هي فرحة لا تضاهيها سعادة الدنيا كلها، وشرف لا ينافسه فخر غيره ولا عزة، ومكانة لا يبلغها إلا السعداء، وحلم يداعب خيالات الجميع، ودعوة تخرج من القلب لعل الله يكتب لها القبول، الحج إلى بيت الله الحرام، والنفحات المباركات، والنسمات الحانيات، حيث مرافقة النبي وصحبه، ومداعبة نسائم الخير والبر والإحسان، حيث بيت الله المعمور، ومقام الخليل المستور، وبقيع الكرام أهل الحق والنور.
وبينما يتنعم زوار بيت الله الحرام في هذه الساعات المباركات بكرم ضيافة الحق سبحانه وتعالى، نطوف معًا في جولة خاطفة، نتعرف خلالها على ملامح الفرحة ومواطن البهجة لدى المسلمين جرّاء تشريف الله لذويهم بحج بيته، والوقوف بين يديه، والتنعم بغبار أشرف مكان على وجه البسيطة.
إطلالة سريعة نقف خلالها على أبرز مظاهر طقوس الاحتفاء بتوديع الحجيج، بعد أن منّ الله عليهم بهذا الشرف العظيم، وكيفية استعدادهم للرحيل، محمّلين بأمتعة الخير والبركة والدعوات، طقوس وإن تباينت ملامحها لكن تظل الفرحة والبهجة لهذه المكرمة الإلهية هي العامل المشترك بينها جميعًا.
مصر: الرايات البيضاء والزفّة البلدي
يتميز المصريون بطقوسهم الجميلة في توديع واستقبال ضيوف بيت الله الحرام، حيث إنه وفور الإعلان عن عزم الحاج التوجه لأداء الفريضة تقام الأفراح والليالي التراثية وجلسات المديح والإنشاد الديني، كما يتحول بيت الحاج إلى قبلة لأهل البلدة والجيران والأقارب ممن أتوا لمصافحته وطلب الدعاء لهم،إضافة إلى قيام أهل الحاج بـ “دهان” البيت والنقش عليه ببعض الرسومات كالطائرات والسفن، فضلاً عن كتابة بعض آيات القرآن الكريم والأبيات الشعرية.
وتتباين طقوس توديع الحجاج عند المصريين، لكنها في النهاية تشترك في بعض المظاهر ومنها، فرقة المزمار البلدي والمنشدين ونساء الدف، الذين يرافقون الحاج منذ أن يخرج من بيته وصولاً إلى المطار أو إلى الباخرة، كما تتميز السيارة التي تقل الحاج بالرايات البيضاء المعلقة على جوانبها كعلامة بارزة مميزة لها.
لكن في الصعيد هناك طقوس أخرى، حيث تقوم بعض العائلات بتجهيز حصان مزين بزي معين، ويستقله الحاج، وسط أقاربه وأصدقائه، الذين يرددون الأغاني وتلبية الحجاج، ويمر الحصان على كل منزل بالقرية، ليستقبله الأهل والجيران ويبادلونه المصافحات والتبريكات والدعوات، كإحدى العادات المتوارثة بين أهل الصعيد بهدف إزالة الخصومات والضغائن وتصفية النفوس، قبل سفر الحاج لزيارة بيت الله الحرام.
كما تتميز طقوس توديع المصريين للحجيج، بإنشاد بعض الأغاني والأناشيد الدينية في مقدمتها أنشودة الفنان محمد الكحلاوي، ومطلعها “لأجل النبي لأجل النبي أنا جيت أزورك والنبي لأجل النبي“، والتي تعبر عن البهجة واللهفة لزيارة النبي صلى الله عليه وسلم.
الأردن: الحلوى وزيارات أهل البلدة
شهدت الأجواء الاحتفالية الخاصة بتوديع الحجاج بالأردن بعض التغيرات قديمًا وحديثًا، لكنها جميعا تتمحور في إدخال البهجة والسرور على الأقارب والأهالي والجيران، عبر بعض الطقوس الجميلة.
قديمًا: كان يقوم الحاج أو من تأكد سفره لأداء الفريضة بزيارة كل بيت في البلدة، حتى وإن كان على خصومة مع بعضهم، يجلس معهم ويتناول بعض الشاي أو الحلوى، ثم يطلب منهم المسامحة والمغفرة حال تقصيره أو إساءته في حق أي منهم، حتى يذهب إلى بيت الله وهو خال من الذنوب.
حاليًا: يقيم الحاج في بيته، حيث يستقبل زوار البلدة جميعهم ممن يتوجهون صوب بيت كل حاج يجلسون معه ويهنئونه ويؤكدون مصافحتهم له حال تقصيره مع أي منهم، كما يقوم أهل البيت بصناعة الحلوى وبعض المأكولات الشعبية لتقديمها لزوار الحج، حتى تعم البهجة والسرور على الجميع، ثم يغادر الضيوف البيت بعد عناق الحاج وسؤاله الدعاء لهم فوق جبل عرفات.
فلسطين والتحنينة
بالرغم من الحصار المفروض عليهم منذ عشرات السنين، والتنكيل الذي يتعرضوا له على أيدي قوات الاحتلال الغاشمة، إلا أن هذا كله لم يمنع الفلسطينيون من الاحتفال بمواطنيهم زوار بيت الله الحرام، فحين يتم الكشف عن أسماء المختارين لأداء الحج، يتم تزيين بيوتهم بصور مبهجة، كما يتم إعلام جميع الأحبة والأقارب بالسفر إلى مكة المكرمة.
كما تفتح منازل الحجيج من الرجال والدواوين، وفي بعض الأحيان القاعات، أبوابها أمام قوافل المودعين من الرجال، وتقتصر مراسم الوداع للرجال بالمصافحة وطلب الدعاء والمسامحة والعفو عما قد سلف.
ومع ساعات السفر الأولى للحجاج ينشغل الأبناء في التجهيز لاستقبال ذويهم، حيث يتم شراء المسابح وسجادات الصلاة والدشاديش والعباءات النسائية وصنوف العطور والتمور من باب التخفيف عن كاهل الحجاج وعدم إرهاقهم بتلك المتطلبات التي كانت في الماضي تشكل عبئا كبيرًا على الحجاج.
أما في غزّة، فقد اعتاد سكانها توديع ذويهم الحجاج بما يعرف بالـ “التحنينة”، التي تقوم على مديح النبي محمد – صلى الله عليه وسلم -، إذ يقوم بها أحد المودعين الذين يحفظون بعض العبارات المسجوعة والأبيات الشعرية ذات العلاقة، بينما يردد البقية وراءه بعض الكلمات الموجزة.
والتحنينة تعبير عن حنين وشوق الذاهبين لأداء مناسك الحج، للطواف بالبيت العتيق وزيارة قبر الرسول وصحابته رضوان الله عليهم، وهي مظهر احتفالي يحرص كثيرون على الحفاظ عليه كجزء من التراث الفلسطيني.
تونس: الذبح والإنشاد
يغلب الطابع الاجتماعي على مظاهر الاحتفال بتوديع الحجيج في تونس، حيث تتمحور معظم الطقوس في تبادل الزيارات مابين من عزم النية على السفر لأداء الحج وبين أهله وجيرانه وأصدقائه.
فقبل موعد السفر المقرر بأسبوع تقريبًا، يتوجه الحاج بجولة سريعة يزور فيها كل الأهل والمعارف والجيران، يودعهم ويصافحهم، ويطلب منهم المغفرة، ويسألهم الدعاء له في أن يوفقه الله في حجته، وأن يتقبلها منه، وأن يعود سالمًا غانمًا لأهله وأحبابه.
وفي اليوم الذي يسبق السفر مباشرة، يدعو الحاج أهله ومعارفه وعائلاته لتناول العشاء معه، حيث يقوم بذبح شاة أو خروف احتفاءً بهم، وفي السهرة يكون الإنشاد الديني عبر فرق مخصصة لذلك، بالإضافة إلى قراءة ما تيسر من القرآن الكريم وهو ما يسمى في تونس بـ “حب اللطيف”، وبعد العشاء في السهرة توزيع الشاي والقهوة والمرطبات.
وفي الوقت الحالي مع انتشار وسائل الاتصال الحديثة يقع توثيق كل ذلك في شريط فيديو للذكرى، في أجواء من الروحانيات قوية ومن الفرح والسعادة مؤثرة، ووسط روائح من البخور الطيبة، وفي نهاية السهرة يطلب الحاج من كل الذين دعاهم من الأقارب والأصدقاء والجيران أن يسامحوه ويتبادل معهم التهاني ويتمنون له حجًا مبرورًا وذنبًا مغفورًا.
سوريا: مسيرات وزغاريد
تحتل مكّة المكرمة، وشعيرة الحج المقدسة مكانة عظيمة في نفوس السوريين، فبالرغم من الحصار الذي يعانوه منذ خمس سنوات تقريبًا، فضلاً عن القصف المتواصل ليل نهار، إلا أن ذلك ما استطاع أن يحول بينهم وبين أداء شعيرتهم العظيمة، سواء من هم داخل الأراضي السورية أو خارجها.
وللسوريين طقوس متميزة في وداع واستقبال من منّ الله عليه بزيارته بيته الحرام، فعند اقتراب موعد السفر يقوم الحاج بجولة على الأقارب والأصدقاء، يطلب منهم السماح إن كان اقترف ذنبًا بحق أحد منهم، ويقول لهم سامحونا، فيرد له الحاضرون، مسامح دنيا وآخرة، وادعُ لنا بالمغفرة، وسلم لنا على نبينا الكريم وصحبه، لأن الحج لا يكتمل وفي رقبة الحاج دين أو أذية لشخص ما، وفي الليلة التي تسبق السفر مباشرةً يجتمع أقارب الحاج وجيرانه لتوديعه في بيته، وفي يوم السفر أيضًا يرافقون الحاج إلى مكان السفر، وتكون على شكل مسيرة سيارات لحين وصولهم إلى مكان الانطلاق، ولا يخلُ الموقف من زغاريد النساء والمرافق لها نثر السكاكر والحلويات، أو ما يسمى باللهجة العامية “طش الكرميلا”.
ومن سمات توديع الحجيج في سوريا، أن يأخذ الحاج معه بعض الأطعمة والتي يكون تحضيرها سريع، مثل “الكشك” لتحضير شوربة الكشك، وكذلك الجبن البلدي، والسمن البلدي، ولا يخلُ الأمر من “الكليجة” الديرية والمصنوعة في المنازل، وكذلك يأخذون الزيتون وزيت الزيتون، والزعتر الحلبي، توفيرًا للنفقات في الحج.
الجزائر: الكرامة والتتويج
كعادتهم دومًا، يتميز الجزائريون بعادات وطقوس غريبة في كل شيء، حتى في الحج، وهو يجسده حجم التباين الواضح في مظاهر توديع الحاج في الجنوب والشمال، فلكل منطقة عاداتها وتقاليدها المتوارثة في هذه المسألة.
ففي الجنوب، يجمع سكان المدينة كل الدجاج والبيض الذي لديهم، لمدة 15 يومًا قبل توجه الحجاج إلى البقاع المقدسة، ويقدمونها هدية لأهاليهم، هذه العادة توارثها سكان المنطقة من أجدادهم، دون معرفة المغزى من جمع البيض والدجاج ولا المدة التي يجب أن يتم فيها الجمع والتي تقدر بـ 15 يومًا.
ثم يسلق البيض ويأخذه الحجاج معهم إلى الأراضي المقدسة ليأكلوا منه، ويحتفظ بالمتبقي ليأكله الحجيج عند عودتهم، وقبل ثلاثة أيام من موعد الحج، يعدّ أهل الحجيج ما يسمى “الكرامة”، وهي صدقة من طعام كثير يُطبخ باللحم ويُدعى إليه الأقارب والجيران، ويعتبر سكان الجنوب هذه العادة الوداع الأول للحاج، ليأتي الوداع الثاني والأخير، حين ينتقل الحجيج إلى المساجد ومنها إلى الحافلات ثم المطار محطتهم الأخيرة بالجزائر في الطريق إلى المملكة العربية السعودية.
أما في الشمال، فهناك طقوس مختلفة، حيث “تتويج الحجيج” وهو عبارة عن جمع الحجيج في المساجد، والاحتفاء بهم، ويكون ذلك بتلاوة قصيدة البردة مدح في النبي – صلى الله عليه وسلم – والمدائح الدينية في حضورهم، ثم يودّع سكان المنطقة حجيجهم فيوصونهم بالدعاء لأقاربهم وجيرانهم وكل المسلمين عند المسجد الحرام بمكة ومسجد النبي – صلى الله عليه وسلم – بالمدينة المنورة.
المغرب: الوليمة والضريح
يتميز أهل المغرب دومًا بالكرم الزائد، وهو ما ينعكس في مناسباتهم الاجتماعية وطقوس حياتهم، وفي الحج الأمر لا يختلف كثيرًا، حيث تستعد الأسر المغربية لموسم الحج بإقامة حفلات خاصة بالحجاج الذين سيذهبون لأداء مناسك هذا الركن الإسلامي العظيم، ويجتمع أفراد الأسرة قبيل سفر الحاج وينظمون حفلة وليمة يدعون إليها الجيران والأهل والأحباب، حيث يتم الاحتفاء بالحاج احتفالاً عائليًا خاصًا تغمره السعادة والدعوات بالقبول.
وبينما أهل الحاج وأقاربه مجتمعون عنده إذ بكل واحد منهم يتقدم لمصافحته طالبًا منه الدعاء له وهو على صعيد عرفات في مسألة من المسائل الخاصة، فينبري الشبان بطلب الدعاء بالنجاح في دراستهم، والفتيات بالحصول على فرصة زواج، ولا تنقطع طلبات الدعاء حتى تنتهي الوليمة الليلة قبل سفر الحاج إلى البقاع المقدسة.
وهناك بعض الطقوس الغريبة التي تقوم بها بعض المناطق في المغرب، والتي قد تحمل مخالفة شرعية، كما هو الحال في مدينة “آسفي” حيث يوجد ضريح على بعد أربعين كيلومترًا من المدينة، يدعى “شاشكال”، يُعرف بأنه موسم حج الفقراء، إذ يؤم إليه المئات من المغاربة مشيًا على الأقدام، حيث يطوفون حول الضريح كل عام خلال يوم عرفة بأقدام حافية سبعة أشواط، تمامًا مثل الصفا والمروة، ويهرول الحجاج الذين يقومون بهذه الطقوس الغريبة بشكل جماعي حول الضريح، على أساس أنه هو الكعبة، وهم يلبون بشكل جماعي “لبيك اللهم لبيك” في صورة مشابهة لما يقوم له الحجاج في الكعبة المشرفة، ثم يذهبون إلى بئر قريبة يشربون منها، متمثلين ذلك كأنها “بئر زمزم”، وبعد ذلك يذبحون قرابينهم للضريح مهنئين بعضهم بعضًا بحجهم المبرور، ثم بعد عملية قص الشعر يصعدون إلى صخرة بمحاذاة الضريح يطلقون عليها “جبل عرفة”.
اليمن: الخيول والرقص بالسيوف
الشعب الذي يقطع مئات الكيلومترات حتى يصل لأقرب نقطة حدود مع بلاد الحرمين لأداء فريضة الحج، غير آبه بما يمكن أن يتعرض له من مخاطر قد تكلفه حياته في ظل الصراع المستعر هناك، لا يمكنه أبدًا أن يترك هذه الشعيرة العظيمة والمقربة إلى نفسه دون احتفال يليق بها وبمكانتها عنده.
اليمنيون أصحاب الهمة العالية، والصبر الجلد، لهم طقوس مميزة في وداع واستقبال زوار بيت الله الحرام، حيث تزين البيوت بأجمل الرسومات، فضلاً عن استقبال الأهل والجيران المهنئين كذلك تزيين الخيول وامتطائها والرقص بها وعليها، والرقص بالسيوف وفرش الديباج، وإقامة المدارة وغيرها، إضافة إلى أن أهل المدينة يقومون برش البيوت من الداخل والخارج باللون الأبيض، إضافة إلى رش الجدران الخارجية المجاورة للمنزل، وتغيير فرش البيت القديمة بفرش جديد لاستقبال المهنئين للحاج، كذلك شراء الذبائح الحية ونصب الزينة والرقصات الشعبية المصاحبة للطبول.
أوروبا: توعية دينية
أما في أوروبا فالوضع نسبيًا يختلف عما هو عليه في الدول العربية والإسلامية، حيث يكتفي المسلمون هناك بعقد الاجتماعات والندوات لمن منّ الله عليهم بزيارة بيته الحرام، وإعداد استقبال يليق بهم قبيل السفر، حيث يوجه لهم الأئمة التوجيه الديني والثقافي والسياحي، فمن الناحية الدينية نشرح لهم المناسك المتعلقة بالحج وأصول التعامل الأخلاقي والديني، فضلاً عن كيفية التعامل مع كافة المسائل المتعلقة بالحج، كما يتم تبادل الخبرات لمن سبق وأدى هذه الفريضة من قبل، ثم ينفض الاجتماع بعناق حار ما بين الحجيج والحضور من المسلمين، يعقبه دعاءً لهم بقبول الله حجتهم، وأن يعودوا مرة أخرى سالمين مقبولين إن شاء الله.
وهكذا تتباين طقوس توديع الحجيج بين مختلف المجتمعات العربية والإسلامية، كل حسب موروثة الثقافي والديني، إلا أن العامل المشترك في كل هذه الطقوس، الفرحة والبهجة وإدخال السرور على الجميع، الحاج وأهله وأقاربه وجيرانه، ليخرج الحاج من بيته وسط استقبال من بين أهله يليق بشرف المهمة العظيمة التي دعاه الله إليها، ملبيًا ومهللاً: لبيك اللهم لبيك… لبيك لا شريك لك لبيك… لبيك اللهم لبيك.