضعف حالاتها فيما يتعلق بعلاقاتها العربية وكذلك علاقة حكامها بالشعب، حيث أصبح التسميم السياسي يسري في دماء المشهد المصري.
أسئلة تطرح نفسها
في إطار ما يريده الغرب وأمريكا من مصر، هناك أسئلة تطرح نفسها لدى كثيرين في المشهد المصري وهي:
هل القوى الفاعلة في المشهد المصري سواء في الداخل أو في الخارج، والمعارضة والقوى الثورية بل وحتى السلطة تدرك حقيقة الموقف الغربي الأمريكي وأبعاده الحقيقة؟
هل تعتقد القوى الفاعلة في التيار الإسلامي والتيارات الوطنية الأخرى أنها ستكون محل ترحيب، وينتصر الغرب وأمريكا تجردًا للديمقراطية التي أتت بهم ،ولحقوق الإنسان التي انتهكتها السلطة في مصر، في ظل أحد ثوابت التيار الإسلامي والقوي الوطنية المتمثلة في رفض الاحتلال الصهيوني والتبعية والهيمنة الغربية الأمريكية على مصر؟
هل من الممكن أن ينتصر الغرب وأمريكا للديمقراطية وحقوق الإنسان في مصر والمنطقة وفي ظل السلام الدافئ الذي تحدث عنه رأس السلطة في مصر والاندماج الكامل للسلطة، وهرولة دول إقليمية للتطبيع وإقامة التحالفات مع الكيان الصهيوني المحتل؟
هل هناك إدراك بأن مطالب التغيير لأجل الديمقراطية وحقوق الإنسان والعمل من أجل الاستقلال عن الهيمنة والتبعية يتصادم مع استراتيجية أمريكا في مصر والمنطقة والتي تستوجب مواجهة أي تغييرات والعمل على تصفيتها وتفريغ المنطقة منها؟
ألا يفسر ما حدث ويحدث في دول الربيع العربي والمنطقة ويشارك الغرب فيه أسباب الصمت وغض الطرف تجاه القتل والقمع وانتهاكات حقوق الإنسان والديمقراطية؟
هل تدرك الدولة المصرية ومؤسساتها الفاعلة أن ما يحدث في مصر الآن يمثل تطبيقًا على الأرض لرغبة القوى الدولية في إضعاف مصر وأن النظام بذلك ينوب عنهم في القيام بمهمة تصفية القوى الإسلامية والوطنية الرافضة للإرادة الصهيونية الغربية؟
هل يعمل النظام في مصر وفقًا لمبدأ كيسنجر (أن الخطر الحقيقي في هذه المنطقة سوف يتمركز حول عدم القبول بالإرادة الإسرائيلية) ويري النظام أن القبول بالإرادة الإسرائيلية هو الضمانة الأساسية لاستمرار دعم الغرب وأمريكا له وما يحدث على صعيد حقوق الإنسان والديمقراطية وغيرها ما هو إلا نتيجة طبيعية لذلك؟
هل يدرك الجميع أن الغرب وأمريكا ينظرون إلى أن استقرارًا من نوع ما في مصر إذا كان مطلبًا ملحًا لمصالحهم، فإنه يجب ألا يكون من خلال من يمثلون هوية مصر الإسلامية ولكن من خلال القوى العلمانية التي تعمل وفقًا للرؤية الغربية، ويفتقدون الظهير الشعبي وهذا ما يتطلب دعمًا من القوة العسكرية المهيمنة في مصر؟
ألا يطرح الانقلاب الفاشل الذي عاشته تركيا في الخامس عشر من يوليو/ تموز 2016 أسئلة ويقدم إجاباتها – من خلال أحداثه وما تكشف من الأدوار وردود الفعل الأمريكية والأوروبية – لجميع القوى في مصر حول ما يريده الغرب وأمريكا في مصر والمنطقة؟
ثالثًا: هل الديمقراطية وحقوق الإنسان دعاوى وأدوات ضغط؟
منذ الثالث من يوليو 2013 وما تلاه من أحداث قمعية ومجازر مروعة لأول مرة في تاريخ مصر بلغت ذروة الدموية في رابعة والنهضة، وهناك من يأملون دعم الحكومات الغربية وأمريكا (عبر نافذة الديمقراطية وحقوق الإنسان) في ملاحقة النظام العسكري على جرائمه وانتهاكاته في حق المصريين، والدفع نحو مسار الديمقراطية والحرية.
وفي سبيل ذلك تم اتخاذ خطوات متعددة عبر وسائل متنوعة ساهمت بدون شك في تعريف شعوب العالم بما حدث من النظام الحاكم في مصر ومثلت أيضًا نوعًا من الحرج للحكومات الغربية أمام شعوبها.
على مدار ثلاث سنوات مضت من السعي لمحاسبة النظام المصري على الجرائم التي ارتكبت وتقديم المسؤولين عنها للمحاكمة لم ينتج عن القوى الدولية سوى التصريحات والتوصيات على استحياء دون إجراءات عملية على أرض الواقع.
ورغم أن هذه الخطوات مثلت نوعًا من الضغط على النظام المصري إلا أن فريقًا من الحقوقيين ومعهم سياسيين يرون أن هناك قصور من جانب رافضي الانقلاب يتعلق بمسارات ثلاثة هي – التوثيق والمتابعة الجنائية وجماعات الضغط – وأن تدارك القصور في هذه الجوانب سوف يحقق النتائج المرجوة لمحاكمة المسؤولين أمام المحاكم الجنائية الدولية ويُلزم القوى الغربية بما يساهم في أحداث تغيير في الأوضاع ولو على المدى البعيد وينتصر على الأقل للدماء التي سالت والحقوق والحريات التي تم انتهاكها.
وعلى جانب آخر هناك من يري أن هذا التوجه لن يأتي بثماره مع قوى النظام العالمي سواء على المدى البعيد أو حتى الأبعد، وكذلك يرى آخرون من أنصار النظام في مصر أن الغرب يحرض ضد مصر (النظام المصري) بحجة حقوق الإنسان.
وبين أصحاب الرؤى السابقة حول الموقف الغربي من قضايا حقوق الإنسان والديمقراطية المنتهكة يقف الواقع وشواهد التاريخ.
مما لا شك فيه أن الخطوات التي تمت حتى اللحظة مثلت ضغطًا على النظام المصري في الغرب وقد شاهد الجميع آثاره، عبر البث الحي في مناسبات عدة، غير أن الغرب دأب على الاستفادة من ذلك، فقط لدفع النظام في مصر لتحقيق مصالحه، ومصالح الكيان الصهيوني على حساب الشعب المصري، فيستمر النظام في انتهاكاته وعلى جانب آخر يحقق ما يريده الغرب وأمريكا عبر مزيد من الانبطاح للإرادة الخارجية، بما يضمن استمراره ولو على حساب المصالح الوطنية والثوابت الاستراتيجية، ووفقا لما سبق يتحقق ما أشرنا إليه حول ما يريده الغرب من مصر.
أيضًا وعلى جانب آخر فإنه لا تتحقق ثمة مكاسب لرافضي الانقلاب تدفع في اتجاه المسار الديمقراطي واحترام حقوق الإنسان إلا ما يتماشي مع رغبات الغرب، في قضايا تتصادم في الغالب مع هوية الشعب المصري وثقافته الإسلامية، وبعيدة عن القضايا الأساسية التي لا تختلف عليها الثقافات والأعراف الإنسانية.
لمحات من الواقع والتاريخ
من خلال الواقع والتاريخ يمكن التنبؤ إلى ي مدى يمكن أن تتحقق التوقعات والتمنيات بنصرة الغرب للديمقراطية وحقوق الإنسان.
إن الغرب ومعه الأمم المتحدة التي يهيمن عليها وسائر المنظمات الأخرى على مدار العقود الماضية لم ينتصروا مطلقًا لحقوق الإنسان أو الديمقراطية إلا حيثما تتحقق مصالح الغرب والكيان الصهيوني المنتهك الأول لحقوق الإنسان في فلسطين المحتلة) فقرار الفيتو الذي طالما استخدمته أمريكا ضد أي مشروع قرار يدعو الكيان الصهيوني للامتثال لاتفاقية جنيف الخاصة بحقوق المدنيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وكذلك منع صدور أية قرارات من الأمم المتحدة ضد مصالح الدول الخمس صاحبة الفيتو على حساب الشعوب المستضعفة والديمقراطية وحقوق الإنسان، كل ذلك يؤكد على أن الديمقراطية وحقوق الإنسان ما هي إلا مجرد دعاوى وشعارات تتستر خلفها القوى الدولية.
أمثلة من الواقع المعاصر
إن الواقع المعاصر يعج بالأمثلة خاصة إذا تعلق الأمر بالعرب والمسلمين وبجماعات وأحزاب إسلامية أو أفراد ينتمون إلى مرجعية إسلامية، فإن حقوق الإنسان والحريات تُنحر نحرًا على مذبح المصالح وصراع الحضارات والأمثلة على ذلك لا حصر لها في (فلسطين، وسوريا، والعراق، والبوسنة، والهرسك، وأفغانستان، وإفريقيا الوسطى، وبورما وغيرها).
في مصر على سبيل المثال حدث أن منظمات حقوق الإنسان في أمريكا وأوروبا وقيادات سياسية رفيعة طالبت بالإفراج عن علاء عبد الفتاح وأحمد ماهر وأحمد دومه، كذلك هبت انتفاضة حقوقية عند احتجاز المخابرات الحربية للصحفي والناشط حسام بهجت، حتى إن السكرتير العام للأمم المتحدة بان كي مون أعرب عن قلقه تجاه ذلك، وهذا وإن كان أمرًا جيدًا ومحمودًا، لكن أين هي تلك المنظمات وهؤلاء المسؤولين رفيعي المستوى من آلاف القتلى، وعشرات الآلاف من المعتقلين الذين ينتمون للتيار الإسلامي والأحزاب الإسلامية.
في عهد مبارك تحرك الغرب وأمريكا وسائر منظماتهم للدفاع عن الدكتور سعد الدين إبراهيم – عندما صدر بحقة حكمًا بالسجن من القضاء المصري – حتى إن الرئيس الأمريكي وقتها (جورج بوش الابن) هدد بمنع المعونات الأمريكية الإضافية عن مصر حتى بعد أن تم نقض الحكم وصدر حكم مخفف عليه، كما زاره في سجنه سفراء المجموعة الأوربية الخمسة عشر بالإضافة إلى سفراء كندا وأمريكا وأستراليا وممثلي جمعيات حقوق الإنسان ومحامين – وهذا كله ليس له أثر مع رئيس منتخب هو الدكتور محمد مرسي، وكذلك رئيس البرلمان المنتخب الدكتور سعد الكتاتني ووزراء حكومة منتخبة وأعضاء مجالس نيابية منتخبين من الشعب؟!
غير أن ما سبق ليس بمستغرب، فالغرب وأمريكا ومنظمات حقوق الإنسان لم يتحركوا بنفس القوة التي تحركوا بها من أجل أفراد تجاه موت ما يقارب 500 ألف شخص في رواندا عام 1994 وأكثر من 200 ألف مسلم في حرب إبادة وحشية بغطاء دولي في البوسنة والهرسك، كذلك الحرب على العراق، فقد تسببت أمريكا وحلفاؤها الغربيون في قتل الملايين من أهل العراق وكذلك فى أفغانستان، واليوم يحدث في سوريا مجازر يومية في حق مدنيين عزل ومئات الآلاف من الضحايا وملايين المشردين وما حدث ويحدث كل يوم في فلسطين على أيدي قوات الكيان الصهيوني كل ذلك ليس ببعيد.
استغلال ملف الديمقراطية وحقوق الإنسان
إن حقيقة الموقف الغربي من الديمقراطية وحقوق الإنسان وكونها مجرد دعاوى وأدوات ضغط أم أنها غير ذلك يعبر عنه بوضوح تقرير للمنظمة الأميركية لحقوق الإنسان نشرته (مجلة لوفوفيل أوبزرفاتور) بتاريخ 22-3-1993 في عددها الثالث عشر، حيث ذكرت فيه (أن مبدأ حقوق الإنسان مظلة جميلة تحتمي بها الأمم المتحدة من حرارة الاشتباكات الدموية في المناطق الساخنة في العالم وليس كهدف لإنجاح عمليات السلام، وكانت مظاهر هذا التهاون كبيرة ومتعددة تتجلى في فقدان المصداقية وفي فشل العمليات وعدم القدرة على إيجاد الحلول الناجعة لحل النزاع.
إن ملف حقوق الإنسان والديمقراطية لا يتعامل معه الغرب وأمريكا تجردًا للقيم الإنسانية والأخلاق، ولكنه أداة للاستغلال حسب مصالحه، يضاف إلى ذلك أن الغرب وأمريكا ينظرون إلى مصر والبلاد العربية والإسلامية نظرة دونية ويعتبرونهم مفرخًا للإرهابيين ومن ثم فحقوق الإنسان والديمقراطية بعيدًا عن طرق أبوابهم ويعبر عن ذلك ريتشارد هاس – ذو الميول الصهيونية – مدير التخطيط السياسي بوزارة الخارجية الأمريكية في كلمته التي ألقاها أمام مجلس العلاقات الخارجية قبل أسبوع تقريبًا من لإعلان كولن باول وزير الخارجية الأمريكي السابق عن مبادرة شراكة بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط حيث قال “إن التجارب القاسية علمتنا أن مثل هذه المجتمعات (العربية والإسلامية) مصدر الإرهابيين والمتطرفين الذين يستهدفون أمريكا لتأييدها للنظم الحاكمة في بلادهم”.
لذلك فإن على شعوبنا المقهورة أن تدرك بأن الديمقراطية الليبراالية الغربية حق خاص بالغرب، وأن البلدان الرأسمالية لا تسمح بتمتع الشعوب المقهورة بمثل هذه الديمقراطية خوفًا من أنها قد تمنع الشركات الرأسمالية من استغلالها، بل قد يقرر شعب ما التحرر من المستعمرين.
وهنا يؤكد الباحث كازانجيكيل على أن النظام الرأسمالي يمنع قيام المواطنين في العالم الثالث من خلق رأسماليتهم المحلية المستقلة، مما منعهم من مكافحة بيروقراطية دولتهم التابعة أو سيطرتهم على الحكومة والدفاع عن مصالحهم الاقتصادية كأية دولة غربية ذات سيادة، فالدولة المحلية تشكلت لحماية الإنتاج الرأسمالي للشركات عابرة الأوطان التي تمول الدولة العميلة لهذا الغرض.
لكن يبدو أن الغرب راضٍ في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بدعم طائفة من المستبدين العرب، طالما هم يدعمون المصالح الغربية ويرعونها، في مناطق العالم الأخرى، متوقع من الحكومات – من حيث المبدأ على الأقل – أن تخدم شعوبها، لكن الغرب ينظر إلى أباطرة ومستبدين العالم العربي وكأنهم ضمانة “الاستقرار”، حتى لا ينزاح الغطاء عن صندوق المطالب الشعبية، العالم يروج لحقوق الإنسان كقاعدة عامة، لكن العالم العربي هو الاستثناء في نظر العالم.
رابعًا: ماذا بعد في ظل المشهد الحالي؟
هذا بدون شك السؤال الذي يبحث عن إجابة شافية استنادًا إلى المحاور الثلاثة السابقة ويحتاج قراءة واقعية للمشهد الداخلي وتطوراته خلال هذه السنوات الثلاث وبيان منحنى القوة صعودًا وهبوطًا لتقدير أوليات المرحلة وتحديد الوسائل، مما يتطلب صياغة استراتيجية جديدة واضعة في الاعتبار الأبعاد الإقليمية والدولية، وإدراك طبيعة المرحلة ونوع المواجهة التي تتجاوز حدود الداخل لأنها مواجهة من أجل التحرر واسترداد الإرادة والانفكاك من الهيمنة والتبعية.
إن مصر وغيرها من الدول العربية لن يُتركوا لينعموا بنظام حكم ديمقراطي رشيد ومن ثم لن يتحقق فيهم عدل أو انتصار لحقوق الإنسان، لأن ذلك يجعل منهم قوة استراتيجية كبرى جيوسياسية، وهذا هو الخطر الأكبر على المصالح الغربية والأمريكية ومصالح الكيان الصهيوني المحتل، لذلك فمستقبل الحرية وحقوق الإنسان في مصر والمنطقة مرهون بقدرة المصريين وشعوب المنطقة على تحقيقه وفرضه على العالم فرضًا لأن الغرب وأمريكا يرون في نظم الحكم العسكرية العلمانية في بلد كمصر ضمانة لمصالحهم وأن أي محاولة للانفكاك من التبعية والهيمنة من أجل الاستقلال الحقيقي سوف يعمل الغرب على مواجهتها وإفشالها، ولعل أقرب مثال واضح على ذلك هذا الانقلاب الفاشل على الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحكومة العدالة والتنمية في الخامس عشر من يوليو/ تموز 2016.
كذلك فإنه على النظام الحاكم في مصر أن يدرك أن الاستمرار على نفس النهج لن يحقق سوى المزيد من الإخفاق والتردي على كافة الأصعدة وأن الحالة التي عليها النظام الآن والاستمرار في طريق الانتهاك لحقوق الإنسان وتسميم العلاقة بين السلطة والشعب هي الحالة المثالية التي تسعى القوى الدولية لتخليقها في بلد محوري كمصر حتى تظل في حالة فشل وخاضعة للضغوط والإملاءات وواقع مصر السياسي، والاقتصادي خير مثال على حالة التردي والانهيار التي تعيشها مصر الآن، كما أنه من الصعوبة بمكان أن يضمن الاستمرار بهذا الشكل استمرارية للنظام لأن ذلك يخالف نواميس الكون وطبائع الأشياء.
فائدة وتوصية
إن المرحلة التي تعيشها مصر والأمة، في ظل موقف النظام العالمي الذي تقوده أمريكا وحلفاؤها يحتاج من جميع الفاعلين التركيز على الاعتماد المطلق على النفس بعد الله وبعث الروح في الأمة من جديد، وطرق كافة الأبواب الأخرى بما فيها باب الملف الحقوقي عبر المنظمات والهيئات الدولية والتي إن أكدت التجارب وحقائق التاريخ أنها أدوات بيد من يقود النظام الدولي إلا أن ذلك لا يمنع مطلقًا من ولوج الطريق لخلق وعي دولي على مستوى الشعوب قد يكون له أثر في الجانب المعنوي وربما يتخطاه لشيء ملموس على الأرض.
كذلك لا بد من العمل على وضع تصور لبناء جسور تواصل مع الكيانات المحلية والدولية والإقليمية المناهضة للتبعية والهيمنة وخلق علاقات مع القوى الشعبية والنخب الفاعلة إقليميًا ودوليًا والرافضة للتبعية والهيمنة الغربية الأمريكية ولا سيما في الدول التي خاضت تجارب مشابهة للحالة المصرية ولا تعادى الفكرة الإسلامية وذلك عبر صياغة وتقديم مشروع حضاري مغاير وموازٍ للمشروع الأمريكي الأوروبي.
هناك حاجة ملحة لإعداد مشروع وطني متكامل ورؤية للتعامل مع كافة مؤسسات الدولة السيادية وغير السيادية وكافة الأطياف السياسية والمكونات الفاعلة في مصر للخروج من هذا المأزق التاريخي بما يستوجب العمل على فتح خطوط تواصل مع كافة الشرفاء.
لا بد أن يعي الجميع بأن المنطقة تمر بمرحلة تحول تاريخي وأن الصراع صراعًا من أجل التحرر والاستقلال ومن أجل تحقيق دولة العدل والحرية.
إن سنن الله في الكون ماضية، فالله سبحانه وتعالى توعد الظالمين فقال تعالى {ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون} وأن مآل الظالمين لن يخرج عن مآل الأمم السابقة {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون}.
كذلك لا بد من العمل على تحقيق أسباب النصر كما في قوله تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا} فالمرحلة تحتاج إلى إدارة المشترك وإدارة التعدد وإدارة الاختلاف.
خاتمة
إن الغرب وأمريكا لم يكن موقفهم أكثر وضوحًا من قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان في مصر وفي العالم الإسلامي كما هو واضح الآن، فالغرب بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية مع الصهيونية العالمية لن ينتصروا لحقوق الإنسان والديمقراطية في منطقتنا، وأن هيئات النظام العالمي ومنظماته ومحاكمه الجنائية بحكم الواقع والشواهد عندما يتعلق الأمر بالعرب والمسلمين تصبح حقوق الإنسان والديمقراطية مجرد دعاوى وأدوات ضغط وشعارات.
إن من الصعوبة بمكان أن يكون الغرب وأمريكا قادة الاستعمار الحديث عونًا أو حكمًا عادلاً، ووسيطًا نزيهًا بين طالبي العدالة والحرية وبين أنظمة الظلم والاستبداد، ذلك أن الغرب وأمريكا صناع الهيمنة والتبعية، وما تلك النظم التي تقف بين حرية الشعوب، وتنتهك ثوابتها إلا صناعة أياديهم، لذلك يرى البعض أن من العبث انتظار النصرة من الغرب وأمريكا لحقوق الإنسان والديمقراطية ما لم يتقاطع ذلك مع مصالحهم الاستراتيجية.
إن حقيقة مهمة يغفل عنها كثيرون عن قصد أو بغير قصد وهي أن الغرب وأمريكا يعتبرون الإسلام منافسهم الرئيسي في أنحاء المعمورة، ومن ثم فإن أي انتهاك للحريات وحقوق الإنسان في بلاد المسلمين، فإن الغيرة على حقوق الإنسان والأخلاق والقانون تتوارى وتكون الجرأة عليها أشد ويصبح غض الطرف والتمرير سيد الموقف، وهذا في حد ذاته يعد ارتدادًا على ما أنجزته البشرية في مجالات التشريع والاتفاقات الدولية والأعراف المرعية بما يفتح الباب لفوضى عالمية ويحول العالم إلى غابة لا تحتكم إلا لمعايير القوة الباطشة.