“تسييس الصوفية” في واقع عربي ملغم بالطائفية!

قد تكون الصوفية، إحدى خيارات الغرب لتمرير أجندته الخاصة في الوطن العربي، لكن هذا لا يعني وجود علاقة مباشرة تحمل طابع العمالة بين الحركات الصوفية والغرب، الصوفية بطبيعتها لها علاقة سلبية مع حركة السياسة، وهي من هذه الناحية لا تشكل خطرًا على الأنظمة العربية الحاكمة، ولا على الأجندة الغربية.
اتجاه الصوفية نحو العزلة عن الحراك السياسي، هو في النهاية فعل سياسي مبطن، يهدف إلى إقامة علاقات جذرية داخل بنية الأنظمة، وفي ذات الوقت يضمن تشغيل الحركة المالية للحركات المتصوفة بدون إشكاليات قانونية، ولذا نلحظ أن أغلب الحركات الصوفية تمتلك شركات تجارية، وكثير من رموزها لديهم أرصدة مالية ضخمة، وهذا الرصيد المالي المفتوح، جعل من الصوفية، إمبراطورية مالية، خفية، عابرة للقارات.
الرصيد المالي المفتوح، جعل من الصوفية، إمبراطورية مالية، خفية، عابرة للقارات
ومع انفجار الثورات العربية الأخيرة (نهاية 2010 بداية 2011)، انقسمت الحركات الصوفية بين مسالم للأنظمة الحاكمة، وآخر مسالم للثورات، وثالث مراقب لحركة الصراع بين الثورة والثورة المضادة، وفي الفترة الأخيرة بدأت بعض الرموز الصوفية تذهب نحو ممارسة “تسييس التصوف”، عبر إظهار علاقاتها التي كانت خفية، مع الأنظمة العربية إلى العلن، ومن هنا يمكن فهم اتجاه بعض الدوائر الغربية نحو محاولة الاستفادة من هذا التسييس، مما أظهر صوفية جديدة، بعيدة عن الصوفية العامة، يمكن تسميتها بـ “الصوفية السياسية”.
ويأتي المؤتمر الذي عقد في الشيشان قبل أيام، برعاية روسية ودعم إيراني، كتفسير طبيعي لمحاولة الدول المتصارعة على الشرق الأوسط، الاستفادة من “تسييس التصوف”، كما استفادت في فترة ما من “الإسلام السياسي”، فبينما دعمت واشنطن، أو حمت، حركة كولن الصوفية في تركيا، اتجهت روسيا لدعم بعض الرموز الصوفية في مصر واليمن.
في كل الأحوال، فإن القول بأن الدوائر الغربية تقوم بصناعة الصراعات الدينية في المنطقة العربية، يمثل تزييفًا للواقع، فالتدين الصوفي والتدين السلفي، موجودان في المنطقة العربية، كأحد نواتج الصراع التاريخي بين الشيعة والسنة، وهو صراع ولد قبل مجيء الدول العظمى، لا تفعل تلك الدوائر الغربية أكثر من الاستفادة من صراع موجود على الواقع، وهو واقع مليء بالتطرف الديني والتعصب المذهبي، وحتى محاولات التوظيف الغربي لهذا الصراع، يأتي لاحقًا لتوظيف إقليمي: سعودي – إيراني، كما هو حاليًا.
فمع دخول المنطقة العربية، مرحلة صراع إقليمي طرفاه إيران والسعودية، ذهبت السعودية باتجاه دعم “السلفية المتشددة”، بينما فضلت إيران التوجه نحو “الصوفية السياسية”، ليأتي “الإعلام الموجه” وفقًا لوقائع على الأرض، للحديث عن إسلامين صوفي وسلفي.
من الطبيعي أن تتجه إيران لدعم بعض رموز الصوفية، محاولة منها اختراق حركات التصوف العربية، لكون التصوف أقرب في طبيعته للفكر الشيعي، من حيث اعتماد كليهما على “الخرافة”، وحتى تاريخيًا بدأت الحركات الشيعية بطابع صوفي، بينما اتجهت السعودية لدعم رموز السلفية التي تنهج “تدينًا مذهبيًا” مبنيًا على فقه طاعة ولي الأمر.
ظلت الصوفية العامة طوال تاريخها، سالكة درب العاشقين، وعازفة موسيقى الروح، وإبان حقبة الاستعمار الأوروبي للوطن العربي، انحازت الروح الصوفية لصالح مقاومة الشعوب
ظلت الصوفية العامة طوال تاريخها، سالكة درب العاشقين، وعازفة موسيقى الروح، وإبان حقبة الاستعمار الأوروبي للوطن العربي، انحازت الروح الصوفية لصالح مقاومة الشعوب، كما في الجزائر، لكن “الصوفية السياسية” التي نتجت عن إدخال الصوفية العربية ملعب السياسة، وقفت بوضوح في مربع الثورة المضادة، وظهرت رموز الصوفية السياسية في الشيشان، مدافعة عن مجرمي الأنظمة العربية، مقررة بجرة مزاج طائفي، احتكار مذهب أهل السنة، وهو مذهب تاريخي تحتكر السلفية العربية أيضًا، منصة الحديث باسمه.
من الناحية الأيدلوجية، تحاول السلفية والصوفية السياسية، احتكار الحديث عن الإسلام، وهما في الواقع يستندان إلى نسخة تاريخية من الإسلام، “الإسلام السني”، وهو إسلام تقابله نسخة تاريخية مضادة “الإسلام الشيعي”، وكلا الإسلامين لا يعبران بالضرورة عن الإسلام الحقيقي، لكن مع نشوء الصراعات السياسية المعاصرة في الشرق الأوسط، وفي ظل موجة فشل الجهود لنشوء صراع طائفي شعبوي (سني – شيعي)، يتم الاتجاه حاليًا لرعاية صراع (سني سلفي – سني صوفي).
الخطورة تكمن في كون الصوفية والسلفية، فكرتان سنيتان، تلعبان معًا، في محيط جغرافي عربي، وفكرة انشطارهما سياسيًا باتجاه السعودية وإيران، تصب في اتجاه صب الزيت في نار هذا الصراع الجديد داخل البيت السني العربي، بعد فشل كل الجهود لإيصال الصراع الشيعي – السني إلى مرحلته الأخيرة، بسبب رفض حركات الإسلام السياسي الانجرار إلى مستنقع هذا الصراع.
كان يمكن للسعودية أن تذهب باتجاه التقارب مع جميع الحركات الإسلامية، صوفية وسلفية، لكنها بعد محاربتها لحركات الإسلام السياسي، وعوضًا عن تجاهلها للحركات الصوفية، فضلت الذهاب باتجاه دعم الحركات السلفية التي تحمل فكرًا متطرفًا، بينما بقي رموز السلفية المعتدلين، على قارعة الإهمال أو الاغتيال كما في اليمن.
ما يمكن إضافته، أنه من التجني الحديث عن الصوفية، في سياق أن جميع رموز وحركات الصوفية في قالب واحد، فكثير من الصوفيين ما زالوا في خط البعد عن السياسة، كما أن بعض رموز الصوفية ذهبوا باتجاه دعم خيارات الدولة، بالإضافة إلى كون تدين نسبة كبيرة من الشعوب العربية، ذو مسحة صوفية، أما موالاة الأنظمة العربية، فهو ليس حصرًا على بعض رموز الصوفية، فبعض رموز السلفية وبعض تياراتها، ذهبوا في اتجاه إجباري لدعم نفس الأنظمة المستبدة، وإن اختلفت الأهداف وتضاربت المصالح.
في النهاية “تسييس التصوف”، هو مفيد من ناحية أنه يعري انتهازية بعض رموز التصوف، ويفضح علاقتهم النفعية مع الدين، الذي طالما تم توظيفه لصالح مآربهم الخاصة، كما أن التسييس بحد ذاته، يعمل على فرز الصوفية الروحية النقية من الصوفية النفعية.