“أنا لم أترك المسيحية من أجل الدخول في الإسلام، بل تركت الإلحاد لأصبح مسلمًا”، هي جملة يبدأ بها جيفري لانج أغلب محاضراته عن الإسلام، فهو الأمريكي المولود في عائلة كاثوليكية، ليقضي أول 18 سنة من حياته ككاثوليكي في مدارس كاثوليكية خاصة، حتى بلغ نقطة تحول في حياته بدأت بالشك في كل شيء.
بدأ لانج في جعل كل شيء حوله قابل للسؤال، ليخفف من تقديسه لكل شيء كان يقدسه من قبل، ليكون الدين بالنسبة إليه علامة استفهام كبيرة لا يستطيع فك لغزها والوصول إلى إجابات مرضية تكفي بحثه وترضي سؤاله، حيث فقد الثقة في السياسة والمجتمع والنظام ليقرر أن يكون ملحدًا تمامًا عندما بلغ الثامنة عشر.
جيفري لانج هو أحد أساتذة الرياضيات في جامعة كنساس، واحدة من أهم الجامعات في الولايات المتحدة الأمريكية وأكبرها، بدأ تعرفه على الإسلام من الطلاب المسلمين في الجامعة، فكان معروفًا أنه ملحد من نقاشاته مع الطلاب عن الدين، وبخاصة المسلمين منهم، ليجد في يوم ما على مكتبه نسخة من القرآن الكريم مترجمة إلى الإنجليزية.
لم يأخذ جيفري لانج وجود القرآن الكريم على مكتبه في الاعتبار، ولم يعيره تلك الأهمية، فهو يعلم أنها محاولة لطيفة من الطلاب لإيجاد حل وسطي في نقاشاتهم مع أستاذهم حول مسألة الدين، وهو يعرف أنهم لا يحاولون بأية حال أن يجبروه على اعتناق ديانتهم، لذا وضعه على رف الكتب الخاص في منزله، ونسيه تمامًا.
لم يجد جيفري ما يقرأه بعد أن انتقل من سان فرانسسكو في غياب كتبه التي طلب لها أن تُنقل مع شركة نقل خاصة، لذا معه بضعة من الكتب التي وضعها في حقائبه أثناء الانتقال، ليكون القرآن الكريم من بينها بمحض الصدفة، ليبدأ في قراءته لكسر الملل، فهو يعرف أنه سيمل بعد قراءة بضع من صفحاته، بل رأى أنها وسيلة جيدة لجلب النعاس والنوم مبكرًا، فعلى حد كلامه في حواراته التلفزيونية عن رحلته من الإلحاد إلى الإسلام أنه لم يكن يتوقع الكثير ليجده في القرآن الكريم، إلا أن النتيجة كانت على عكس ما يتوقع تمامًا.
الحوار في القرآن
لاحظ جيفري في البداية مخاطبة الإله المباشرة للإنسانية من خلال الكتاب، فهو أسلوب لم يتعوّد عليه من قبل في قراءة الدين، فطالما تعوّد على قراءة الدين من وجهة نظر التاريخ، أو من وجهة نظر السير الذاتية للأنبياء والقديسين، كما كان متصورًا أنه لا يحدث حوار بين الرب وعبده إلا من خلال وسيط، سواء كان الوسيط هو نبي، أو رسول، أو قديس في الكنيسة، أو من خلال ولي الأمر من أحد الصالحين، ليجد في القرآن خطابًا مباشرًا من الإله للعبد بدون أي وسيط، وهو ما جعله يقول إن مؤلف هذا الكتاب عبقري، وإنه بلا شك يتبع أسلوبًا ساحرًا في جذب القارئ.
اعتبر جيفري أسلوب الكتابة أسلوبًا فريدًا، فلقد اعتمد القرآن كليًا على أسلوب الحوار، فتسلسل الآيات يدفعك للتعجب والسؤال، ومن ثم تجد الإجابة بعد أسطر قليلة من خلال الحوار، ليكتشف لأول مرة سبب وجوده على الأرض من خلال أحد الحوارات الأهم في القرأى الكريم، وهي حوار الله مع الملائكة والشيطان عن جعل آدم خليفة في الأرض، فكل ما كان يعرفه جيفري من خلال المسيحية أن وجود الإنسان على الأرض هو بمثابة عقاب له للتطهير من آثامه التي وُلد محملًا بها، ليجد العكس تمامًا في القرآن الكريم في وجود الإنسان على الأرض ليكون خليفة، ويؤدي مهمة نبيلة خلقه الله من أجلها.
اعتبر جيفري ذلك الحوار بمثابة منارة له للتعرف على الإسلام، فكانت أسئلة الملائكة لله في هذا الحوار هي نفس أسئلته التي دفعته للإلحاد، لماذا قد يخلق الله البشر على الأرض، لينشروا فيها الفساد، ويريقوا فيها الدماء، لتكون أكثر المخلوقات إجرامية على وجه الأرض، في حين كان في إمكانه الاحتفاظ بالمخلوقات المسالمة، التي تمجده وتعبده ولن تكون بأي درجة أكثر إجرامية مما قد يكون الإنسان.
حوار جيفري لانج في بريطانيا عن رحلته إلى الإسلام
لا يعني أنك لا تعارض وجود إله أنك تؤمن به
لا يعتبر جيفري أن عدم الاعتراض على وجوه الإله هو سبب كافٍ للإيمان به فورًا، ولكنه يعترف بأن للقرآن الفضل الأكبر على هدم الحاجز القوي الذي بناه هو وقت إلحاده بينه وبين أي سبب قد يقنعه يومًا ما بوجود إله، فبعد قراءاته لحوار الله مع الملائكة، قرر أن يستمر في قراءة ذلك الكتاب حتى ينتهي منه بعد أن يكون قد استكشف أغلب ما فيه، وبالقراءة المستمرة بدأ ذلك الحاجز الذي وضعه جيفري بينه وبين فكرة وجود إله بالانهيار شيئًا فشيء، فقد وجد إجابات لأسئلة كان يبحث عنها لمدة طويلة من الزمن مع القراءة المتمعنة لآيات القرآن الكريم، وهو ما دفعه إلى الإيمان أخيرًا بأن هذا الكلام لا يمكن أن ينبع من بشر، وإنما هو حوار مباشر بين الإله وعبده، ولا يمكن أن يكون شيئًا غير ذلك.
الروحانية في مواجهة الإلحاد
يرى جيفري أن الإسلام يقدم شيئًا لا يقدمه أي من الأديان السماوية الأخرى ولا حتى مبادئ الفلسفة التأملية أو الوجودية، ألا وهو الروحانيات، ليستطيع مواجهة لحظات إلحاده بلحظات جديدة من الأوقات الروحانية التي استطاع فيها أن ينفصل عن الواقع كليًا ويتصل بما هو أكثر عظمة وقوة منه، ليجد أن آيات القرآن الكريم باستطاعتها بالفعل أن تبكيه، ليبدأ جيفري مرحلة مختلفة تمامًا من حياته، وهي الشك في عدمية وجود الإله وليس الشك في وجوده.
ضياع ديني، كتاب من تأليف جيفري لانج عن الإسلام
كانت الخطوة الكبرى الأخرى في رحلة جيف لاعتناق الإسلام في تعرفه إلى الصلاة وكيف يؤديها المسلمون، وهو ما تعلمه من الطلاب المسلمين في الجامعة عندما ذهب إلى المكان الذي يجتمعون فيه في الجامعة لآداء الصلاة، ليعيش واحدة من أكثر اللحظات التي لم ينساها في حياته ولا ينساها في أحاديثه عن رحلته، وهي عندما تحدث مع أحد الطلاب عن الإسلام وسأله بماذا يشعر المرء إن كان مسلمًا، ليجيبه الطالب إجابة لم ينساها جيفري قط وهي:
“الله رحيم، ويحبنا أكثر مما تحب الأم وليدها، لذا أنا أعيش بإرادته، أتنفس بإرادته، أرفع قدمي عن الأرض وأعيد وضعها بإرادته، كلنا نتحرك بإرادته، ونواجه ما نواجهه بإرداته، كل رحلة على هذا الأرض بقرار منه، حتى وإن كانت رحلة ورقة شجر تسقط من جذع الشجرة على الأرض لا يشعر بها مخلوق على هذه البسيطة ولكنه يشعر بها، لأن تلك الرحلة التافهة في نظر الكل كانت بإرداته هو، وعلى الرغم من إيماني بسيطرته الكاملة على كل شيء، إلا أنني عندما تلمس أنفي الأرض أثناء الصلاة، أشعر بسلامه وهدوئه ورحمته، وهو ما لا يمكن اختصاره في تلك الكلمات، فيجب على المرء تجربتها ليذوق حلاوتها، لذا فهل تحب أن تكون مسلمًا”، ليجيبه جيفري ربما ليس اليوم، ليجيبه الطالب بأنه يشعر بأنه يؤمن بالإسلام في داخله، فلماذا لا تحاول أن تكون مسلمًا!، ليتذكر جيفري كلام أمه له حينما أخبرته بأنه يجب أن يحاول أن يسعى وراء ما يؤمن به، فقط في حالة إيمانه الكامل بهذا الشيء في قلبه، فيجب أن يسعى خلفه، حتى ولو كانت الإنسانية كلها ضد تلك الرغبة، ليقول له في النهاية إنه سيصبح مسلمًا منذ هذه اللحظة!