أسوأ ما أبتلى به المجتمع التونسي هيمنة “ثقافة القطيع” عليه، مما أدى إلى تعميق الانقسام وتعظيم الخلافات وظهور ما يعرف بـ “الاستقطاب السياسي والمجتمعي الحاد”.
ينشأ الإنسان عادة في بيئة ذات عقيدة معينة وعادات معينة، فهو لا يكاد يفتح عينه للحياة حتى يرى أمه وأباه وأهل بيته وأقرانه يطيعون شيخًا أو يقدسون صنمًا أو يهيبون رجلًا من رجال التاريخ أو الحاضر، وينسبون إليه كل فضيلة وكل حكمة، وعقل الإنسان ينمو في هذا الوضع حتى يصبح كأنه في قالب، وهو لا يستطيع أن يفكر إلا في حدود ذلك القالب، إنه مقيد ويحسب أنه حر، إنه تابع ويحسب أنه متبوع، فنحن أمام سلوك بشري يحيّد منحة العقل التي وهبها له الله وميزه بها عن القطيع الذي يسير بلا فكر ولا قناعة ولا هدف لأنه سلم زمام أمره لمن يفكر ويقتنع ويخطط للهدف بالنيابة عنه.
“ثقافة القطيع” كما يراها العديد هي استبعاد العقل وغياب المنطق وهيمنة الهوى وشخصنة المواقف وتحول الاختلاف في الرأي إلى جدال عقيـــم وتمترس كل فريق وراء مواقفه والانحياز الأعمى لكل فرد للفصيل الذي ينتمي إليه، ذلك ليس عن قناعة بقدر ما هو نكاية في الطرف الآخر بغض النظر عن الأفكار والقيم.
وفي ظل “ثقافة القطيع” يكثر التلاسن والتنابز بالألقاب وتبادل الاتهامات بالتآمر والخيانة والعمالة، كل جانب يحاول بها النيل من الجانب الآخر، وفيها أيضًا يهوى مستوى الحوار لمستنقع سحيق تستخدم خلاله أسوأ العبارات والألفاظ، والأخطر في ذلك توسع ظاهرة “إذا لم تكن معي في الرأي فأنت خصمي وعدوي” التي سادت اليوم وأصبح شباب الأحزاب والمجتمع المدني يتعاملون معها وكأنها عرف اجتماعي، فالأمور السياسية تشكل عندنا هاجسًا كبيرًا في أن نتحدث فيها كثيرًا وعندما نختلف في وجهات النظر يتحول خلافنا إلى صدام.
لقد درسونا ونحن صغار “أن الاختلاف لا يفسد للود قضية” وهي بيت شعر عربي قديم وليس ضروريًا أن تعبر أقوال الشعراء عن الواقع، فالمجتمعات العربية أبعد ما تكون عن تلك المقولة، ويرجع هذا لقيامها على القبلية والعشائرية والعائلة والتي تدعم ثقافة الجماعة بمعنى التعصب للأصدقاء، والفريق الرياضى المفضل، والدين، وغيرها من الآراء السياسية والثقافية، لذا ترفض مجتمعاتنا الاعتراف بالآخر وتعتبر الاختلاف معه مبررًا للعداء.
للأسف فلقد نشأت مجتمعاتنا على ثقافة يسود فيها الخلاف، بمعنى مخالفة كل ما يعارض أفكارنا وتفكيرنا وميولنا، وقد ترسخت تلك الثقافة في اللاشعور العربي نتيجة للتخلف والتأخر الذي عرفته مجتمعاتنا، وذلك نتيجة عوامل عديدة، أهمها الأنظمة التي سادت ولا تزال سائدة أو حتى الجديدة ، بالإضافة إلى الزعامات السياسية الأحادية والمهيمنة والديكتاتورية التي حكمت ولا يزال معظمها يحكم أو المعارضة، فالكل في واحد، والواحد هو الزعيم الملهم المسيطر المفوه ذو الكاريزما الطاغية.
نحن ببساطة لا نعرف كيفية أن نختلف أو حتى نتفق، والدليل على ذلك ما نشاهده من برامج حوارية فى الإعلام فنجد الضيوف، مهما كانت درجة ثقافتهم، لا يمنح أحدهم فرصة للآخر كي يتحدث أو يعبر عن رأيه، فضلًا عن الأساليب التي يتعاملون بها عند الاختلاف، ومن ثم علينا إعادة النظر في ثقافة الحوار.
كلمات جديدة – قديمة أو العكس تهدد لغة الحوار إن لم تضعها في دائرة الحظر، كلمات مثل مخطئ، وضدي، وخصمي، وعدوي، هذه الكلمات هي الخيارات الأكثر احتمالاً لأن تكمل عبارة “إذا لم تكن معي، فأنت…” إذا ما قالها الكثيرون في وقتنا الحاضر، فقد صارت هذه النوعية من التفكير الإقصائي للأسف ظاهرة ملموسة في مجتمعاتنا على المستويات كافة، فكثيرًا ما نرى من يلجأون إلى الإقصاء الفكري لمجرد وجود اختلاف في الرأي حيال أمر ما، بل حتى دول كبرى مارست هذا النهج فأخذت مبدأً لسياستها الخارجية “إذا لم تكن معي فأنت ضدي”.
تستطيع أن تتحاور معي وتكسب قضيتك دون إهانتي، وفي هذه الحالة لم تفسد للود بيني وبينك مكانة، وقد تتمكن من إقناعي بوجهة نظرك، حتى لو أوصلتني إلى مرحلة الخجل من حوارك وأصبحت مقتنعًا برأيك وأدافع عنه، أيضًا، كما أن انعدام الود يفسد للرأي قضية، فقد يكون رأيك مطابقًا لرأيي، ولكنك تخالفه عمدًا، بسبب انعدام الود بيني وبينك، فتعارض نفسك وتعاندها لمجرد أنك لا تريد أن تتفق معي.
يجب أن نؤمن (أنا وأنت) بأن قبول ثقافة الآخر المختلف لا يعني بالضرورة الاقتناع بها، إنما هو إقرار بوجود الاختلاف معها وبوجود هذه الثقافة وقبولها من قبل الآخر، وأن الخلاف في الرأي يجب ألا يفسد الود، وأن مناقشة الأفكار أجدى وأكثر فائدة من اعتقال الآراء، وأنه إذا أشار إصبع إلى القمر، فالأغبياء وحدهم هم الذين ينظرون إلى الإصبع.
والحل الأوحد هو تنمية ثقافة الاختلاف خاصة لدى الأجيال الجديدة، فهي وحدها القادرة على فتح آفاق جديدة رحبة لنا جميعًا في تقبل الآراء الأخرى، والاستفادة منها، بل وتحويلها إلى فكر مستنير تشترك فيه عقول مختلفة تكون على يقين تام بأن تواجدها وجلوسها وتحاورها من أجل التفاهم وإيجاد الحلول لمشاكلها مع الاحترام المتبادل لجميع الآراء.
الحل لا يأتي إلا بنفوس صافية وصادقة، وقلوب رحيمة متسامحة، وعقول نيّرة ومتفهمّة، وآذان صاغية متقبلة لآراء الآخرين تخلق مناخًا تشترك فيه الثقافات المختلفة لحوار مثمر يعود بالنفع على الجميع، ويساعد على إقامة حس مجتمعي تكافلي، وبذلك يسهل عملية التواصل الداخلي بين أبنائه، ويغذي ثقافة كثيفة متماسكة ويمدها بأسباب الحياة.