بقدوم موسم الحج كل عام تثار العديد من القضايا التي باتت وجبة دائمة الحضور على موائد النقاش السياسي والديني، تتوقف شدتها على مستوى المد والجزر الإقليمي، خاصة في ظل ما تحياه المنطقة من أزمات تلو الأزمات ألقت بظلالها القاتمة على المشهد برمته بما فيه الركن الخامس من أركان الإسلام.
وبات مصطلح “تسييس” الحج أكثر المصطلحات استخدامًا على كافة المحركات البحثية وشاشات الفضائيات وصفحات الجرائد والمجلات هذه الأيام في ظل التراشق الإعلامي المتبادل بين السعودية وإيران، وما نجم عنه من اتهامات متبادلة ما بين مساعي طهران في تحويل شعيرة الحج إلى منبر سياسي، وبين تضييق الرياض على الإيرانيين لأداء الفريضة.
“نون بوست” في هذه الإطلالة يسعى إلى كشف النقاب عن المسكوت عنه في هذا الملف، وكيفية إدارة الرياض للمشهد الديني برمته، ورد فعل الدول الإسلامية حيال الإجراءات التي اتخذتها المملكة فيما يتعلق بالجانبين الاقتصادي والأمني وانعكاس ذلك على نظرة العالم الإسلامي لبلاد الحرمين كحاضنة لهذه الأماكن المقدسة.
المقدسات ليست ملكًا لأحد
الإجراءات المتتالية التي أقدمت السعودية على اتخاذها مؤخرًا بشأن ضوابط عملية الحج والعمرة، فرضت بعض الأسئلة حول حكمها الشرعي، ومدى حق بلاد الحرمين في تحديد من يؤدي الشعيرة ومن تعوقه العراقيل.
الدكتور علي الصبّان، أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر، أكد أن المقدسات الإسلامية ليست ملكًا لأحد، بل هي ملك للمسلمين في كل مكان، ولا يحق لأي أحد أيا كان أن يفرض قيوده وشروطه على أداء المسلمين لشعيرتهم طالما كان هناك التزام واضح بالحفاظ على حق المسلمين وعدم الإساءة إليهم بالقول أو الفعل.
الصبّان أشار لـ”نون بوست” أن بيت الله الحرام بما فيه من الكعبة المشرفة والمسجد النبوي بما يحتويه من قبر للنبي – صلى الله عليه وسلم -، وجبل عرفات ومدافن البقيع وغيرها من الأماكن المقدسة التي تمثل محاور مناسك الحج، كلها موجودة منذ آلاف السنين، قبل الأنظمة الحاكمة قديمًا وحديثًا.
المقدسات الإسلامية ليست ملكًا لأحد، بل هي ملك للمسلمين في كل مكان، ولا يحق لأي أحد أيًا كان أن يفرض قيوده وشروطه على أداء المسلمين لشعيرتهم
وأضاف: لا يحق لصاحب عمارة كبيرة وبداخلها مسجد أن يمنع أي من المصليين من أداء الصلاة بداخل المسجد الذي ربما بناه من ماله الخاص، لأن المسجد الأن صار بيتًا لله عز وجل وليس لمن بناه، وعليه فلا يحق له أن يفرض وصايته على من يدخل أو يخرج.
كما أن بلاد الحرمين وحكومتها المباركة هي راعية هذه الأماكن المباركة، التي زادت المملكة شرفًا ومكانةً، وقد نجحت طيلة السنوات الماضية في تقديم أفضل خدمة ورعاية لضيوف بيت الله وزواره من الحجيج والمعتمرين، أما ما يثار بشأن ملكية بلاد الحرمين للأماكن المقدسة فهذا عبث، لأن البيت بيت الله والمقدسات مقدساته وليس لأحد قوة عليها.
أستاذ الفقه نوّه أيضًا إلى أن عدم ملكية بلاد الحرمين للمقدسات لا يعني أن يترك الحبل على الغارب دون ضوابط أو قيود، فالرعاية تقتضي وضع كل ما من شأنه تيسير أداء النسك، والحيلولة دون وقوع أخطاء تهدد حياة وصحة الحجيج، لذا كان على الجميع الالتزام بهذه الضوابط التي يجب أن تراعي حق المسلمين في أداء الفريضة دون إفراط أو تفريط.
بيت الله الحرام
“تسييس” الحج
الأيام التي تسبق شهر ذي الحجة من كل عام باتت موسمًا للتراشق المتبادل بين السعودية وإيران حول قضية أداء الإيرانيين لفريضة الحج، حيث تتهم طهران بلاد الحرمين بعرقلة أداء مواطنيها للفريضة، فيما تحذر البيانات الصادرة عن وزارتي الحج والعمرة، والخارجية السعودية من “تسييس” إيران للحج، وهو ما أفصحت عنه وزارة الحج مؤخرًا بقولها أن “بعثة منظمة الحج والزيارة الإيرانية امتنعت عن توقيع محضر إنهاء ترتيبات الحج وتتحمل أمام الله ثم أمام شعبها مسؤولية عدم قدرة مواطنيها من أداء الحج لهذا العام”، مضيفة أنها على استعداد دائم للتعاون فيما يخدم الحجاج ويسهل إجراءات قدومهم، وهو ما تجسد في تصريح وزير الحج مؤخرا بشأن موافقة السلطات السعودية على منح التأشيرات لجميع الحجاج الإيرانيين القادمين من خارج بلادهم.
وبرأي متابعي “نون بوست” فإن المملكة تدافع عن حق الحجيج في أداء شعيرتهم في أمان وسلامة، مفندين ما أثير بشأن تعمد “تسييس” الحج كما يردد البعض، ويمكنكم المشاركة في الإستفتاء هنا.
برأيك.. هل تقوم الإدارة #السعودية بتسييس موسم #الحج؟
— نون بوست (@NoonPost) September 5, 2016
بينما أكد الوفد الإيراني المشارك في مفاوضات تسهيل إجراءات أداء الإيرانيين للحج، أن الجانب السعودي قد وضع عددًا من العراقيل في طريق المسؤولين الإيرانيين من أجل عدم التوصل إلى اتفاق وعدم تمكن الإيرانيين من أداء فريضة الحج لهذا العام.
الأولى: تأشيرة الدخول، حيث رفض الجانب السعودي المقترح الإيراني بمنح تأشيرات حج للإيرانيين عن طريق السفارة السويسرية التي ترعى مصالح السعودية في إيران، موكدًا ضرورة منح التأشيرة خارج إيران.
الثانية: نقل الحجاج الإيرانيين، حيث طلبت طهران أن تكون عملية نقل الحجاج الإيرانيين بالمشاركة بين خطوط النقل الإيرانية والسعودية، وهو ما قوبل بالرفض من الجانب السعودي الذي أصر أن تكون الخطوط الجوية السعودية وحدها من تتولى نقل الإيرانيين.
الثالثة: ضمانات سلامة الحجاج، حيث طالب الجانب الإيراني بضمانات للحفاظ على سلامة الحجاج الإيرانيين داخل الأراضي السعودية، بعد أن فقد أكثر من 640 حاجًا إيرانيًا أرواحهم في موسم الحج الماضي بسبب عدم قدرة السلطات السعودية على منع كارثة التدافع التي أودت بحياة عدة آلاف من الحجاج من مختلف بلدان العالم ولم تعلن السلطات السعودية عن عدد الضحايا حتى الآن، ولم تعلن اللجنة المشكلة عن أسباب الحادث والمسوولين عنه ولم تعتذر لأهالي الشهداء والضحايا الذين سقطوا في منى.
طلبت طهران أن تكون عملية نقل الحجاج الإيرانيين بالمشاركة بين خطوط النقل الإيرانية والسعودية، وهو ما قوبل بالرفض من الجانب السعودي الذي أصر أن تكون الخطوط الجوية السعودية وحدها من تتولى نقل الإيرانيين.
الرابعة: إهانة الوفد الإيراني: اتهمت طهران السعودية بإهانة الوفد الإيراني المشارك في المفاوضات، وتعمدت الإساءة إليه، إذ أقدمت سلطات المطار بالرياض على أخذ بصمة أصابع رئيس الوفد الإيراني، حسب تصريح وزير الثقافة علي جنتي، وهذا مخالف لكل الأصول والأعراف الدبلوماسية، حيث إن رئيس البعثة الإيرانية كان يحمل جواز سفر دبلوماسي ولا يجوز تفتيش الدبلوماسيين أو أخذ بصمة أصابعهم، ولكن الجانب السعودي أقدم على فعلته وأعلن في بيانه عن استقبال الوفد واستضافته دون الإشارة إلى إهانة رئيس الوفد قائلاً: “تم استقبال الوفد (الإيراني) رسميًا واستضافتهم وتقديم التسهيلات كافة، بما فيها تمكينهم من أداء مناسك العمرة، ثم عُقدت اجتماعات متواصلة على مدى يومي 18 و19/8/ 1437هـ، امتدت لساعات طويلة، ناقش الطرفان فيها جميع الأمور التي سبق تداولها في الاجتماعات السابقة.
وهكذا باتت شعيرة الحج بدلاً من أن تكون ساحة للارتقاء الروحاني والتقرب إلى الله بالعبادات والطاعات، ومنارة للوحدة والتآلف بين زوار بيت الله، تحولت إلى حلبة لاستعراض القوة، ومنبر للتراشق السياسي المتبادل هنا وهناك.
الشورى السعودي يرفض محاولات إيران “تسييس” الحج
الحج بديلاً للنفط
أدى تراجع أسعار النفط خلال العامين الماضيين إلى هزة اقتصادية عنيفة تسببت في عجز في الموازنة السعودية قارب 100 مليار دولار العام الماضي، ومن ثم كان البحث عن موارد جديدة قضية ملحة على مائدة الحوار السعودي خلال الفترة الماضية.
مؤخرًا أقر مجلس الوزراء السعودي رفع رسوم التأشيرات ضمن مبادرة قدمتها وزارتا المالية والاقتصاد والتخطيط لتعزيز الإيرادات في عصر النفط الرخيص، حيث قالت وكالة الأنباء السعودية إن رسم تأشيرة الدخول المتعدد للمملكة أصبح 8000 ريال (2133.3 دولار) و5000 ريال للتأشيرة التي مدتها سنة و3000 ريال لتأشيرة الستة أشهر، أما الدخول لمرة واحدة فسيتكلف ألفي ريال على أن تتحمل الدولة هذا الرسم عن القادم للمرة الأولى لأداء الحج أو العمرة، كما شملت القرارات أيضًا زيادة رسوم تأشيرات الخروج والعودة لتصبح 500 ريال لعدة سفرات لمدة ثلاثة أشهر و200 ريال عن كل شهر إضافي، وكانت الرسوم من قبل 500 ريال للخروج المتعدد لمدة ستة أشهر.
جدير بالذكر أن الرؤية التي أعلن عنها ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في أبريل الماضي تحت مسمى “2030” شملت العديد من الإجراءات الإصلاحية الواسعة الرامية إلى النهوض باقتصاد المملكة إلى مصاف الدول المتقدمة، فضلاً عن البحث عن موارد بديلة عن النفط لتكون قبلة الاستثمار السعودي مستقبلاً، لذا كان البحث عن موارد إضافية لتعزيز مؤشرات الاقتصاد أحد الإجراءات التي سعت المملكة لتحقيقها خلال الفترة الماضية.
قالت وكالة الأنباء السعودية إن رسم تأشيرة الدخول المتعدد للمملكة أصبح 8000 ريال (2133.3 دولار) و5000 ريال للتأشيرة التي مدتها سنة 3000 ريال لتأشيرة الستة أشهر
ولعل الحج والعمرة أبرز الأبواب الاستثمارية المفتوحة أمام بلاد الحرمين لتعزيز قدراتها الاقتصادية وهو ما أشارت إليه بعض الدراسات التي أكدت تجاوز إيرادات الحج والعمرة العام الماضي 62 مليار ريال (16.5مليار دولار)، ومن المتوقع زيادة هذا الرقم بنسبة 69% بعد اكتمال منظومة المشروعات التوسعية الاستثمارية في الحرمين والتي بدأت منذ عدة سنوات.
إيرادات الحج والعمرة لبلاد الحرمين قد تكون عوضًا عن تراجع أسعار النفط وما يترتب عليه من أزمات واضطرابات ما بين الحين والآخر، وهذا ما أكد عليه الكاتب السعودي عبدالله دحلان في مقاله المعنون بـ “إيرادات الحج والعمرة ستنافس النفط” دحلان قال “لا شك أن البترول سينضب في يوم من الأيام، قصرت السنون أم طالت، فهو دخل زائل، وإذا لم نفكر من اليوم في البدائل، فإن الأجيال القادمة ستواجه كارثة، أو ستعود إلى العصور القديمة، حيث يبلغ عدد المسلمين في العالم وفقًا للإحصائيات الدولية ألف وستمائة مليون مسلم.
حيث أعلنت إحدى الدراسات التي اطلعت عليها، والتي أجراها أحد مراكز أبحاث الديانات والحياة العامة التي أوضحت أنه من المتوقع أن يصل تعداد المسلمين في عام 2030 إلى أكثر من ألفي مليون مسلم حول العالم، ونتيجة لهذه الزيادة يتوقع أن يزداد الطلب على أداء الركن الخامس للإسلام وهو الحج، وتزداد أعداد الراغبين في أداء العمرة، حيث يتوقع بعض المحللين والباحثين وأميل إلى رأيهم، بأن يصل عدد المعتمرين والحجاج إلى سبعين مليون معتمر وحاج سنويًا، ابتداءً من عام 2041، إذا سمحت الحكومة السعودية بمنح التأشيرة لكل من يرغب بالحج والعمرة، وهو رقم قد يعتقد البعض أنه خيالي ويصعب تحقيقه بل من المستحيل تحقيقه لأسباب عديدة، منها عدم وجود المساحات الاستيعابية لإسكان أو استقبال هذا العدد في مكة المكرمة والمدينة المنورة، ويقول البعض إن إسبانيا وفرنسا بقدراتهما العظيمة في البنية التحتية والتشغيلية والإدارة والترويج لم تصل إلى هذا الرقم إلا بصعوبة وبعد سنوات طويلة جدًا.
وأضاف الكاتب السعودي أن السياحة الدينية بلا شك ستكون بديلاً لإيراد النفط، حال لو استمرت الحكومة السعودية في مسيرتها التطويرية والتوسعية والخدمية في مكة المكرمة والمدينة المنورة ومدينة جدة والطائف، مع إعطاء مرونة كبيرة في منح تأشيرات العمرة والحج، نستطيع أن نصل لهذا الرقم، وذلك بوسائل عديدة، من أهمها عدم الاعتماد على العمرة طويلة المدى فقط، والتوجه إلى عمرة اليوم الواحد بالقدوم صباحًا والمغادرة مساءً، وفتح باب العمرة طوال العام، ومنح تأشيرات العمرة من المطار، وتوسيع دائرة استقبال المعتمرين في مطار جدة والمدينة المنورة والطائف، والترويج لعمرة اليوم الواحد.
16.5 مليار دولار إيرادات الحج في العام
الهاجس الأمني
من الجوانب التي أولتها المملكة أهمية بالغة حين أقدمت على وضع المزيد من العراقيل والضوابط فضلاً عن زيادة الرسوم في الحج والعمرة، الحفاظ على أمن البلاد، حيث ارتأت بلاد الحرمين أن دراسة وفحص طلبات المتقدمين للحج من مختلف البلدان العربية والإسلامية قضية محورية لا تقبل الشك، ومن حق المملكة وحدها إعطاء تأشيرات الدخول لأناسٍ دون غيرهم طبقًا لما تتوصل إليه نتائج تحرياتهم الأمنية، فمن كان عليه علامات استفهام أمني يمنع على الفور من الدخول دون أية اعتبارات دينية.
التخوف الأمني السعودي لم يأت من فراغ، بل كان نتيجة العديد من العمليات والحوادث التي قام بها بعض المطلوبين أمنيًا في بلدانهم أو بعض المأجورين والمتطرفين والإرهابيين، وهو ما دفع الرياض إلى توسيع دائرة الاشتباه لتشمل كل من يثبت في حقه ذرة اتهام أو شك، وهو ما حرم عددًا كبيرًا من المسلمين من أداء هذه الفريضة المحببة لقلوب الملايين في مشارق الأرض ومغاربها.
مما سبق يتضح أن هناك معادلة ثنائية الجانب، الأول: حق بلاد الحرمين في تأمين حدودها وتوفير سبل الأمان والراحة لضيوف بيت الله الحرام، الثاني: أن المقدسات ليست ملكًا لأحد، وأن النظام الحاكم في السعودية راعٍ فقط على هذه المقدسات، ومن ثم ليس من حقه عرقلة من ينتوي أداء الفريضة، أو أن يضع أمامه العقبات، فضلاً عن تحديد من يؤدي ومن يعود من حيث أتى، السؤال هنا: كيف يمكن تحقيق التوازن بين شقي المعادلة، وهل تقبل السعودية فكرة أن تكون هذه المقدسات تحت إدارة مشتركة مع بعض الدول الإسلامية الإخرى، فضلاً عن مدى قدرتها على الفصل بين السياسة والدين من جانب، وأن تحول الشعيرة الدينية إلى تجارة لتعزيز قدراتها الاقتصادية؟