قبل فترة أصدرت لجنة تحقيق أممية تقريرًا يشير إلى استخدام النظام وداعش لأسلحة كيميائية في كل من لمنس وسرمين ومارع خلال العامين الأخيرين، لتضيف بذلك شهادة جديدة إلى ملف جرائم النظام السوري خلال الحرب التي لم يتورع فيها عن استخدام الآلة الحربية في كل أشكالها المشروعة والمحرمة دوليًا في مواثيق واتفاقيات الحروب، دون الاهتمام مطلقًا بتحييد التجمعات السكانية والمرافق العامة، بل العكس تم إمطارها واستهدافها بالبراميل المتفجرة والقنابل العنقودية والفسفورية بشكل متكرر ومنهجي حسب مراصد حقوق الإنسان من خلال تقاريرها الميدانية.
كانت بداية تسجيل حالات استخدام الكيماوي في بعض البلدات السورية عام 2012، لكن تم تجاهلها لأن الأضرار كانت محدودة حتى استيقظ العالم على مأساة الغوطتين في ريف دمشق التي استهدفت بغاز السارين وراح ضحيتها 3600 شخص، وهو ما أدى إلى حالة صدمة عامة كانت من نتائجها الدعوة إلى ضرب المنشآت العسكرية التي يتم فيها تخزين وتصنيع الأسلحة الكيماوية، وقد كانت الأمور تسير في هذا الاتجاه لولا العرقلة الروسية في ذلك الوقت لمجلس الأمن الدولي والتردد الأمريكي في اتخاذ خطوة منفردة وهو الأمر الذي أدى إلى عقد اتفاق ينزع أسلحة النظام الكيماوية وتدميرها، كما صدر القرار 2118 الذي نص على إمكانية تدخل مجلس الأمن تحت الفصل السابع في حال الإخلال بالاتفاق من قبل الحكومة السورية.
وهو القرار الذي تم خرقه مرات عديدة، ففي عام 2014 تم تسجيل أكثر من عشرين هجومًا على مواقع مختلفة بأسلحة كيماوية، كانت تتلوها إدانات أو تصريحات من قِبل سياسيين لكن دون النظر جديًا في هذا الملف.
وتعود أسباب تجاهل هذه الخروقات لعدة أمور من بينها: تركيز الفاعلين الدوليين إلى التوصل لتسوية عن طريق التفاوض مع النظام، خاصة وأن الأساليب الأخرى تم استبعادها في وقت مبكر بسبب تكلفتها وتعقيدات تنفيذها، الأمر الثاني يكمن في أنه لا توجد ضغوط حقيقة لإنهاء المأساة في سورية، حيث يبدو أن العالم أصيب بخدر ما، فالأحداث خارج القارتين الأوروبية والأمريكية مهما كانت جسامتها لم تعد تثير اهتمام أحد، يظهر هذا جليًا في التناول الإعلامي لكل ما يتعلق بسورية للأسف.
كل هذا أدى إلى المزيد من تشجيع نظام الأسد على استخدام الأسلحة المحرمة التي تعد الأسلحة الكيماوية أعلاها ضررًا وخطورة، واستمراره في ذلك خصوصًا أنه يملك دوافع أخرى تكمن في:
– الرغبة في تسليط أقصى العقوبات على المناطق التي احتضنت المعارضة مثل حلب وإدلب حسب شهادات ضباط منشقين عن الجيش النظامي.
– عدم القدرة على تحقيق حسم لمدة طويلة، بسبب حالة التمزق والانهيار التي أصابت الجيش النظامي بسبب طبيعة الحرب الداخلية وكثرة الانشقاقات، وأيضًا حالة ضعف التعبئة التي أصابته بسبب تراجع دعم الطوائف الداعمة للأسد نتيجة التكلفة العالية للحرب التي دفعتها من دماء أبنائها، لهذا السبب تم اللجوء إلى كل الأساليب الممكنة لتعويض هذا الضعف بتحقيق انتصارات سريعة من خلال ضربات عشوائية تهدف إلى إضعاف الروح المعنوية للمعارضة وتفتيت حاضنتها الاجتماعية إلى جانب الأساليب الأخرى التي تظهر عدم الرحمة في التعامل مع الخصوم مثل تطبيق الحصار والإعدامات الميدانية والتعذيب داخل السجون.
– ضمان الأسد لغطاء دولي يحميه من العواقب المباشرة لهذا السلوك، متمثلاً في الفيتو الروسي الصيني الذي أفرغ القرارات الأممية من محتواها حيث أضحى من غير الممكن تمرير الملفات الشائكة مثل إحالة الملف السوري للمحكمة الجنائية الدولية، أو فرض عقوبات متشددة على نظام الأسد، كل ما أصبح من الممكن الحديث عنه، هو حماية المدنيين أو تمرير المساعدات دون وضع آليات فعالة لتنفيذ هذه القرارات ميدانيًا.
– إدراكه لصعوبة التحقيق في ملف الهجمات بالأسلحة الكيماوية، حيث إن الغازات تتحلل بسرعة، ومن الصعب رصد الحالات في المناطق المنكوبة المعزولة، أيضًا صعوبة تأكيد مسؤولية النظام المباشرة على استخدامها.
فحسب الصفقة التي تم إبرامها كان من المفروض أن يتم تفكيك قدرة النظام السوري على إنتاج أو الاحتفاظ بالأسلحة الكيماوية، لكن في المقابل لا توجد أي ضمانات حول مدى إمكانية احتفاظ النظام بكميات قليلة مخباة، أو قدرته على تصنيع كميات جديدة، ولا تكمن خطورة هذه الأسلحة فقط في استخدامها، بل في وقوعها في يد الجماعات المتطرفة وهو أمر ممكن الحدوث بطريقتين:
– إما استيلاء هذه الجماعات على هذه الأسلحة بعد هزيمة قوات النظام، والسيطرة على منشآته العسكرية.
– أو عن طريق الإتجار، إذ إن هناك شواهد لمعملات تجارية بين نظام الأسد والدولة الإسلامية في مجال النفط عبر وسطاء غير مباشرين، ليس مستبعدًا أن يتم الانتقال في خطوة أخرى إلى بيع تكنولوجيات عسكرية مماثلة، فاقتصاد الحرب وفساده يفرض نفسه في النهاية ولا يمكن أن نتوقع حجم المفاجآت التي يمكن أن تحدث.
حسب القرائن والأدلة المتاحة أغلب هجمات الكيماوي يمكن نسبها إلى النظام، فنطاقها ومواقعها قريبة من المنشآت العسكرية النظامية وأيضًا التكنولوجيا المطلوبة في تصنيعها، مثل ما تم رصده في الهجوم على الغوطتين عام 2013، حتى المليشيات الإيرانية المقاتلة من الصعب أن تنسب أعمال مماثلة لها، فانتهاكاتها كانت ضمن حدود إمكانياتها مثل التخريب والاعتقال والإعدامات الميدانية، لكن لا يمكن نفي المشاركة الروسية التي ثبت أكثر من مرة استخدامها للقنابل الفسفورية والعنقودية.
أثناء ذلك لا يوجد الكثير لفعله سوى ما تعاهد على القيام به ولم تثبت نجاعته للأسف لكن يبقى أفضل من الوقوف دون تحريك ساكن في ظل استمرار ارتكاب النظام لهذه الجرائم، مثل:
– التأكيد على توثيق هذه الجرائم من قبل منظمات المتخصصة خصوصًا وأن هذه الجرائم ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم، وأيضًا لإثبات القصد الجنائي المتمثل في الاستخدام المنهجي لهذه الأسلحة يتطلب تسجيل تكرار الحالة أكثر من مرة .
– بذل المزيد من الجهود لحماية المدنيين بأي وسيلة كانت سواء من خلال وضع آليات لتنفيذ القرارات الأممية أو تشجيع فصائل المعارضة على توفير الحماية للمدنيين، أو فتح المجال للأفكار غير التقليدية مثل تأمين منطقة عازلة حتى وإن كانت الحلول في هذا الإطار غير واقعية وغالبًا لا تجد آذانًا صاغية نظرًا لتكلفتها الضخمة.
– فرض عقوبات بديلة خارج الأطر التي يمكن أن يحظى فيها الأسد بالتغطية والحماية الدولية لروسيا والصين مثل العقوبات الاقتصادية التي فرضها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية على البنك المركزي السوري وعائلة الأسد حتى وإن كانت بعض التقارير تشير إلى حدوث اختراقات في هذا الصدد؛ مما أدى إلى إفقاد هذه العقوبات محتواها، لكنها تظل آليات ممكنة التحقيق دون أي تعقيدات.
– محاولة التوصل إلى تهدئة لحرب أو تسوية عادلة للحد من المأساة الإنسانية المتفاقمة، وهو أفضل الإجراءات التي يمكن اتخاذها في الوقت الحالي.