هناك “عقائد” و”نحل” تميل لأن تكون “أيديولوجيات” أكثر من كونها عقائد، لأنها تجعل الصراع والهيمنة والاعتداء على الآخر المخالف لها في “العقيدة” أو “الإثنية” أو “العرق” قطب الرحى وجوهر الوجود والحياة، بل تعتبر ذلك واجبًا مقدسًا وقدرًا محتومًا يحرم الزيغ عنه، رغم أنها غارقة في الدموية وتجافي ما جاءت به الشرائع السماوية النقية غير المحرفة، التي تولي حرمة شديدة لدم الإنسان وحياته.
وهي أيضًا أيديولوجيات تريد أن تفرض منطقها الميثولوجي العائم في الماورائيات بالقوة لتحقيق أطماعها السياسية، منطق تترجمه وترسخه “كلاميات” وأفكار مؤسسيها الأوائل من رجال الدين وكهنة المعبد الذين سَوَّقوا أنفسهم للأتباع على أنهم “أنصاف آلهة” أو “ظلال الله على الأرض” وأن شعوبهم تعتلي قمة “السُلَّم الإثني” في العالم، حتى يسهل عليهم بذلك تحويل هذه الشعوب إلى “أجساد طيعة” ضمن قطيع كبير ينقاد بسهولة للشعارات الحماسية ودعوات العنف وممارسة القوة التي يتشبع بها خطاب الزعماء والقادة الثيوقراطيين عادة، في غياب كلي للعقل والفكر النقدي، وتعاظم سيطرة العاطفة الدينية المشوهة والأساطير ذات الدلالة والرموز العقدية الكثيفة، التي تحول الشعوب إلى خزان من الجنود والمحاربين المستعدين للموت في سبيل تحقيق ما تريده القيادة الثيوقراطية.
جغرافية “الوهم” الإيراني
من بين هذه الأيديولوجيات وأخطرها على الإطلاق إذا استثنينا الأيديولوجية الصهيونية، أيديولوجية “ولاية الفقيه” التي تمثلها الجمهورية الإيرانية الثيوقراطية، التي باتت تفصح بلا خجل أو تقية عن طموحاتها التوسعية الموصولة – بحبل سري – بالتاريخ الفارسي الإمبراطوري، طموحات يعززها الوجود الإيراني العسكري الحاشد في إقليمها الحيوي المزعوم الذي يروم ابتلاع كامل البلدان العربية، التي باتت بعض عواصمها اليوم في قبضتها وتحت سيطرتها، مثلما سبق أن أكده سنة 2014 مندوب مدينة طهران في البرلمان الإيراني علي رضا زاكاني المقرب من المرشد الإيراني علي خامنئي بقوله “ثلاث عواصم عربية أصبحت اليوم بيد إيران، وتابعة للثورة الإسلامية”، ويقصد العراق وسوريا ولبنان، قبل أن تلتحق صنعاء بعواصم هذه الدول عن طريق الحوثيين الذين يمثلون ذراعها العسكري وأحد منتجاتها في اليمن على غرار حزب الله في لبنان، على لسان حيدر مصلحي الوزير الأسبق للاستخبارات الإيرانية، الذي صرح لوكالة فارس بتاريخ 02 أبريل 2015، بأن “الثورة الإيرانية لا تعرف الحدود وهي لكل الشيعة”(1) في تحدٍ واضح لدول الجوار وتعبيرًا عن رغبة صريحة في التوسع الإمبراطوري والتمدد الجغرافي القائم على ضم كافة الأراضي العربية لولاية الفقيه.
وإيران بذلك تتقاطع مع المشروع الصهيوني في تفاصيل حلمها ومشروعها الإمبراطوري المدفوع بأيديولوجيا توسعية خبيثة، أو تفوقه من حيث مساحة الإمبراطورية الموعودة وحدودها، ودموية وبشاعة الطريقة التي يُراد أن يتحقق من خلالها هذا المشروع، كما تدل عليها الجرائم الفظيعة التي ترتكبها إيران وميليشياتها الطائفية الرديفة في حق أبناء البلدان العربية التي غزتها، خصوصًا من أبناء السنة في العراق وسوريا، التي بات الوجود الإيراني فيها مصدر قلق وتهديد حقيقي للخليج وبقية الأقطار العربية، فهي منصة لترصد الفرصة المناسبة للانقضاض على هذه البلدان وابتلاعها، ومنها أيضًا تنطلق المخططات الإيرانية لضرب الأمن الإقليمي العربي، من خلال خلاياها النائمة في الكويت والبحرين والسعودية.
لذلك فالعراق وسوريا ليسا منتهى الرغبة الجموحة لإيران في التوسع، وحدودهما ليست أقصى حدود الإمبراطورية التي تريد إقامتها، بل هما بمثابة لوحة القفز نحو جغرافية الحلم (الوهم) الفارسي الذي يروم التوسع داخل البلاد العربية، وهو حلم يتكئ على أيديولوجية وميثولوجية رجل ثيوقراطي مقبور، تحاول من خلالها إيران فرض “أممية ولاية الفقيه” بالقوة والإكراه، تمامًا كالأيديولوجية الصهيونية المتلبسة بالميثولوجيا التلمودية وأساطير شعب الله المختار، التي تعتبر فلسطين لوحة القفز نحو الحلم (الوهم) الإسرائيلي: “من النيل إلى الفرات تمتد أرضك يا إسرائيل”.
إننا بتفكيك الإيديولوجية ومقارنة العقيدة وتحليل السياسات الإيرانية وتاريخها، بالاعتماد على القياس والاستنتاج، نستطيع استقراء ما تبطنه وتظهره هذه الدولة والحكم على موقعها في دائرة الانتماء للإسلام والمسلمين، بعد أن باتت شوكة في خاصرة الأمة وسيفًا مسلطًا على رقاب أبنائها، ولا يتم ذلك من خلال الاحتكام إلى العواطف الجياشة والشعارات البراقة التي تسوقها وسائل إعلامها ونخبها المأجورة، بدون وجود أي مبرر عقلي، وفي غياب تام للمعرفة الدينية الحقيقية التي تطوقها “دوجما” جامدة ومتحجرة لا ترضى بالمساءلة أو النقد والحوار.
الإرهاب المتلبس بالطائفية
تقرن إيران في سبيل تحقيق مشروعها التوسعي المُؤدلج، الإرهاب بالطائفية إلى حد التماهي، حيث يزخر بذلك الموروث الفكري والديني الشيعي ذو الخلفية الأيديولوجية الموصولة بزمن الصفويين، موروث يتربع على عرشه اليوم ويمثله ويحرسه رجال الدين الإيرانيين من الطائفة الشيعية الإثنى عشرية (من العرق الفارسي حصرًا)، بعد أن جرى إقصاء وتحييد الأطياف الأخرى المشكلة لهذا النسيج العقدي، خصوصًا من الشيعة العرب.
فقد أبدع الصفويون طيلة حكمهم (1501 -1736) في تصنيع هويّة جديدة معقّدة لا علاقة لها بالهويّة الأمّ، فلم يكن التشيّع الصفوي تواصلاً للتشيّع العلوي، بل كان تحريفًا له وانزياحًا عنه، أصبح الفكر الدينيّ الجديد يتقرب إلى العامة، ويثير عاطفتهم، ويستثمر طاقة العنف الكامنة فيهم، فيوظفها لصالح السلطان الصفوي وترسيخ ملكه، اخترق العنف كل أركان الدين الجديد وتعاليمه المستحدثة، فظهرت طقوس تعنيف الذّات وجلدها بكاء على الماضي ومصائبه، ثم شمل التعنيف كلّ من خالف الفكر الجديد ودعاته، ثم تتوسع دائرة العنف لتشمل كل من خالف المنظومة الفكرية التي اعتنقها الصفويون. (2)
ومن تركة الخميني، الأب الروحي والمجدد لأيديولوجية التوسع المتلبسة بالطائفية والإرهاب، تتفتق الكثير من الكلاميات والقواعد الداعية لممارسة العنف في حق الآخر المخالف، وهو بالدرجة الأولى السني، فيقدمون القتل والحرب على السلام والحوار، ومن بينها – على سبيل المثال – مقولة للخيمني في كتابه “فقه الولاية” تحض على الاعتداء والعنف وتغذي النزعة العدائية للطائفة وتستنهضها، كسبيل لتحقيق التفوق والسيطرة وهي: “الخنجر أسبق وجودًا من أغصان الزيتون، فليس ثمة إلا السيف، السيف، السيف، والدم هو نشيد الأرض الدائم، وهو الذي يحرك التاريخ ويصمم أحداثه”(3).
وهي فكرة متطرفة ملأت ذاكرة ووجدان رجال الدين في “قم” حد التخمة، قبل أن يُشْرِبُوها لأبناء عقيدتهم، والقصد طبعًا هو إباحة دماء المخالفين للمذهب وإعطاء مبرر للإرهاب، كما هو حاصل اليوم مع الحرس الثوري الإيراني وميليشياته الطائفية في العراق وسورية واليمن ولبنان وسائر البلدان الإسلامية التي صار لإيران موطئ قدم فيها، والتي تمثل الفردوس الفارسي الأرضي الذي نظّر له الخيمني ضمن رؤيته التسلطية، والذي لا يتحقق إلا عن طريق الهيمنة والاستحواذ، والاحتلال، وإقامة الولاية الإمبراطورية، تحت شعارات الإسلام.
وإيران في حدود هذه الرؤية التسلطية تمثل “دار الإسلام، ومركز الإيمان، أما الدول الأخرى فهي ليست سوى دار كفر يتوجب عليها التسليم بولاية الفقيه وطاعة المرشد الأعلى، وبخلاف ذلك يتعين شهر السلاح بوجهها وإعمال السيف في رقاب أبنائها، وضمن هذه الرؤية أيضًا، ترتكب الميليشيات الشيعية جرائم بشعة في حق أهل السنة في العراق وسوريا، وهي جرائم ترقى إلى جرائم حرب وتطهير عرقي وطائفي، تروم إفناء الآخر السني صاحب الأرض والتاريخ، وتوطين أبناء الطائفة الشيعية لبسط أركان الإمبراطورية المزعومة التي لا تتحقق دون شعب موحد طائفيًا وحدود مترامية الأطراف.
ولتحقيق هذا الإرهاب المقدس القائم على اعتبار فقهاء الولاية حراس الرسالة الإلهية بلا منازع، والمُطالَبِين بإخضاع من لا يؤمن بولاية الفقيه بالإكراه، نزعت إيران إلى وضع برنامج تسلح ضخم قائم على امتلاك الترسانة النووية والتكنولوجية العسكرية وتطوير قدراتها باستمرار، فلا غرابة أن تمتلك إيران اليوم أكبر ترسانة من الصواريخ الباليستية والصواريخ القادرة على حمل رؤوس نووية، في منطقة الشرق الأوسط، تهدد بها الخليج العربي وتتحرش بأمنه من حين لآخر، زيادة على مد شبكات تجسس واسعة ضمن بعثاتها الدبلوماسية، مهمتها نشر التشيع واستقطاب “مستبصرين” جدد، بهدف تقوية الطائفة الشيعية في البلدان الإسلامية وتكوين أقليات وميليشيات تكون خزانًا لحروبها ومخططاتها، ووسيلة لتهديد الأمن والسلم فيها، مثلما حدث ويحدث مع الكثير من البلدان في الخليج والمغرب العربي.
كما تحشد دولة الفقيه الشيعة من جميع بلدان المعمورة على أساس طائفي، وتشرف على تسليح وتنظيم ميليشيات إرهابية في البلدات العربية لتنفيذ مخططاتها وحروبها الدموية، ويبرز ذلك جليًا في دعمها المالي والعسكري للميليشيات الشيعية في العراق وسوريا واليمن ولبنان، التي تخضع لإمرة وقيادة قاسم سليماني قائد فيلق القدس وأحد أبرز الوجوه في الحرس الثوري الإيراني.
ويبلغ تعداد أفرادها في سوريا وحدها 18 ألف مقاتل من مختلف الجنسيات بحسب بعض التقديرات، بينما يتألف الحشد الشعبي الشيعي في العراق من مئات الآلاف من المقاتلين منضوين تحت لواء 42 فصيلاً مسلحًا، وهي مليشيات في خدمة الاستيراتيجية الإيرانية ومشروعها التوسعي، ووسيلة لإدارة حرب بالوكالة لتقليص خسائرها البشرية والمادية في سوريا والعراق، حيث أشار معهد واشنطن للدراسات في بحث نشره على موقعه الإلكتروني (04)، بأن ائتلاف إيران الشيعي خسر 1530 مقاتلاً على الأقل في المعارك بين 19 كانون الثاني/ يناير 2012 و8 آذار/ مارس 2016.
ويشكل مقاتلو “حزب الله” اللبناني أكثر من نصف عدد هؤلاء الضحايا (878)، بينما يشكل الإيرانيون ربع هذا العدد تقريبًا (342)، ويتوزع العدد المتبقي بين الأفغان (255) والباكستانيين (55)، ويجب اعتبار هذه الأعداد على أنها الحد الأدنى المطلق، نظرًا إلى احتمال عدم إفصاح تلك الأطراف عن الأرقام الكاملة لعناصرها المشاركة والخسائر في صفوفها.
وضمن هذه الرغبة الجموحة في ممارسة العنف والإرهاب لتحقيق مشروع التمدد واليوتوبيا التي عشعشت في ذهن الولي الفقيه وأتباعه، اتجهت إيران مؤخرًا إلى تجميع المقاتلين الشيعة في جيش موحد ضمن قوة عسكرية طائفية أطلقت عليها اسم “جيش التحرير الشيعي”(05)، سعيًا منها لتوظيف أبناء الطائفة الشيعية في حروبها الدموية، وهو يضم ألوية من العراق وسوريا ولبنان وأفغانستان واليمن، يقاتل بزي واحد وعلم واحد تحت إمرة الحرس الثوري، وهي خطوة تنم عن أيديولوجية ماضية في اختراق العمق العربي والإسلامي، لا تذخر أي جهد أو وسيلة في سبيل السيطرة والتوسع، إيديولوجية تتكئ على تبريرات طائفية غارقة في الدم والتجييش، وتستعين بادعاءات وشعارات يزخر بها الثرات والفكر الشيعي، المليء بالبكائيات ودعوات الثأر لأحداث وقعت منذ أربعة عشر قرنًا، ما يشي بأن الأمر ليس مرتبطًا بعقيدة جرى تحريفها وتكييفها بحسب أهواء رجال مهوسين بالقداسة، وإنما بأيديولوجيا توظف عقيدة (الطائفة) وتراثها من أجل تحقيق أهدافها التوسعية القديمة المليئة بالحقد التاريخي.