“لا مكان للأطفال” جملة اختصرت تقريرًا مطولاً لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة “يونيسيف”، عن معاناة أطفال سوريا في ظل الصراع المحتدم بالبلاد منذ العام 2011 حتى الآن، والذي خلف ما بين أربعة وثمانية ملايين طفل لاجئ، أي أكثر من 80% من الأطفال في سوريا، بينهم 323 ألفًا دون سن الخامسة يعيشون تحت الحصار، و3 مليون طفل نازح بالداخل السوري، و2 مليون طفل يحتاج للدعم النفسي، وأكثر من 1.2 مليون طفل لاجئ بالخارج، و15 ألف طفل منفصل عن ذويه عبروا الحدود السورية، و310 ألف طفل ولد خارج البلاد، و2.8 مليون طفل سوري في سوريا والدول المجاورة، لم يلتحق بالمدارس، بالإضافة إلى مقتل الكثيرين وتجنيد أطفال للقتال، بعضهم لا تزيد أعمارهم عن 7 سنوات.
طفولة بلا تعليم
كانت نسبة الالتحاق بالتعليم في سوريا تفوق 90% قبل الحرب، والآن لا يمكن أن يصدق أحد أن سوريا تحولت في أقل من خمس سنوات إلى واحدة من أخطر الأماكن على الأطفال في العالم، بينهم الآن جيل مجروح جسمانيًا ونفسيًا، وخلال العام الدراسي الأول بعد الحرب، تخلف نحو 2 مليون طفل عن الدراسة أعمارهم من 6 إلى 15 عامًا، بسبب النزاع الدائر أو نزوح عائلاتهم، نصفهم على الأقل أي نحو مليون طفل، موجودين في سوريا ولا يستطيعون مواصلة تعليمهم، حتى في المناطق التي لا تزال تتوفر بها منشآت تعليمية، يدفع الهاجس الأمني الأهل إلى عدم إرسال أطفالهم إلى المدارس، خشية على حياتهم، ومن يذهبون للمدارس يواجهون ظروفًا نفسية صعبة، مثل افتقاد زملائهم الذين غيبهم الموت أو النزوح.
منفى إجباري
حتى في البلاد التي منح فيها اللاجئون السوريون حق التعليم المجاني أسوة بالمواطنين، مثل مصر، فإن فقر العائلات السورية التي فرت هاربة من بيوتها بدون شيء أكثر من الملابس التي كانت ترتديها عند اضطرارها للهروب، يمنعها عن الإنفاق على التعليم بتلك الدول، كما أن اللاجئين بالمخيمات بكل من لبنان والعراق والأردن وتركيا وغيرها، تواجدوا في مجتمعات مضيفة مكتظة أساسًا، يعجز فيها قطاع التعليم عن استيعاب هذه الأعداد الوافدة.
ففي تركيا أنشأت الحكومة شبكة مدارس للاجئين داخل المخيمات، لكن هناك مشكلة تجنيد معلمين يتكلمون العربية، والوضع في لبنان هو الأصعب لأن اللاجئين موزعون في “مستوطنات” بعضها بعيد عن بعض، وفي الأردن والعراق لا تستوعب المدارس أصلاً أبنائها، ناهيك عن الحواجز اللغوية أو الثقافية، والاختلافات الكبيرة في المناهج الدراسية، إضافة إلى حاجة القاصرين إلى العمل لدعم الأسرة، الأمر الذي يعني تقويض نموهم الفكري، وفرصهم المستقبلية، لإعادة إعمار بلادهم بعد انتهاء الحرب، وهي عملية ستحتاج لطريق طويل، يحتاج شعب متعلم في الأساس، كيف سيكون حال البلد حينما يتجه أبناء هذا الجيل الضائع لبنائها من جديد، وأكثرهم لا يعرفون القراءة والكتابة؟!
خبراء في الحرب
الأطفال في سوريا صاروا لا يعرفون شيئًا عن القراءة والكتابة، لكنهم أصبحوا خبراءً في الحرب، يعرفون أنواع الأسلحة المستخدمة، وطرق تضليل القناصة وصناعة القنابل وألاعيب السياسة، شوهت الحرب دواخلهم، وأفقدتهم براءة طفولتهم، لذا يحق لنا بكل أريحية أن نصفهم بـ “الجيل الضائع”، معظمهم مصابين – بحسب أخصائيين نفسيين باليونيسيف – باضطراب الشدة ما بعد الصدمة، وهي تترافق بحالات القلق والخوف واضطرابات النوم، وانخفاض التحصيل العملي والتبول اللاإرادي، وسيطرة السلوك العدواني على الطفل الذي تعرض لحالات التعذيب بالضرب المبرح، وقلع الأظفار وحلاقة الشعر، والجلد بأنابيب بلاستيكية والأسلاك الكهربائية.
حالات مبكية
يكفينا هنا فقط للاستشهاد على ذلك بثلاث حالات لأطفال سوريين، أولهم الطفل محمد “9 سنوات” من ريف حلب، الذي تسبب القصف على منزل أسرته قبل أشهر، ومشاهدة أمه قد تحولت إلى أشلاء، إلى فقدانه الذاكرة، وعدم قدرته على النطق بشكل مؤقت، حتى إنه فقد القدرة على القراءة والكتابة، والعمليات الذهنية البسيطة، وفقدان الإمكانية على تذكر أسماء أفراد أسرته وعملية التفكير، ويعاني حاليًا من نوبات الرعب والبكاء الشديد، ولا يستطيع النوم، وتأتيه حالات من الكوابيس المستمرة، وهي حالة واحدة تنطبق على الآلاف وربما عشرات الآلاف من أطفال سوريا الآن.
بعد محمد تأتي قصة الطفلة فرح التي روتها لأحد موثقي الحرب باليونيسيف بعفوية شديدة، توضح مقدار الآثار النفسية السيئة التي تركتها مشاهد الحرب في نفوس الأطفال، ففرح ذات السنوات الثمانية تخاف من أحلامها التي ترى فيها دومًا قناصة يصوّبون رصاصهم على جسدها، تقول: “أخاف الأحلام لأنني دائمًا أجد نفسي فيها سائرة في شارع مظلم، سرعان ما يظهر أمامي فيه قناص يصوب من بندقيته رصاصة تصيبني في بطني وأخرى في رأسي فأسقط ميتة”.
النموذج الثالث للطفل عبود “12 سنة” من حلب أيضًا، حيث يقول “كانت أمي تلهي أخوتي الصغار عن صوت الرصاص ونيران القذائف بأنها ألعاب نارية، لأنهم كانوا يحبونها، ولكن مع الوقت، صاروا يدركون الأمر، حتى إن أخي الأصغر صاحب الثماني سنوات كان يبكي بشدة يوميًا قبل النوم، لأنه يحلم بمن يقصف منزلنا ونحن نيام ويقضي علينا”، وعن أمنيته الوحيدة كطفل كان يقول: “أتمنى أن أمسك ببشار وأظل أعذبه، لن أقتله، سأظل أعذبه فقط ليشعر بما يفعله بنا”.
مستقبل مظلم
الوضع الآن يدعو لليأس، وعواقبه قد تتخطى البُعد الإنساني، لأن حرمان جيل كامل من الأطفال من الالتحاق بالمدرسة تأثيره جسيم، ولن يقتصر فقط على عدم قدرتهم في الحصول على التعليم لفترة طويلة، لكنه سيمتد قطعًا إلى قدرة أُسرهم ومجتمعاتهم على التعافي، وعلى قدرة سورية في النهاية على الانتعاش ما بعد الحرب، كما أن التأثير الاجتماعي للصدمة الجماعية العميقة، التي أصابت جيلًا كاملًا من السوريين، ستحتاج لجهد ووقت طويلين لتخطيها، ما قد يؤثر على مجموعة واسعة من القضايا منها التماسك الاجتماعي، ومواجهة التطرف، ونجاح برامج نزع السلاح والتسريح وغيرها.
شيخوخة مبكرة
حينما تلتقي بأي من الأطفال السوريين ستلحظ أن شيئًا قد فُقد في عيونهم، فهم لا يتصرفون مثل الأولاد الذين في أعمارهم في أي مكان آخر في العالم، ماذا سيحدث حينما يبدأون ببناء سورية مرة أخرى، كيف سنخرج من بينهم الأطباء والمهندسين والعاملين والمعلمين؟