خاض الجنوب الليبي صراعًا قبليًا له طابع سياسي، ولكنه في النهاية بات يحسم بزخات الرصاص، في منطقة أوضاع معيشية صعبة جدًا، وذلك بسبب النقص الحاد في الوقود وانقطاع التيار الكهربائي لساعات طويلة.
هذا الأمر يجسد معاناة المواطنين يوميًا للحصول على الحد الأدنى من متطلبات الحياة، مع توقف غالبية الخدمات العامة والخاصة، وشلل المؤسسات الاقتصادية، وتوقف الآلاف عن العمل واستفحال الفقر في مناطق الجنوب.
الأهمية الاقتصادية لهذا الجنوب الفقير
حرب إخضاع الجنوب هي التي ستتحكم في طرابلس وبنغازي اقتصاديًا، فيما يتعلق بمرافق الكهرباء والمياه، كما يعتبر خبراء أمنيين مناطق الجنوب شريان تجارة ليبي، ناهيك عن نشاط تهريب المخدرات، والأسلحة، والمسلحين، والمهاجرين المستعدين للمخاطرة بحياتهم للوصول إلى البحر الأبيض المتوسط وعبوره إلى الجانب الأوروبي.
يتواجد في الجنوب أيضًا النهر الصناعي العظيم، – الذي أنشأه القذافي -، يجمع المياه الأحفورية الهائلة المحاصرة في طبقات الحجر الرملي النوبي الواقعة تحت الصحراء
تقع معظم احتياطيات المياه والطاقة في ليبيا بالجنوب، وهي منطقة تضم هضابًا صخرية وبحارًا من الرمال، تتخللها بعض الواحات الصغيرة والبحيرات، كما تشمل المناطق الجبلية على غرار جبال تدرارت أكاكوس القريبة من فزان وجبال بيكو بيتي على طول الحدود مع تشاد وجبل العوينات جنوب شرق البلاد.
يتواجد في الجنوب أيضًا النهر الصناعي العظيم، – الذي أنشأه القذافي -، يجمع المياه الأحفورية الهائلة المحاصرة في طبقات الحجر الرملي النوبي الواقعة تحت الصحراء، ومن خلال شبكة من القنوات الصغيرة، تغذى المدن والمناطق الزراعية على طول البحر الأبيض المتوسط.
يتواجد هناك أيضًا 5 حقول نفط وغاز كبيرة في غدامس – بركين.
وتعد هذه القناة الأكبر في العالم، حيث تمتد لحوالي 4000 كم، وتحمل 6 ملايين مترمكعب من المياه يوميًا من الجنوب إلى الشمال على طول قناتين، تبدأ من فزان والكفرة، كما أن 70% من السكان يعتمدون على هذه البنية التحتية، وكذلك الأنابيب الواقعة تحت الأرض، يمكن أن تتعطل بسهولة في أي نقطة من الطريق.
كل ذلك فضلًا عن حقول النفط البحرية التي تشرف عليها شركة إيني، وتعمل على حمايتها قوات عملية “البحر الآمن” التابعة للبحرية الإيطالية، ويتواجد هناك أيضًا 5 حقول نفط وغاز كبيرة في غدامس – بركين.
معركة سرت لن تحسم معركة ليبيا
يُشير تقدير موقف نشر بالصحيفة الإيطالية لينكياستا أنه على الرغم من الانتصارات التي تحققها حكومة الوفاق الوطني برئاسة فايز السراج ضد ميليشيات تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في سرت، إلا أن ذلك لا يعني تراجع ما أسموه “الخطر الجهادي” في ليبيا، لا سيما وأن داعش، وغيرها من التنظيمات الجهادية الأخرى، ما تزال منتشرة في العديد من مناطق البلاد، وعلى وجه الخصوص في الجنوب.
وتطرق كاتب تقدير الموقف هذا إلى الأهمية الاستراتيجية للجنوب الليبي في استقرار البلاد، موضحًا مدى ضرورة وجود حكومة قوية، تحظى بإجماع غالبية الليبيين ولها جيش موحد وقوي، وذلك من أجل بسط سلطتها على كامل مناطق البلاد، وعلى وجه الخصوص الجنوب الليبي، الذي عده ملاذًا لعدد من العصابات والمجموعات المتطرفة، على حد قوله.
ما يفهم جيدًا من التقديرات الإيطالية بالطبع هي الخوف السواحل الليبية المحاذية للمنشآت النفطية، الواقعة على بعد 40 كم غرب سرت إلى حدود السدرة، وفي جنوب بنغازي، ومحيط درنة، وكذلك أمر الهجرة غير الشرعية.
فالمصالح الغربية بشكل عام تنظر إلى القصف الأمريكي ضد مواقع داعش في سرت، على أنه كان فعالًا، حيث مكن القوات البرية الموالية لحكومة الوفاق الوطني من استعادة كامل سرت تقريبًا، كما أجبر مسلحي “داعش” على اللجوء إلى بعض مقار قيادته، في مجمع واغادوغو.
التقديرات الإيطالية بالطبع هي الخوف السواحل الليبية المحاذية للمنشآت النفطية، الواقعة على بعد 40 كم غرب سرت إلى حدود السدرة
ولكن الإدراك الغربي بدأ يرى أنه من الصعب وبشكل متزايد، أن تتمكن حكومة الوفاق الوطني الحالية المعترف بها من قبل الأمم المتحدة، ومن دون مساعدة خارجية قوية، من توحيد الأمة، ونشر جيش قادر على القضاء على التهديد الذي يشكله داعش، وكذلك يضم الغرب إلى قائمة خصومه أنصار الشريعة، وكذلك بعض من القبائل الموالية للإسلاميين يرونها “قبائل متطرفة”.
وهو الأمر الذي لا تزال معه فرضية تدخل عسكري خارجي نطاق واسع في البلاد، تحت إشراف الأمم المتحدة، أمر مطروح، في ظل معارضة بعض جيران ليبيا، وترحيب آخرين.
حرب نفوذ
نصب الغرب حكومة السراج وعينه على حرب النفوذ والسيطرة على الأراضي والموارد الغنية، وعلى وجه الخصوص آبار وحقول النفط، وذلك بعد معركة داعش.
حيث ترى القوى الغربية وفي مقدمتها إيطاليا أن ثمة تجمعات تتركز في الساحل، وتهدد المدن والمواني والبنى التحتية للنفط، وتدرك في نفس الوقت الأهمية الاستراتيجية للداخل وللاحتياطات الهائلة للطاقة والمياه لبقية المنطقة بأسرها.
يُشار إلى أن فرنسا وإيطاليا والمملكة المتحدة لديهم بالفعل قوات خاصة في ليبيا، لمهام تتعلق بالتدريب والرصد، وكذلك للقيام بتدخلات محدودة، ولكنهم يفكرون أكثر فأكثر بجدية بالتدخل على نطاق أوسع بهدف القضاء على تنظيم داعش تمامًا، ووقف تدفق موجات المهاجرين إلى أوروبا، لكن هذه الأجندة قد يضاف لها بند جديد إذا ما فشلت حكومة الوفاق الوطني في جمع شمل البلاد مرة أخرى لتأمين المصالح الغربية في المقام الأول ثم إحداث استقرار نسبي لا يعود بالضرر على الغرب.
ترى القوى الغربية وفي مقدمتها إيطاليا أن ثمة تجمعات تتركز في الساحل، وتهدد المدن والمواني والبنى التحتية للنفط، وتدرك في نفس الوقت الأهمية الاستراتيجية للداخل وللاحتياطات الهائلة للطاقة والمياه لبقية المنطقة بأسرها.
وبما أن الجنوب المتمرد دائمًا في ليبيا هذا يوفر حاليًا مساحة لنشاط المجموعات المسلحة المطرودة من مناطق مجاورة مثل شمال مالي، وعلى ضوء تدخل عسكري محتمل للقضاء على تنظيم الدولة في المناطق الساحلية بالتحديد، يرى البعض أنه قد يتحول الجنوب الليبي إلى ملاذٍ آمن لهم ولغيرهم، ومن خلاله يمكنهم بناء قواعد جديدة لهم، تمكنهم من التحكم بشكل غير مباشر في البنية التحتية للطاقة والحياة نفسها للمدن الساحلية التي طردوا منها.
حيث يتضمن جنوب ليبيا نحو ألف كيلومتر من الحدود التي يسهل اختراقها مع الجزائر وتشاد، فضلًا عما يقرب من 400 كيلومتر مع كل من السودان والنيجر، في منطقة تعج بعمليات تهريب البشر والأسلحة والمخدرات.
وفي نفس الوقت يدرك الغرب استحالة التدخل الأجنبي في منطقة معادية تاريخيًا لكل الأنظمة الأجنبية والحكومات المركزية، الأمر الذي يمكن أن يدفع القبائل هناك إلى التحالف مع الجماعات الجهادية، ما يجعل الوضع أكثر صعوبة وتعقيدًا، ويصعب الخروج منه.
يتضمن جنوب ليبيا نحو ألف كيلومتر من الحدود التي يسهل اختراقها مع الجزائر وتشاد، فضلًا عما يقرب من 400 كيلومتر مع كل من السودان والنيجر
ولكن مسألة قدرة الحكومة الجديدة على خلق استقرار قائم على تحالف قد يكون هو الأقرب للحل، وذلك بتخطي عقبة عدم استفادة معظم القبائل الليبية من عمليات استغلال حقول النفط في المناطق الجنوبية، وهو ما سيستدعي إطلاق عملية تنمية شاملة، وإعادة توزيع للثروة بجانب أي خيار عسكري محدود يكون بالاتفاق مع هذه القبائل، ويظل هذا الخيار دونما إرادة داخلية ليبية وخارجية أممية حبر على ورق، ولكن البدايات أتت بإدارك النظرة الغربية استحالة استعادة استقرار ليبيا دونما الجنوب.