ها هي نسمات الحج تداعب أنوف المشتاقين، وتحلق في سماء العاشقين، لتسمو بالروح بعيدًا عن غبار الدنايا، لتحلق فوق سحب الرقي وعلو الهمة وتوهج العزيمة، لتفتح أبواب الخير على مصارعها، مغلقة خلفها منافذ الشر والحقد والحسد، ليصبح القلب حينها مؤهلاً لاستقبال روحانيات هذه الشعيرة استنادًا للقاعدة الفقهية التي تقول: التخلية قبل التحلية.
وبينما يطوف المسلمون حول صحن الكعبة المشرفة، أو وقوفًا على صعيد عرفات، حيث لا فرق بين عربي وأعجمي، ولا غني وفقير، ولا وزير وغفير، الكل أمام الله سواسية، تذول كل الفوارق، فاللباس واحد، والنسك واحدة، والهتاف واحد: لبيك اللهم لبيك… لبيك لا شريك لك لبيك، والهدف واحد: اللهم اغفر لنا وسامحنا وتقبل منا إنك أنت الغفور الرحيم.
هنا تنزوي كل صراعات الدنيا خلف مرضاة الله عز وجل، وتتضاءل شتّى الخلافات والأطماع أمام مبتغى كل حاج في جنّة عرضها السموات والأرض، لذا كانت هذه الشعيرة العظيمة وبحق ملتقى الفرقاء، فأعداء الأمس تجدهم اليوم مترابطين متشابكي الأيدي تكسو فرحتهم ملامح وجوهم، وتغلق عظمة الموقف وجلاله كل منافذ النزاعات والخلافات الدنيوية.
“نون بوست” يطوف في هذه الإطلالة السريعة ويلتقي ببعض الحجيج ممن فرقتهم السياسة والصراعات الدنيوية، التي ذرعت بذور الشقاق والخلاف بين أخوة الدولة والوطن الواحد، ليجدوا أنفسهم كتفًا بكتف، وجنبًا بجنب، ضيوفًا على الرحمن في بيته المحرم، لتجمع هذه الشعيرة الروحانية المباركة ما فرقته السياسة والمصالح.
الفلسطينيون… جميعنا في خندق واحد
أسبوع كامل قضاه “خالد” ابن منظمة فتح داخل صالة معبر رفح الحدودي المصري، بعد رحلة طويلة من رام الله إلى غزة، من أجل العبور لمصر ومنها لمكة المكرمة حيث أداء فريضة الحج.
خالد ابن الأربعين والذي يعمل مصورًا تلفزيونيًا، هو أحد أبرز كوادر فتح الإعلامية، في حديثه لـ “نون بوست” أكد أن هناك خلافات لا يمكن طيها بينه وبين أعضاء حماس بغزة، متهمًا إياهم بالديكتاتورية وإحكام السيطرة على مقاليد الأمور في الجنوب، ملفتًا أن الخلاف بينهم وبين الحركة الإسلامية من الصعب طيه وعلاجه في الوقت الحالي.
وفي المقابل كان يجلس معه داخل صالة الانتظار بالمعبر صديقه القديم “خليل” ابن حركة حماس الذي قضى معه ثلاث سنوات كاملة بالقاهرة مدة إكمال الدراسات العليا بجامعة الدول العربية.
خليل يؤمن تمامًا أن حركته هي المدافع الأول عن القضية الفلسطينية، وأن فتح أكبر مجهض لكل حركات المقاومة والجهاد، لذا فالخلاف بينهما خلاف وجود وليس حدود كما يردد.
خالد وخليل ركبا سويًا الحافلة التي تقلهم من معبر رفح إلى القاهرة، لم يختر أي منهما مكانه، بل جمعتهما الصدفة البحتة وأرقام المقاعد المخصصة لكل فرد، ساعة كاملة مرت دون أن يتفوه أي منهما بكلمة واحدة، فقط أكتفى كل واحد فيهما بالدردشة على مواقع التواصل الاجتماعي والاستماع لبعض المقاطع الصوتية.
ساعة مضت، سحبت خلفها ساعة اخرى، ومن بعدها ثالثة، وإذ بخالد يتمتم بحروف لم يفهما خليل، وفجأة التفت خليل صوب خالد وقال له: بتقول شي؟ وإذ بخالد ينظر إلى صديقه مبتسمًا: لا يا صديقي، وما كانت إلا لحظات حتى تعانقا، وتبادلا أطراف الحديث عن حياتهما، وكل جديد بها خلال الفترة الماضية.
وصلا للقاهرة ومنها لمكة المكرمة، ليؤديا سويًا شعائر الحج بروحانيات عالية، وهمة نشيطة، وعزيمة لا تفتر، كانت أيديهما المتشابكة طيلة الوقت، وتقاسمهما للطعام والشراب، أبرز ملامحهما، وإذ بخليل عقب وصولهما لبيت الله الحرام، ينظر صوب خالد قائلاً: يا صديقي كلنا في خندق واحد، عدونا واحد، من فرّق بيننا لا يسعى إلا لتفتيت وحدتنا وهدم كياننا، ليطأطئ خالد رأسه في الأرض: معك حق يا صديقي، لعن الله السياسة والمناصب.
السوريون.. مللنا من الحرب
“إن شاء الله هذا العام سأحج بيت الله الحرام” بهذه الجملة استهل مازن، المواطن السوري المقيم بالقاهرة حديثه لـ “نون بوست”، معربًا عن فرحته العارمة بهذا الشرف الذي طالما انتظره طويلاً.
مازن ابن الخامسة والعشرين من عمره، والذي جاء إلى مصر فارًا من ويلات الحرب في بلاده، ليعمل “حلاقًا” برفقة أخيه الأصغر “ناصر” استطاع في وقت قصير أن يكسب ثقة وحب المصريين بصورة غير متوقعة، فبات الحلاق رقم واحد في المنطقة التي يعمل بها بالرغم من وجود العشرات غيره من المصريين.
لم يكن يتوقع ابن مدينة حلب أن الأمور في بلاده قد تصل إلى ما وصلت إليه، مؤكدًا أن فظاعة المشاهد التي عايشها هناك من قصف وتدمير وانتهاكات مارسها جيش بشار الأسد دفعت الآلاف من السوريين للفرار بحياتهم إلى مصر والأردن وتركيا.
تقدّم مازن بطلب للحصول على تأشيرة حج هذا العام من مقر سفارته بالقاهرة، وما كان يتوقع أبدًا الحصول عليها، كون السفارة الحالية تابعة لنظام بشار الذي يقف هو ضده، لكنه فوجئ باتصال هاتفي يخبره بالحضور لاستلام التأشيرة، وعلى الفور ذهب لاستلامها، ليجد العشرات من السوريين المؤيدين لبشار وقد حصلوا على تأشيرات وتقرر أن يسافروا جميعًا في فوج واحد.
في البداية تردد مازن في السفر معهم، فهم من أيدوا من قتل وسرق ونهب وحرق وشرد، لكنه وفي حديث جانبي همس قائلاً: بس كلنا سوريين، لنا في هذه الأرض، ولن يستطيع أي حاكم أن يفرقنا، فالأنظمة تذهب وتبقى الشعوب، وإذا به يقرر السفر معهم، ليجد بجواره “فراس” الداعم لجيش الأسد، وعلى الفور ومع أول نظرة تعانقا، وداعب دموعهما وجنتيهما المغلفة بحمرة الشوق إلى زيارة بيت الله الحرام.
الليبيون.. كلنا ضحايا المؤامرة
وفي ليبيا لا يختلف الحال كثيرًا عن الأشقاء في فلسطين وسوريا، فهاهم الليبيون منقسمون ما بين جيش وجيش، وبرلمان ومجلس، وقيادة وأخرى، وعلى مدار خمس سنوات تقريبًا بات المواطن الليبي مقسّم الهوية، مشتت الوطن، وهذا ما أكد عليه الصحفي الليبي على طرفاية في حديثه المتكرر دومًا عن مأساة بلاده.
طرفاية في بوحه لـ “نون بوست” أشار إلى أن شعيرة الحج من المناسبات العظيمة القليلة التي يلتقي فيها الليبيون من شتى الأطياف السياسية على مائدة واحدة دون صراع أو نزاع، متمنيًا لو كانت السنة كلها حج.
الكاتب الليبي أشار إلى أن هذا العام هناك ما يقرب من 5600 ليبي ذهبوا لأداء فريضة الحج هذا العام، لا تعرف هوياتهم السياسية ولا العقدية، فالكل استقلوا نفس الطائرات، من مطارات الأبرق، ومصراته، وطرابلس، مرتدين نفس اللباس، ومرددين نفس الشعارات، هدفهم ابتغاء مرضاة الله عز وجل، والفوز بالجنة، والبعد عن النيران.
كما سرد طرفاية في معرض حديثه ما تعرض له خلال العام الماضي حين كان على صعيد عرفات، حيث التقى أشقاءً له من قبائل أخرى مؤيدة لمحور وحلف اللواء خليفة حفتر، وبالرغم من حجم الخلاف والصراع الذي بينهما، والذي وصل إلى رفع كل منهما للسلاح على أخيه قبيل أيام بسيطة قبل الذهاب لأداء الركن الخامس من الإسلام، إلا أن روحانيات المكان الطاهر، ونسماته العابرة، كان لها مفعول السحر، حيث تناسى الجميع ما خلفوه من إرث سياسي عفن، ونزاعات رخيصة، والانتصار لرغبات شخصية متدنية، وعلى الفور التقى الفرقاء هناك، تبادلوا الأحضان والقبلات، ليكملوا شعائر فريضتهم بحب وتآخي بعيدًا عن غبار السياسة الذي أزكم أنوف الجميع بالحقد والكراهية.
اليمنيون… لعن الله من أوقد الفتنة
وفي اليمن فالوضع نسبيًا مختلف، حيث عانى الحجاج اليمنيون كثيرًا من أجل الوصول إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج، فحين تغلق كافة المطارات إلا مطار عدن والذي تقلع منه رحلة واحدة إسبوعيًا، فضلاً عن العراقيل التي وضعها الحوثيون أمام الحجيج من كافة الأطياف بما فيهم بعض المؤيدين لهم، لم يجد المشتاقون لزيارة بيت الله الحرام بد من ركب الصعاب مهما كلفهم الأمر.
عدنان، مواطن يمني قطع آلاف الأميال من أجل الوصول إلى منفذ الوديعة الذي يربط محافظة حضرموت اليمنية بمحافظة شرورة السعودية، ومن هناك إلى مكة المكرمة فورًا، وبالرغم من الصعوبات التي واجهها، عبّر عدنان عن سعادته الغامرة بالوصول إلى بيت الله الحرام، الذي طالما سعى إليه طيلة السنوات الماضية لكن دون جدوى.
المواطن اليمني في حديثه ذي “الشجون” تطرق إلى معاناة اليمنيين من أجل الخروج لأداء هذه الشعيرة، معربًا عن أسفه لما وصلت إليه الأمور في بلاده، بعدما كان “اليمن السعيد” صار اليوم “اليمن المحروق ” على حد وصفه.
عدنان أكد أنه وخلال رحلته الطويلة من بلاده إلى مكة المكرمة تبادل أطراف الحديث مع بعض اليمنيين من شتى التيارات بما فيهم الداعمين للانقلاب الحوثي، واستمر النقاش طويلاً ما بين اتهامات هنا وهناك، إلا أنه ومع وصول بيت الله الحرام، تناسى الجميع الخلافات السياسية والصراعات العقدية، والتف كل واحد حول الآخر في مشهد لو رأته الأطراف المتصارعة داخل اليمن لتوقفت فورًا عن هذا العبث الممارس على حد قوله.
وهكذا حين تختلي الروح بنفسها في ضيافة ربها وخالقها، بعيدة عن دناءة الجسد ووضاعة رغباته، حين ترتقي بسموها في ملكوت الله عز وجل، وقتها لا صراعات تحجمها، ولا مصالح تطوّق تحليقها، ولا سياسة تعكر صفوها، حينها فقط يتلقي الجميع، الفرقاء والأخلاّء، على قلب رجل واحد، صوتهم واحد، عزيمتهم واحدة، رايتهم واحدة، لا فرق بين أسدي وثوري، سنّي وشيعي، جهادي وحفتري، فتحي وحمساوي، الكل في صوت واحد يردد: لبيك اللهم لبيك… لبيك لا شريك لك لبيك… لك الحمد ولك الملك… لا شريك لك.