مع اقتراب الانتخابات التشريعية في المغرب، التي ستجرى يوم 7 أكتوبر القادم 2016، يحتدم النقاش بين الأحزاب حول الحصيلة الحكومية، ويتنافس المرشحون في بذل الوعود للناخبين، وتظهر تفاصيل الحياة الخاصة للسياسيين كوسيلة لتشويه الخصم.
وإلى جانب هذا النقاش والصراع بين الأحزاب المنخرطة في العملية الانتخابية، يطرح في مثل هذه المناسبات سؤال عن جدوى المشاركة في الانتخابات، وهو سؤال قديم، يتجدد عند كل مناسبة انتخابية، ليؤكد انقسام الفاعلين السياسيين والباحثين والشارع حول هذا السؤال بين مؤيد للمشاركة وداعٍ لمقاطعة الانتخابات.
حجج المؤيدين للمشاركة في الانتخابات
يرى فريق المؤيدين للمشاركة في الانتخابات أن دستور 2011 جاء بعدة مستجدات يمكن أن تشكل فرصة مهمة من أجل إرساء الديمقراطية في المغرب، من هذه المستجدات، أن الدستور الجديد اشترط أن يكون رئيس الحكومة من الحزب الذي تصدر الانتخابات التشريعية، ووسع من صلاحيات رئيس الحكومة واختصاصات السلطة التشريعية، وارتقى بالقضاء كسلطة مستقلة، وبالتالي، فإن هذا النص الدستوري يعتبر دافعًا للانخراط في العملية الانتخابية من أجل دعم وترسيخ هذه الجوانب الإيجابية بشكل عملي.
كما يعتبر نفس الفريق أن الانتخابات التشريعية لسنة 2011، التي بوأت حزب العدالة والتنمية رئاسة الحكومة، برهنت على قرار الدولة بالقطع مع التزوير وممارسات الماضي والدخول في “عهد النزاهة وحياد الإدارة”.
وإلى جانب هاتين الحجتين، يضيف فريق المؤيدين للمشاركة حجة ثالثة تتمثل في كون المقاطعة تشكل فعلاً سلبيًا ونوعًا من الانتظارية والجمود غير المجديين، وهو ما يعطي الفرصة للفاسدين انتخابيًا، لأن ارتفاع نسبة المشاركة تشكل قطعًا للطريق على تجار الانتخابات، وبالمقابل يشكل انخفاض هذه النسبة فرصة للمرشحين الذين يحاولون شراء ذمم الناخبين.
حجج المقاطعين للانتخابات
يقدم فريق المقاطعين للانتخابات مجموعة من الأسباب التي تفسر موقف المقاطعة، تصويتًا وترشيحًا، ويشكل عدم ديمقراطية النظام السياسي المغربي رأس هذه الأسباب، وتتمثل عدم ديمقراطية النظام السياسي المغربي في عدم ارتباط مخرجات هذا النظام بالإرادة الشعبية، فالشعب لا يختار المقررين الحقيقيين في الشأن العام ولا يملك محاسبتهم على حصيلة قراراتهم، ورغم إقرار هذا الفريق بالإيجابيات التي جاءت في دستور 2011، إلا أنهم يرون أن هذه الإيجابيات تبقى قاصرة ولم تستطع إرساء ديمقراطية حقيقية تقطع مع مراكز القرار المنفلتة من أية رقابة شعبية، وفشلت في ضمان ربط القرار في الأمور الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، الداخلية والخارجية، المدنية والأمنية والعسكرية، بصناديق الاقتراع.
ذلك أن التجارب المقارنة، حسب فريق المقاطعين للانتخابات، تؤكد أنه لا يمكن الجمع بين الملكية والديمقراطية إلا من خلال ملكية برلمانية، تعطي دورًا رمزيًا لصاحب المشروعية التاريخية (الملكية) ودورا مقررًا لصاحب المشروعية الديمقراطية (الحكومة المنتخبة)، وهو ما ليس متحققًا في المغرب، الذي تمارس فيه المؤسسة الملكية وظائف تنتمي إلى مجال السلطة التنفيذية (رئاسة المجلس الوزاري الذي يعتبر أعلى هيئة في السلطة التنفيذية، سلطة إعفاء الوزراء حتى في غياب طلب من رئيس الحكومة ).
كما يقدم فريق المقاطعين حجة أخرى، تتمثل في كون الظرفية السياسية التي صيغ فيها دستور 2011 كانت ظرفية متوترة تحت ضغط احتجاجات حركة 20 فبراير وثورات على المستوى الإقليمي (تونس، مصر، ليبيا …). وهو ما أفرز، بفعل الاستعجال، نصًا دستوريا غامضًا في بعض مقتضياته، وغير دقيق في عباراته، ومتناقضًا في بعض جوانبه.
وهو ما يعني أن إيجابيات الدستور الحالي ليست تعبيرًا حقيقيًا عن الرغبة في الإصلاح الديمقراطي، بقدر ما كانت هذه المراجعة الدستورية وسيلة لتجاوز ظرفية معينة تميزت بتصاعد الاحتجاج، والدليل على ذلك أنه قبل 20 فبراير 2011 لم يكن التعديل الدستوري مطروحًا بأي شكل من الأشكال لدى الفاعلين السياسيين، الذين كانوا يرون أن المشكلة في الأحزاب وليس في دستور 1996، لكن تغير موقفهم بشكل جذري مباشرة بعد المبادرة الملكية في خطاب 09 مارس 2011 لمراجعة الدستور.
الخلاصة التي يخرج بها فريق الداعين لمقاطعة الانتخابات هي أن المشاركة في انتخاب مؤسسات، لا تؤدي إلا دورًا هامشيًا في تدبير الشأن العام، تعتبر مساهمة في تأخير الإصلاح الديمقراطي، لأن المشاركة المكثفة في هذه الانتخابات تعطي زخمًا للوضع الحالي ليستمر الوضع على ما هو عليه، وترسل رسائل مغلوطة إلى الخارج بوجود ممارسة ديمقراطية سليمة، وبالتالي، فإن الحل هو مقاطعة الانتخابات كشكل احتجاجي يمكن أن يشكل ضغطًا، إذا توحدت جبهة المقاطعين وتضافرت المقاطعة مع باقي الأشكال النضالية الأخرى، بهدف تجاوز الوضع غير الديمقراطي في شكله الحالي.
تقييم موقف الفريقين
بعد هذا الجرد المختصر لحجج كل من الفريق المؤيد للمشاركة في الانتخابات والفريق الداعي للمقاطعة، يمكن القول أن الفريقين يتفقان في ضعف الممارسة الديمقراطية في المغرب، لكنهما يختلفان في حجم ومستوى هذا الضعف، والسؤال المركزي الذي – ربما – يتمحور عليه خلاف الفريقين هو: هل يمكن تحقيق إصلاح ديمقراطي من داخل مؤسسات تنتمي لنظام غير ديمقراطي؟
تؤكد التجربة المغربية أن انخراط الأحزاب في المؤسسات المنتخبة يساهم في تخفيض سقف مطالبها وتليين خطابها السياسي وتبني مواقف تبريرية لأخطاء النظام، بخلاف خطابها وهي في المعارضة وخارج المؤسسات المنتخبة، فهذه الأحزاب الممثلة في البرلمان وباقي المؤسسات لا تثير بشكل جدي مطلب الإصلاح الديمقراطي وتميل إلى التوافق وعدم الصدام مع باقي المؤسسات ومراكز القرار، وهو ما يؤكد أن الانخراط في المؤسسات المنتخبة يشكل في حد ذاته قيدًا على حرية الفاعلين السياسيين، وبالتالي، فإن الإمكانات والصلاحيات التي يتوفر عليها المنتخبون (مراجعة الدستور، مقترحات قوانين، الإعلام العمومي ….) تصبح غير مجدية، لأنها لا تستعمل من أجل محاولة اختراق وتفكيك مراكز القرار التي لا تخضع للرقابة الشعبية، وهو ما يؤدي إلى تأجيل الإصلاح الديمقراطي إلى أجل غير مسمى.
وفي المقابل، فإن المقاطعين للانتخابات يعانون من عدم تطوير خطابهم السياسي ومن غياب الإبداع في أنشطتهم ومن التشتت والصراعات بين مكونات جبهة المقاطعة (إسلامي – يساري، قومي – عربي – أمازيغي …)، كما أن الحصار على هذا الفريق ومقاطعة الإعلام العمومي لهم يساهم في عدم بروز النشاط السياسي للمقاطعين للانتخابات، وهو ما يجعلهم يظهرون بمظهر السلبية والجمود وتكرار نفس الخطاب النقدي للسلطة غير الديمقراطية، دون أية نتيجة تذكر على أرض الواقع.
وفي النهاية، فإنه لا المشارك نجح في إحداث التغيير الديمقراطي من داخل المؤسسات، ولا المقاطع نجح في الضغط على النظام من خارج المؤسسات لدفعه نحو إصلاح ديمقراطي حقيقي.
ويبقى تقييم موقفي المشاركة والمقاطعة مرتبطًا بثلاثة عناصر رئيسية:
أولاً: هل الفاعل السياسي الذي يتخذ موقف المشاركة أو موقف المقاطعة يتبنى الديمقراطية أم لا؟
ثانيًا: هل الفاعل السياسي الذي يتخذ موقف المشاركة أو موقف المقاطعة يعتبر فعالاً في موقعه أم لا؟
ثالثًا: هل الفاعل السياسي الذي يتخذ موقف المشاركة أو موقف المقاطعة يؤمن بإمكانية تعاون الديمقراطيين من داخل المؤسسات مع نظرائهم من خارج المؤسسات؟ مادام أن الهدف، في النهاية، هو تحقيق الديمقراطية التي تعطي للشعب سلطة القرار.
على ضوء هذه العناصر الثلاثة، يمكن القول أن العبرة ليست بموقف المشاركة أو موقف المقاطعة، لكن العبرة بمدى الفعالية في أي من الموقفين ومدى الاستعداد لمد جسور التعاون مع المؤمنين بالديمقراطية، مهما اختلفت مواقعهم ومواقفهم من المشاركة في الانتخابات، لأن الديمقراطية هي القضية التي يجب أن تكون لها الأولوية في وضع غير ديمقراطي.
ويبقى عنصر التعاون بين المؤمنين بالديمقراطية، سواء من داخل المؤسسات أو من خارجها، صعب التحقق على المستوى العملي، لأن الاختلاف الإيديولوجي والسياسي هو المحدد الرئيسي لطبيعة العلاقات بين الفاعلين السياسيين، وهو ما يقطع أية إمكانية لبناء جسور التعاون حول قضية الديمقراطية بين هؤلاء الفاعلين السياسيين، الأمر الذي يجعل إمكانية تحقيق الإصلاح الديمقراطي في المغرب في المدى المنظور مستبعدة.