جاء تنفيذ حكم الإعدام بحق “مير قاسم علي”، عضو المجلس التنفيذي المركزي للجماعة الإسلامية في بنغلاديش، بدعوى إدانته بارتكاب جرائم خلال حرب الاستقلال عن باكستان عام 1971، أمس السبت ، ليضع الكثير من علامات الاستفهام حول مستقبل الإسلاميين في بنجلاديش لاسيما بعد مخططات “علمنة” الدولة التي يتبناها النظام الحاكم هناك، لاسيما وأن هذا الحكم لم يكن الأول بحق قيادات الجماعة، إذ سبقه تنفيذ حكم الإعدام بحق عبدالقاد ملا، الأمين العام المساعد الثاني، في 2013.
وبالرغم من الأغلبية المسلمة في هذه البلاد والتي تتجاوز 90% من إجمالي عدد السكان إلا أن ما يتعرض له المسلمون هناك على أيدي الأقلية العلمانية أقل ما يقال عنه أنها “جرائم حرب” وسط حالة من الصمت الدولي المخيم على كل ما يتعلق بالبطش ضد المسلمين، سواء في بنجلاديش أو بورما أو الشيشان أو الصومال وغيرها من الدول التي بات فيها الإسلام قصعة مستباحة لأهل الإلحاد والكفر.
الجماعة الإسلامية في بنجلاديش
تعد الجماعة الإسلامية في بنجلاديش واحدة من أكبر الكيانات السياسية الدينية في البلاد، فضلًا عن كونها أكثر جبهات المعارضة تأثيرًا وقوة في الشارع السياسي، يعود تأسيسها إلى1941، بقيادة أبي الأعلى المودودي، أول أمير لها.
وفي 28 أغسطس 1947، ومع إعلان قيام دولة باكستان، انتقل المودودي مع زملائه إلى لاهور، حيث أسس مقر الجماعة الإسلامية بها، وفي يناير 1948م، بعد قيام باكستان بنحو خمسة أشهر، ألقى المودودي أول خطاب له في كلية الحقوق، وطالب بتشكيل النظام الباكستاني طبقًا للقانون الإسلامي، وهو ما قوبل بالرفض حينها ليجد المودودي نفسه أسير الاعتقال برفقة بعض عناصر الجماعة.
بعد عام واحد فقط على الاستقلال ، طلب المودودي إعفاءه من منصبه كأمير للجماعة الإسلامية لأسباب صحية، وانصرف إلى البحث والكتابة
وظل المودودي في رحلة كفاحه بغية تطبيق الشريعة الإسلامية كنظام أساسي في باكستان، إلى أن استقلت بنجلاديش عن باكستان عقب حرب استمرت شهورًا بين الانفصاليين والحكومة والجيش الباكستاني، وكانت الجماعة الإسلامية من مؤيدي الوحدة وعدم انفصال بنجلاديش عن باكستان وذلك في 1971، وبعد عام واحد فقط على الاستقلال، طلب المودودي إعفاءه من منصبه كأمير للجماعة الإسلامية لأسباب صحية، وانصرف إلى البحث والكتابة، فأكمل تفهيم القرآن، وشرع في كتابة سيرة النبي – صلى الله عليه وسلم -، ليصبح الشيخ “غلام أعظم” أول أمير للجماعة في بنغلاديش بعد استقلال البلاد، وتعاقبه الشيخ “مطيع الرحمن نظامي” وهو أمير الجماعة الحالي.
أبو الأعلى المودودي أول أمير للجماعة الإسلامية في بنجلاديش
الانتقام من الإسلاميين
لم تنس الحكومة الجديدة في بنجلاديش بعد الاستقلال الدعم الذي قدمته الجماعة الإسلامية لباكستان، خاصة وأنها من أوائل الرافضين للانفصال، لذا كان الانتقام من أعضاء الجماعة أول بند على قائمة أولويات رئيسة الحكومة الشيخة حسينة.
وفي أول رد فعل لها، اُتُهمت الحكومة البنغالية أبرز قادة الجماعة الإسلامية بارتكاب جرائم حرب عام 1971م عند انفصال باكستان الشرقية واستقلال بنجلاديش، شملت القتل والنهب والسلب التي يزعم أنها وقعت في عام الانفصال (قبل 41 عامًا)، وذلك عبر إنشاء محكمة جرائم الحرب الدولية في بنجلاديش عام 2009، ساعد على ذلك وجود عدد من الوزراء الشيوعيين الكارهين للإسلام داخل الحكومة حيث شكلوا ضغطًا كبيرًا للقضاء على الجماعة وأعضائها، فضلًا عن حذف أبرز بنود الدستور وهو الإيمان بالله وتكوين العلاقة مع الدول المسلمة، لتكشف الحكومة الجديدة في بنجلاديش عن هويتها الفكرية والعلمانية مبكرًا.
ومن بين الأسماء التي شملتهم المحاكمة بتهمها، الشيخ مطيع الرحمن نظامي، أمير الجماعة الإسلامية، وزير الزراعة ثم الصناعة سابقًا، وغلام أعظم (90 عامًا)، أمير الجماعة سابقًا وأُكْرِه الأخير على الإقامة بخارج البلاد حوالي (8) سنوات وسُلِبَت جنسيته، بالإضافة إلى الشيخ دلوار حسين سعيدي الداعية المشهور ونائب أمير الجماعة وعضو البرلمان سابقًا، والشيخ محمد عبد السبحان نائب أمير الجماعة الإسلامية وعضو البرلمان سابقًا، كذلك أحسن محمد مجاهد الأمين العام للجماعة ووزير الشؤون الاجتماعية سابقًا، ومحمد قمر الزمان الأمين العام المساعد الأول للجماعة ورئيس تحرير مجلة “سونار بنغلا”، وعبدالقادر ملا الأمين العام المساعد الثاني، (والذي أعدم في 2013)، وأظهر الإسلام الأمين العام المساعد الثالث، ومير قاسم علي عضو المجلس التنفيذي للجماعة ومدير مكتب رابطة العالم الإسلامي في بنغلاديش سابقًا، (والذي أعدم أمس السبت).
وفي السياق نفسه سعت الهند من خلال منافذها في بنجلاديش إلى القضاء على الوجود الإسلامي المنظَّم الذي يُعبِّر عن طموحات هذا الشعب المسلم من خلال تعزيز قوة الحكومة العلمانية وحثها على محاربة الإسلاميين في بلادها، ونتيجة لثمرة الضغوط الهندوسية وسعي أركان الحكومة بقيادة رئيسة الوزراء الشيخة حسينة إلى تثبيت الوجود العلماني، كان تشكيل محكمة خاصة لمحاكمة تسعة أفراد من قادة الجماعة الإسلامية وفق قانون خاص أطلقت عليه قانون المحكمة الدولية الخاصة للفصل في قضايا جرائم الحرب في عام 1971.
سعت الهند من خلال منافذها في بنجلاديش إلى القضاء على الوجود الإسلامي المنظَّم الذي يُعبِّر عن طموحات هذا الشعب المسلم من خلال تعزيز قوة الحكومة العلمانية وحثها على محاربة الإسلاميين في بلادها.
وعلى الفور وبدون أي معارضة أو تعليق على سير المحاكمة، ومن خلال قضاة تم اختيارهم بعناية شديدة، تم إصدار أحكام الإعدام على بعض رموز الجماعة، حتى يكونوا عبرة لغيرهم، إضافة إلى التهديدات التي وجهها عدد من وزراء الحكومة الحاليين بشأن ضرورة إعدام أولئك القادة قبل إصدار الحكم من المحكمة.
لم تشبع هذه الأحكام الجائرة نهم حكومة الشيخة حسينة، فمع ردود الفعل الغاضبة من قبل المؤيدين للجماعة الإسلامية والتي تجسدت في عدد من المظاهرات التي جابت شوارع العاصمة، إذ بقوات الأمن تتصدى لهم بشكل عشوائي أفضى إلى مقتل العشرات منهم وسجن ما يزيد عن خمسين ألفًا بما فيهم النساء والأطفال.
تظاهرات الجماعة الإسلامية تنديدًا بالأحكام الجائرة ضد قادة الجماعة
المخطط الأمريكي الهندي
بالرغم من تجاوز تعداد المسلمين في بنجلاديش لـ 150 مليون نسمة محتلاً المركز الرابع في أكبر تعداد مسلم في العالم، بنسبة 90% من إجمالي عدد السكان، إلا أن الواقع المعاش يتنافى تمامًا مع هذه النسبة، حيث يتعرض المسلمون في بنجلاديش لأبشع أنواع القهر والذل والظلم، لاسيما في وجود نظام علماني كاره لكل ماله علاقة بالإسلام.
ويعتبر حزب عوامي العلماني الذي يتولّى الحكم في البلاد من أشد الأحزاب عِداءً للإسلاميين، إذ دفعته كراهيته للإسلام إلى اتخاذ حزمة من الإجراءات التعسفية منذ ولايته في 1975 وحتى الآن ساهمت بشكل كبير في تدني مستوى المسلمين في بنجلاديش، حيث قام بعمليات قمع مستمرة استهدفت الإسلاميين من خلال قتل العلماء والدعاة وإغلاق المدارس الإسلامية، وعمل من خلال منظومة إعلامية فاسدة على هدم القيم الإسلامية وإفساد عقائد المسلمين من بينها نشر رسوم مسيئة للرسول الكريم محمد – صلى الله عليه وسلم -.
يعتبر حزب عوامي العلماني الذي يتولّى الحكم في البلاد من أشد الأحزاب عِداءً للإسلاميين، إذ دفعته كراهيته للإسلام إلى اتخاذ حزمة من الإجراءات التعسفية منذ ولايته في 1975
وفي المقابل قدم هذا الحزب العلماني الكثير من التسهيلات للمسيحيين هناك، بالرغم من تدني نسبتهم السكانية، حيث بلغت عدد الكنائس في بنغلاديش 500 كنيسة بعد أن كانت 13 كنيسة عام 1961م، وبحسب مقالة نشرها الكاتب رضا عبد الودود فإن: “جيش المنصّرين الذي يزيد على 30 ألف منظمة وعلى رأسهم منظمة الرؤية العالمية، وكاريتاس، وجمعية الشبان المسيحية الذين تركزت جهودهم في بناء الكنائس في كل مكان، حتى في المناطق التي لا يوجد بها أي فرد مسيحي تمكن من رفع عدد النصارى في البلاد إلى مليوني نصراني بعد أن كانوا قلة لا تزيد عن 50 ألف خلال الانفصال.
عبد الودود أشار في مقاله إلى أن تصاعد وتيرة الأحداث في بنجلاديش باتجاه التضييق على الإسلاميين في الفترة الأخيرة يطرح المزيد من التساؤلات والتكهنات التي يمكن تفسيرها في ضوء مربع استراتيجي، يستهدف تصفية ووقف التمدد الإسلامي في شبه القارة الهندية، يصب في صالح أهداف المربع الاستراتيجي، الذي يضم الهند وأمريكا والصهاينة وشبكة المنصرين الواسعة، ذلك المربع استخدمته رئيسة وزراء بنجلاديش الشيخة حسينة، المحكومة برغبة جامحة في تصفية حسابات قديمة مع الإسلاميين وأصحاب التوجهات القومية والوطنية الذين وقفوا بوجه سياسات مجيب الرحمن الذي كان يدفع بالبلاد نحو الهند ليبتعد عن الوحدة مع باكستان التي أجبرت على فصل أجزاء منها عنوة ليضمن الغرب والهند عدم وجود دولة مسلمة قوية في شبة القارة الهندية.
الكاتب قدم حزمة من التبريرات لهذه الحملة قائلاً: يمكن فهم تلك الحملة في ضوء المعادلة الحاكمة لمسار السياسات في محيط بنجلاديش الداخلي والخارجي، ففي الداخل يقف حزب عوامي المتطرف الذي قاد أنصاره الانفصال عن باكستان في سبعينات القرن الماضي، والذي تدعمه المخابرات الهندية كتصفية حسابات تاريخية مع باكستان التي انفصلت عن الهند في 1947، كما تلاقت سياسات عوامي مع رئيسة البلاد التي قتل والدها في انقلاب 1974، والتي تقف بعدائية شديدة ضد تيار الجماعة الإسلامية الذي يتمدد بقوة في الشارع البنغالي ويحمل أجندة واضحة لأسلمه الحياة في البلاد وربط الدين بمناحي السياسة والاقتصاد وكافة النشاطات الحياتية، بعكس التيارات الصوفية وجماعة التبليغ التي تحظى بدعم حكومي لنشاطاتها الدينية والروحية نظرًا لابتعادها عن السياسة وتركيزها على نشاطات تعبدية فقط، كان آخرها في 15 يناير 2011 حيث أنهى أكبر تجمع ديني تشهده القارة الهندية كل عام.
وعن تلاقي المصالح الأمريكية الهندية في هذا الشأن، أشار عبد الودود إلى أن حملة التصعيد ضد إسلامي بنجلاديش تتماشى وبشكل كبير مع الاستراتيجية الأمريكية المعروفة بشد الأطراف وخلق كيانات إسلامية معتدلة بديلة للكيانات الأكثر تشددًا في مناطق الشرق الأوسط، والتي تقوم على دعم الدول الإسلامية البعيدة عن مركز الدول الإسلامية والتي يوجد بها أعداد كبيرة من المسلمين لضمان عدم ارتباطهم بحركات أو سياسات دول المركز، منوهًا أن تلك الاستراتيجية تتلاقى مع مصالح الهند التي تريد دول جوار أكثر انصياعًا لسياساتها الإقليمية، وأكثر استجابة لمصالحها الهندوسية، حيث ترى في قوة الجماعة الإسلامية في بنجلاديش دعمًا وتواصلاً مع مسلمي الهند يؤثر سلبًا على ملفات شائكة تضغط نحو عدم انفجارها كما في كشمير وعدد من الملفات التي يسعى مسلموها نحو توجيهها نحو مزيد من حقوقهم وحرياتهم، لذا تدعم الهند حكومة عوامي ضد إسلاميي بنجلاديش أصحاب المشروع الإسلامي للحياة.
وزير الخارجية الأمريكي يصافح نظيرته الهندية في نيودلهي
تنديد وتحذير
ألقى تنفيذ حكم الإعدام بحق “مير قاسم علي”، عضو المجلس التنفيذي للجماعة الإسلامية في بنجلاديش بظلاله القاتمة على الشارع السياسي الإسلامي، حيث استقبلت الحركات الإسلامية هذا القرار بحملة من التنديد والاستنكار الواسع، متهمة المجتمع الدولي بالتخاذل حيال هذه الجرائم.
من جانبه نددَّ حزب البناء والتنمية، الذراع السياسية للجماعة الإسلامية في مصر، هذا القرار، محذرًا من “حملة إبادة تلاحق مسلمي بنغلاديش”، حيث قال خالد الشريف المستشار الإعلامي للحزب في تصريحات له، إن “الصمت الدولي المريب ضد الإعدامات البشعة ضد قادة الجماعة الإسلامية يعد تصريحًا بالقتل والإبادة لمسلمي بنغلاديش، فضلًا عن ازدواجية المعايير للغرب الذي يرفض عقوبة الإعدام”.
كما طالب المستشار الإعلامي لـ “البناء والتنمية” الحكومات والمنظمات الإسلامية والعربية بالقيام بالدور المطلوب منها في التصدي لهذه الحملة التي نعتها بـ “الانتقامية المسعورة” ضد المسلمين هناك، داعيًا إلى نشر قضية اضطهاد المسلمين في بنغلاديش في وسائل الإعلام والمحافل الدولية، والتنديد باستبداد وديكتاتورية السلطة البنغالية، التي فاقت الحدود ضد التيار الإسلامي ودعاته المخلصين.
“البناء والتنمية” في مصر يعتبر أن الصمت الدولي ضد الإعدامات البشعة ضد قادة الجماعة الإسلامية يعد تصريحًا بالقتل والإبادة لمسلمي بنغلاديش
مما سبق يتضح أن هناك مؤامرة أمريكية – هندية – بنغالية للقضاء على الإسلاميين في بنجلاديش، وتطيير رؤوس قيادات الجماعة الأكبر عددًا، والأكثر حضورًا، والأقوى تأثيرًا في شبه القارة الهندية وأجوارها، وأن هناك حالة من القلق لدى حكومة نيودلهي من تنامي تيارات الإسلام السياسي لدى جارتها خشية تهديد النظام الحاكم لديها، وهو نفس القلق الذي يداعب خيال الشيخة حسينة رئيسة وزراء بنجلاديش، وفي الوقت نفسه تقف الحكومات الإسلامية والعربية مكتوفة الأيدي لا تحرك ساكنًا، فمتى نتحرك لإنقاذ 150 مليون مسلم إما من القتل أو التنصير والإلحاد؟