عاش الشعب الصومالي تحت جزمة العسكر وسوطهم ما يربو على 21 عامًا، كانت المصادرة والرأي الواحد يسيطران على الحياة العامة والخاصة، ورغم أن الصومال في تلك الحقبة كانت تعيش في أزهى عصورها قوة واقتصادًا وكرامة، إلا أنها كانت قوى هشة ولا تعتمد على أسس متينة، والشعب كان في معظمه يعاني أزمة من نوع آخر وهي أزمة الحرية وعدم المشاركة الفعالة لرسم مسار الوطن والتعبير عن الرأي والتعددية السياسية، حيث كان المجتمع يعيش تحت رهبة الخوف والمشانق، ولا يستطيع أن يمارس أبسط أنواع الحقوق والحريات إلا في ظل الهامش الضئيل المسموح له من قِبل أجهزة الدولة، بل كان ـ كعادة الجيش ـ مزاج الجنود وتصورات القادة هو الذي يقود الجميع عبر إثارة ثورية مليئة بالخطب الحماسية والتصريحات النارية والعزف المقصود على وتر المشاعر لشعب مرهف الإحساس مما جعل الشعب قنبلة موقوتة شديدة الانفجار قد تنفجر في كل لحظة.
ورغم هيبة الدولة والحكم البوليسي والقبضة الحديدية والسياسة العنيفة المتبعة لديها لم تستطع دولة العسكر أن تصمد أمام الواقع المأزوم وضربات الحركات المسلحة والقبائل التي كانت مدعومة من قِبل الدول المجاورة التي كانت تخاف من دولة صومالية قوية تعيد الأراضي الصومالية المفقودة إلى حضن الوطن.
وبعد عقدين من الاستبداد العسكري الذي قاد الجموع المسلمة نحو النظريات الغربية ومبادئ الشيوعية والتبني الساذج لآراء الاشتراكية، زادت المعاناة ووصل الكبت وكتم الأنفاس وحرمان الرأي الآخر والاعتقال السياسي والسجن التعسفي إلى أعلى مستوياته؛ مما أثار الرأي العام المحلي وعجل بانهيار الحكومة المركزية العسكرية على وقع المدافع المصحوبة بزغاريد القبائل أو على الأقل وسط حالة من الارتياح والمباركة على إسقاط النظام العسكري.
ولكن عندما ذهبت السكرة وبقيت الحسرة والحقيقة المؤلمة أيقن الشعب الصومالي بشتى قبائله وكياناته الجهوية وأحزابه المناطقية وحركاته التي كانت تديرها دول معادية للقومية الصومالية أن الواقع المؤلم والتبعثر الجغرافي أعنف من الاضطهاد الذي كان العسكر يمارسونه ضدهم، وبدأ الشعب يسكب دموع الندم ويقرع أجراس الحنين إلى زمن الديكتاتورية العسكرية التي وإن كانت متسلطة إلا أنها كانت تراعي المصلحة العامة وتحفظ الحدود وتصون الكرامة الصومالية أمام القوى الخارجية والعدو التقليدي الذي كان ومايزال يريد ابتلاع الصومال.
الجبهات التي سيطرت على مقاليد الحكم بعد أن هرب قائد ثورة أكتوبر ورئيس الصومال محمد سياد بري إلى منفاه الإجباري (نيجيريا) لم تكن بديلاً مناسبًا أبدًا، ولم تكن تهدف إلى حكم الصومال وقيادة دولة ـ ورغم ترنحها أمام ضربات المتمردين ـ كانت مؤثرة في محيطها الإفريقي والعربي، بل كانت الجبهات المسلحة والقبائل المعارضه تحركهم دوافع الانتقام وشهوة السلطة وشبق المال العام والسيطرة المطلقة على مقاليد الأمور دون أن تؤدي هذه العوامل إلى ملء فمهم أو إلى فكر سياسي ناضج وقيادة سفينة الصومال نحو الدولة الآمنة والرفاهية الاقتصادية والاستقرار السياسي ونحو التطلع إلى التقدم والازدهار.
كان همّ سماسرة الدماء وقادة العنف والكراهية نهب الثروات وطمس معالم الوطن وتمزيق الجغرافيا وبصق وجه التاريخ والهروب الجماعي من المسؤولية والتسول على أعتاب الذل والمهانة واغتيال الآمال في رحم الغيب وتخدير العقول باسم القبيلة تارة والمال الفاسد تارة أخرى.
وفي فترة وجيزة بعد سقوط الحكومة العسكرية تقاتلت الجبهات على أنقاض الوطن وبدأت موجة عارمة من الانتقام والتصفية وعمت الحروب الصومال وغرقت الموجات التشريدية دول الجوار، بل وصلت إلى أبعد القارات وأقصى الحدود وأصبح الإنسان الصومالي ذليلاً خائفًا فقيرًا لا يجد دولة تحميه ولا نظام يذود عن عرضه وأصبحت البلاد مستباحة، الحدود مفتوحة لقوى الشر وما هب ودب، ونشطت المخابرات الدولية في المسرح الصومالي الذي تحوّل إلى حلبة صراع مشكوفة وأمسكت الدول المجاورة التي كان الصوماليون خاضوا معهم حروبًا وموجات من الكفاح بزمام المبادرة.
ودخلت الأمة الصومالية منحدرًا خطيرًا نحو الهاوية ومستنقعات الحروب الأهلية الطاحنة، وتفرق الناس وتقاتلت الجموع وسالت الدماء على الطرقات وفي البيوت وعلى صفحة الوطن، وهاج الناس وماجوا ودخلوا في سراديب القتل وهربوا عن تربة البلد إلى صقيع الغرب وصحراء الشرق ومتاهات الغربة القاتلة.
هرج ومرج وجنون نحو لعق الدم ومصه! القاتل لا يدري لماذا يقتل أخاه، والقتيل لا يعرف بم قتل! استبحيت الحرمات واختفى الوازع ولوثت المليشيات المسلحة شرف الأمة وعزة القومية الصومالية التي كانت بالأمس القريب من أقوى الشعوب التي تقطن في القارة السمراء ودولة يحسب لها ألف حساب.
وقعت مآسٍ ومحن يشيب لهولها مفارق الولدان، أسَر بكاملها التهمتها المدافع ونهشتها الصواريخ، ومدارس هدمت على روؤس الطلاب، ومساجد أصبحت ضحية للخراب، وأسواقًا أحرقت ونهبت، ومات في جوف اللهب والألسنة المتصاعدة مئات من المواطنين الذين لا ذنب لهم سوى أن القدر حشرهم إلى هذه النقطة والسوق المنكوبة الذي لم ينج من روادها إلا النزر القليل.
وفي خضم عنفوان السباق نحو الدمار والدموع بدأ مسلسل نقض غزل الكرامة وواصل الصوماليون الدوران في المربع العبثي وبحماسة منقطعة النظير، طال الزمن وتخطينا كل الحواجز نحو إراقة الدماء والتغريد خارج السرب الدولي والخنوع نحو المجاعة والقرصنة وأصبحت “صوملة” تعني الفقر والإرهاب والفساد وأمراء الحرب وتجار المعاناة وحفاري القبور.
تباعد الشعب كالجزر ونتج عن القتال والمعارك الداخلية التي لا يهدأ أوارها ملايين القتلى والمشردين، وآلاف الحكاوي المؤلمة والقصص الرهيبة التي تؤرخ وحشية وانسلاخ تام من الآدمية، وطوابير طويلة أمام هيئات الإغاثة والمنظمات العالمية لعلها يجد المرأ ما يسد رمقه وما يقتات به ولو كانت ممزوجة بالذل والهوان تارة وبتغيير المعتقدات ودس سم التنصير وعلقم التبشير تارة أخرى.
بلغ السيل الزبى ولم يحتمل الشعب الذي أصبح واعيًا لما يدور حوله ما يجري في الوطن فكوّن ـ في لحظة من الإفاقة النادرة ـ أفرادًا مسلحة تحولت فيما بعد إلى حركات إسلامية يجمعها التوجه الإسلامي والتصورات الأيديولوجية، ولأول مرة خاض الشعب الصومالي وبقيادة إسلامية أصبحت في الصدارة ـ في سابقة أولى من نوعها ـ حربًا مريرة ضد أثرياء الحرب ومافيا الصراعات، في بداية المعارك الفاصلة في شوارع وأحياء مقديشو لم يكن في بال العالم وحتى في خاطر الشعب الثائر أن ينهزم أمراء الحرب بهذه السرعة القياسية أمام شعب كبلته الحروب وقسمته القبلية والسياسية، ولكن:
إذا الشعب يومًا أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر*** ولا بد لليل أن ينجلي ولا بد لليل أن ينكسر.
وبعد معارك طاحنة في مقديشو تحرر الشعب من وكر سماسرة الدماء ودخل في فترة يعتبر أنها كانت من أجمل الحقب التي مرت على الشعب الصومالي حيث عم الأمان وتطلعت الأمة نحو النهوض والوحدة ونحو دولة صومالية قوية، ولكن الدول الراعية لمعاناة الصومال وممن طبقوا علينا نظرية الفوضة الخلاقة لم يرق لهم الوضع المستتب والاستقرار النسبي فوأدوا التجربة الوليدة قبل أن ترى النور.
وبعد تلاشي الحلم الجميل دخل الشعب موجة جديدة من العنف والدماء والتيه، اعتبرها البعض أنها كانت أعنف وأنكى من سابقاتها حيث دخل العنصر الديني في الصراع الصومالي المحتدم، وتصدعت الحركات الإسلامية واختلفوا في تقسيم كعكة السلطة بعد أن أصبح شيخ شريف شيخ أحمد رئيسًا انتقاليًا للصومال، مما أدى إلى اشتداد وطأة الحروب وارتفاع منحنى التشظي إلى أوج عزه.
وصل الجميع إلى طريق مسدود مرة أخرى واتسعت الشرخة بين الإخوة الأعداء (الإسلاميين) ودخل الوطن في مطبات خطيرة هددت النسيج الاجتماعي الرخو أصلاً وكادت أن تطفئ شعلة الحلم الجريح، وبعد حملات انتخابية شرسة نافسها العديد من الوجوه المعروفة والشخصيات الجديدة في الخريطة السياسية الصومالية انتخب البرلمان الصومالي عام 2012م وجهًا جديدًا جاء من خلفية مغايرة لما ألفنا، ولأول مرة أصبح الرئيس الصومالي أكاديميًا يسعى إلى فرض الأمن وبسط هيبة الدولة والتغيير ودولة القانون والانتعاش الاقتصادي حسب الدعاية الإعلانية لبرنامجه الانتخابي، إضافة إلى كونه ممن عاشوا في معمعة الحرب منذ 1991م مما دغدغ مشاعر الملايين، ولكن وبعد توليه منصب الحكم أجهض الحلم الذي لاح في الأفق وأصبح نسخة مطابقة للأصل، بل تفشى الخوف وأصبحت الاختراقات الأمنية سمة بارزة في فترته ونخر سوس الفساد والمحسوبية في أجهزة الدولة وتباعدت الهوّة بين الصوماليين؛ مما أدى من جديد إلى حنين وشوق عارم إلى زمن الديكتاتورية العسكرية.