أغسطس كان شهر صوماليي المهجر بامتياز، أحد أبنائهم يكرر قصة نجاح في مهجر بعيد، لقد ولد بين أظهرهم، حدثت الحرب التي لامست كل صومالي على هذه الأرض، هاجر لجيبوتي، مارس الركض في سهول إثيوبيا وجبال كينيا، لم يلتفت والده مرتين حين دعي لاستلام وثيقة الهجرة لبريطانيا العظمى.
استمر والده – ككل صوماليي ذلك الجيل في تتبع أخبار القبيلة والبكاء على الأشياء التي لم تحدث – لكن ابنه البكر الذي سماه على النبي محمد كعادة كثير من الصوماليين وأنا منهم، استمر بالركض حتى بعد وصوله المملكة المتحدة.
الفعل ذات الفعل، فالأرض هي الأرض ولا يحتاج منها إلا ما يوصله إلى نقطة غير تلك التي بدأ منها، لا يدري هذا الطفل الصومالي المنقوش على جبهته: أنا من الصومال، لماذا يستمر بالركض في كل البقاع حتى لو امتلأت صفحات جوازه بالأختام؟!
قبل أن نتجه للركض خلف محمد فارح، علينا التنويه أن شقيقه الذي يليه وغالبًا سيكون اسمه أحمد، ويحدث هذا غالبًا حينما تكون فرحة الأب الصومالي ببكره عصية على التعبير فيقرر أن يشتق اسمًا من أسماء الرسول الأعظم ليتبارك ابنه الثاني الذي لن يجد نفسه في المهجر الجديد.
يضرب فيوز أو يلتمس سلكان في رأسه حين ينصب اهتمام الوالدين على الطفل الأول الذي لا يمارس شيئًا غير الاستيقاظ مبكرًا والجري هربًا من شيء معين لا يعرفه أحد.
تظهر أعراض اضطراب المهجر بشكل مزعج عادة في الطفل الثاني من الجيل الأول، يلاكم كل من يلتقيه، يصبح عنيفًا عصيًا على الفهم، يفتعل المعارك مع رجال الشرطة غير المدربين على التفاهم مع شاب أسود غاضب، يأتي والده في ساعة متأخرة ليكفله على ألا يعود لإزعاج الناس الهادئين في هذه البقعة من العالم الجديد.
احتفل المسلمون والعرب كثيرًا ليلة تتويج محمد فارح بذهبية الخمسة آلاف والعشرة آلاف متر في ريودي جانيرو، شيء ما ذكرهم بصورة أطفال الصومال على صناديق التبرعات وفي حملات الأيام الأخيرة قبل عيد الفطر وعيد الأضحى القادم بعد أيام، بكت نساء كثيرات على حال الأمة الإسلامية حين رأين السلسة الذهبية على رقبة مو – وهذا هو التلطيف لاسم محمد حين يمثل تاج الملكة -، صوماليي المهجر، شعروا بوخزة في القلب حين لم يذكر شيء عن الصومال الكبير بعد أن سجل اسمه في سجلات التاريخ متناسين أن قبيلة محمد فارح تطالب بالانفصال منذ عام 1990م.
الخليجيون – الذين بين أظهرهم مئات الآلاف من الصوماليين ولا يسمحون بالتجنيس ولا يحسنون استغلال الملايين من أبناء الوافدين لديهم – نصبوا هاشتاجًا خاصًا للاحتفال بعثرة محمد الذي استمر في الركض حتى بعد أن سقط تلك السقطة التي هزت جنبات بريطانيا العظمى التي بدورها أنساها هذا الصومالي الهارب من شيء ما حوارات خسائر الخروج من الاتحاد الأوروبي.
عمدة لندن الباكستاني بقي ساهرًا حتى الفجر ليقول إن المسلمين يستمرون بالركض والتقدم وإن الملكة تنام بهدوء الآن في سريرها الأبيض بينما – نحن أبناء المهاجرين وسائقي الباصات – نحمي ديمقراطيتكم العتيقة.
لقد كان حدثًا غير عادي وكانت السقطة كفيلة بإنهاء ركض الكلمات على مواقع التواصل الاجتماعي في تلك الليلة من ليالي أغسطس الساخنة.
في بكين قبل أعوام خرج الصومالي البريطاني – وهكذا يعبر أبناء الجيل الثاني من أبناء سائقي الحافلات حين يتكلمون عن أنفسهم بينما تحبذ مصادر الإعلام الأخرى أن تسميه البريطاني الصومالي – من سباق الخمسة آلاف متر ليشرب الماء على الخط ويريق آخره كما يفعل في كل وضوء على رأسه مكملاً السباق متقدمًا على الجميع كي يدرك لحظة سجود الختام والماء على رأسه لم ينشف بعد.
ليلة البرازيل، كانت الأخبار تصل إلى محمد فارح، أخوك المجنون أحمد في السجن وينتظر محاكمته الثانية، إن لم يفلح المحامون في إخراجه هذه المرة فسوف يعاد إلى الصومال.
أصبحت الصومال منذ الألفين الميلادية منفى أنيقًا يرسل إليه الآباء الصوماليون أبناءهم المشاغبين، عادة ما تكون هذه التجربة من نصيب الفرد الثاني من ذكور العائلة والبنات اللاتي لا يلبسن الحجاب ويبدأن الحديث بصوت مرتفع عن حقوق المرأة مشككات في جدوى خروجهن للعمل بينما يحظى إخوانهن العاطلون بجل الميراث، غالبًا ما ترافق هذه الأعراض حمية حادة تنتقل البنت على إثرها لأن تصبح نباتية رافضة الجلوس على مائدة العائلة لأنها لم تعد تأكل اللحم ولا تفهم أغاني سمتر.
لم ينم جيدًا – مو – كما صرح مدربه الذي يحب التزام محمد بالركض دون أن يفهم هو أيضًا: لماذا يستمر هذا الصومالي النحيل ناتئ الجبهة بالركض حتى عندما لم يسمح له بحمل العلم البريطاني ليلة افتتاح الأولمبياد؟ّ!
“تعيد الرياضة اكتشافك لنفسك” هكذا يقولون في أحاديث موقع تيد ويصاحب ذلك تصفيق خجول عادة.
لم يخبرنا أحدهم: لماذا تناسب رياضة الركض للأمام العدائين الأفارقة دون هدف واضح إلا خط النهاية الذي وضعه رجل أبيض مستعينًا بالمسافة التي وضع أساسها اليونانيون القدماء؟! لماذا يحتكر الأمريكيون السباحة والألعاب الفردية حين تكون داخل مستطيل أخضر ومضرب غالي الثمن وحذاء تتنافس على وضعه في قدم الرياضي كل الماركات العالمية؟ لماذا يبدو اللاتينيون وخريجو مدن الصفيح في جنوب مارسيليا أحق ببطولات كأس العالم؟ لماذا يستمر اليابانيون في رشاقتهم إلا حين تظهر بطولات المصارعة في الأولمبياد؟
هل مازال العالم القديم موجودًا كما تخيل اليونانيون شعوب الأرض، كم من الأعوام نحتاج فعلاً ليفاجئنا بطل أولمبي في تغيير خارطة الشعوب القديمة من على منصة المونديال؟
ماذا عن العرب؟ المجنسون يحصدون الذهبيات والمصري الذي قرر فجأة ألا يصافح الإسرائيلي كان مهزومًا للتو، السعوديون يتقدمون ببطء هذه المرة ولكن بالنساء المحجبات اللاتي يتدربن في واشنطن كي يصبح صوت المرأة أعلى، وكان نصيبهن من – الطقطقة – عاليًا في تويتر، الجميع يسخر من الجميع ولا أطباء نفسيين لعلاج كل هذه الحالات النفسية التي تملك قدرة على السخرية من كل شيء، ولكن لا تستطيع أن تمارس الرجولة الحقة في الوقوف خلف آلام الرياضيين لتمثيل بلدانهم.
نال الديحاني ميدالية خسرتها الكويت كدولة لأن الديمقراطية لم تستطع أن تبتعد عن الرياضة في أجمل حريات الخليج، سوريا شاركت تحت بند اللاجئين، أقلية الأورومو تصعد للمنصة وتندد بالطاغية بينما يسخر الجميع من تخمة السباح الإثيوبي، السياسة حاضرة في كل تفصيل صغير أيام الأولمبياد.
تاريخ الرياضة معقود بناصية الممكن، حين تكون سجينًا ستخرج لاعب شطرنج محترف، وحين يطول سجنك في العالم العربي دون أن تحاكم ستتعلم لعب كرة الطائرة مع السجانين الطيبين، وحين تكون مثل الديحاني بدويًا يرى الأهداف كعصفور في البرية ستحصد الذهبية حتى في البرازيل دون حاجة لاتحاد رياضي عتيق، ستقيم لك القبيلة مأدبة عشاء وتبدأ القصائد في فخذ من أفخاذ مطير.
استمر الصوماليون في الركض في كل الأولمبياد لأنهم كانوا يدخلون المدينة ويخرجون منها فجأة، لم تكن هناك اتحادات رياضية، ولم يكن الركض محتاجًا لشيء إلا ضوء القمر حين تطارد فريسة أو تهرب من ذئب خرج فجأة، لا يحتاج الركض للكثير، يحتاج فقط للمسافة بين نقطتين ولحظة الفجأة، وأنت من يضع النقاط بينما يحتاج الأكاديميون خريجو الجامعات العريقة قلمًا ومسطرةً لتحويل المسافة إلى قانون رياضي وضعه اليونانيون القدماء كي يسهلوا فهم الأشياء البسيطة في البادية، حين يصل الأفارقة للجري تحت شعلة الأولمبياد.
سقط مو – محمد فارح – لأن الكينين فكروا في هذه الحيلة لإسقاط الجمل الصومالي طويل الخطى، كانت لحظة أو لحظتين من التوجس ثم تعتاد الحياة توجسًا كما يقول الشاعر الأردني بهاء السيوف، تقلب الصومالي مرتين على الأرض ثم نهض بلمعة لم يفسرها أحد في عينه.
ينوي الكينيون بناء جدار طويل بين الصومال وكينيا بعد أن أهداهم الإنجليز إقليمًا كاملاً بعد الاستقلال، اقتطعوا جزءًا كبيرًا من البحر لأن الغاز وفير هناك، أعطوا وزارة الخارجية لصومالية ذكية بينما ينافس الصوماليون الهنود في أسواق ممباسا.
لكنهم لن يخرجوا القرصان – حين يضع علم بريطانيا على صدره من السباق – خالي الوفاض.
وجه أخيه أحمد الذي لم يتأقلم في المهجر يراه حتى لو يكن مو يراه، طفله الرابع في بطن الإنجليزية التي يحبها، وكل ما يمكن أن يعنيه انتصاره لشعب أفشل دولة على الأرض كما تقول الأرقام التي لا يدققها أحد.
انتصاره سيهزم الذئب في الصحراء حين يكون القمر مكتملاً، نظر لصديقه القديم (القمر) ليرى الطريق أقصر حين قام من كبوة افتعلها الجيران الأعداء.
لهذه اللحظة وحتى كتابة هذه السطور: أتحدى محمد فارح أن يعرف من أي شيء يهرب حين يبدأ كل سباق، شيء ما حدث في طفولتك سيرسم مسار حياتك، وحين تستمر في الركض وتصبح ابن بريطانيا العظمى بينما ملامحك هي ملامح كل مشتبه به في مطارات العالم يحمل اسم محمد فارح ستسيقظ مفزوعًا وتحمل ميدالياتك الثلاث في كل مطار لتقنع الضابط أن الصورة التي على الجواز هي صورتك، وأنك لست إرهابيًا فقط لأنك صومالي، وأنك ذلك البطل الذي يسجد ثم يقبل زوجته البيضاء ليقول للعالم إن الصومالي غزال رشيق يعرف القفز على القوانين ويغني ككنعان في كل احتفال بهيج، لن يصدقه ضابط الهجرة الأمريكي الأبيض الذي لا يتابع إلا سباقات المسافات القصيرة، وربما قابل أخاه أحمد في جيبوتي عائدًا للصومال لاشتباه في الأسماء.
مطلع سبتمبر ستبدأ الانتخابات الصومالية وسيعود الكثيرون من أبناء المهجر والمنافي التي اختارتهم ولم يختاروها، ستكون هناك بعض الملاعب الجديدة، فريق السلة النسائي يبلي بلاءً حسنًا، الجيل القادم من الخليج العربي يناولون بعضهم كرة القدم على شاطيء ليدو – رغم كل تلك التفجيرات – ويستمرون بشتم بعضهم باللغة العربية، القادمون من مينسوتا وكندا سينافسون على بطولة الهوكي، سنين الغياب في المهجر انتهت، سيكون بطلنا القادم صوماليًا صوماليًا ولو بعد حين، فإلى سبتمبر كي تغير السياسة وجه الرياضة الجميل كما كان يعتقد اليونانيون القدماء حين أوقدوا أول شعلة أولمبية على ضاف الأبيض المتوسط، حيث يعبر الناجون من الموت كل يوم لكي يختاروا علمًا أوروبيًا على صدور أبنائهم من الجيل الثاني.
موعودون جميعًا إن لم تتوقف الحروب بأبطال قادمين من الشمال، راكضين تحت القمر أو سابحين فوق الموج، ملامحهم ملامحنا، ألسنتهم ألسنتنا، آلامهم آلامنا، لكنهم لا يعرفون تمامًا إلى أي جهة من جهات الأرض يركضون!