عندما تنتهي من رواية “سان دني” لعلي مصباح، تستطيع أن تعود لتتذكر كل التفاصيل التي عرضها والأحداث التي سردها، تستطيع أيضًا أن تخزن هذا الكم الهائل من الذكريات المسكوبة في هذه الرواية لتهضمها ببطء، إنها بمثابة وجبة دسمة، تتطلب التأني لكي يستطيع القارئ استيعابها والربط بين شخصياتها واستحضار رمزية أماكنها، فعلى امتداد 36 فصلاً يمتطي مصباح قلمه ويطلق العنان لذاكرته لينقلنا إلى عالم مليء بذكريات الشباب وهو ما يضفي على الرواية طابعًا خاصًا، فهي كآلة عجيبة تعود بنا إلى الماضي أين يقبع الكاتب منتظرًا ليحكي لنا قصصه ومغامراته ومعاناته ومن خلالها معاناة جيل كامل.
عن الهجرة وأشياء أخرى
تبدأ الرواية في أول فصولها بوصف دقيق لمشهد تكرر آلاف المرات وموقف يعرفه الشباب المهاجر في سبعينات وثماينات القرن الماضي، إذ يسعى مصباح لنقل ورصد أهم الصراعات النفسية التي يعيشونها والحالة المزرية التي يعاني منها شباب تونسي لم يمض على استقلال بلاده سوى عشرين سنة.
كأن الكاتب أراد تخليد الإحساس والإمساك بهذا المشهد ليكون بمثابة شاهد على عصره يبعث برسائل تحذير وتذكير إلى أجيال ستأتي بعده، لقد عمد علي مصباح إلى البحث في أعماق الشخصيات ليخرج لنا ما خفي في بواطنها ويكشفها للقارئ دون أي خجل أو خوف من “النقد الذاتي” الذي قض مضجع بطله.
إن نظرتنا لجيل الكاتب ستتغير حتمًا بعد هذه الرواية، شباب ضائع بين ثقافتين ممزق بين الرغبة في الهجرة وبين الحنين إلى الوطن فإذا هو معلق في “منزلة بين المنزلتين” متشظي الكيان شاهدًا على التطور والحضارة من جهة والتخلف والرجعية من جهة أخرى، هذه الوضعية الصعبة ستولد نفسيات مأزومة باحثة عن الخلاص بطرق شتى، وهو ما يفسر تعدد الشخصيات واختلاف اهتماماتهم.
إن أهمية هذه الرواية – إضافة إلى أنها وثيقة تؤرخ لحقبة تَحَوُلٍ في حياة الشباب التونسي الثائر – تكمن في اختلاف الرؤى والتفسيرات المتعددة للعالم، وهذا في الحقيقة لا يدل إلا على إلمام مصباح بأدق حيثيات، وتفاصيل ومشاغل جيله ليترجمها بعد ذلك شخصيات كانت بمثابة المرآة العاكسة لحياة جيل بأكمله، كأن البداية واحدة والنهايات مختلفة، يصور لنا مصباح تونس كنقطة انطلاق وفرنسا أرض الوصول أين نجد من اتخذ الابتزاز والإجرام سبيلاً، ومن كان طالبًا للعلم في أعرق الجامعات الفرنسية مرورًا بذلك الذي يعاني أزمة وجودية دون أن ننسى الثائر المدافع عن العدالة والحالم بمدينة فاضلة.
كلهم جمعهم الكاتب تحت سماء باريس وأقحم نفسه بينهم ليصور معانتهم، وأزماتهم، وعلاقاتهم المعقدة، وأفراحهم ونجاحاتهم، رواية “سان دني” – كما يوحي عنوانها الذي يرمز إلى منطقة مليئة بالمهاجرين – هي إطلالة على المعاناة التي يعيشها العمالة الذين ارتطمت أحلامهم بصخرة الواقع فأصبح البقاء هو هدفهم الرئيسي واستسلموا للبحث عن “دْوِيرَة”، و”خْدِيمَة” و”كْرِيهْبَة” كما كانت أحلام محرز إحدى شخصيات الرواية.
لا بد من عمل أي عمل، تأمين البقاء أولاً، ولا شيء أكثر من البقاء، تأمين البقاء هو الغاية الأولى، وأحيانًا غاية الغايات، أفق الأحلام قد تقلص حتى صار حده النهائي ملاصقًا للأنف، لا شيء غير الحرص على تأمين البقاء، صندوق الأحلام والمشاريع قد أغلق وألقي بالمفتاح في قاع بئر عميقة قد تكون مسكونة بالأفاعي، شيء شبيه بورطة تبدو أحيانًا بلا خلاص أو أي أمل في الخلاص.
اليسار وأحلام الثورة!
لم يتطرق علي صباح في روايته إلى المعاناة التي يعيشها المهاجرون فقط، بل ركز كذلك على الصراع الإيديولوجي القائم بينهم مع تسليط للضوء على وضعية اليساريين آنذاك، فبوصفه لحلقات النقاشات والاجتماعات بينهم يُطْلِعُنَا الكاتب على تلك “السذاجة الفكرية” التي يعاني منها اليسار عمومًا واليسار العربي خصوصًا، فقد كانت الشخصيات تحلم بثورة تقلب النظام الرأسمالي وتحقق العدالة في إشارة إلى جيل كامل آمن بهذه الأفكار الطوباوية والتي جعلته مغيب عن واقع الحال، مهملاً لكل حس نقدي ملتزمًا بالولاء الحزبي والانظباط الإيديولوجي.
يلجأ مصباح إلى السخرية من هذه الأفكار ومن ذلك الحماس “الطفولي” ويوجه سهام النقد لأبناء جيله، إن المتمعن في شخصيات الرواية، يمكن أن يلاحظ بسهولة هذا الجانب الساذج الذي سعى مصباح إلى كشفه وتعريته، فالشباب المهاجر لم يصل إلى فرنسا بهدف إقامة الثورة والحديث عن الاشتراكية والعدالة والمساواة وإنما تأثروا بالخطابات الرنانة والشعارات المؤدلجة وهذه الحقيقة تأتي على لسان البطل:
“أعود إلى الحي الجامعي لألتقي من جديد بالشباب المتحمسين ليل نهار لقضايا الثورة والاشتراكية والعدالة الاجتماعية والمساواة، أنغمس من جديد في النقاشات التي لا تنتهي حول الماركسية اللينينية والصراع الطبقي، وطبيعة التناقضات التي تشق مجتمعات العالم الثالث، طبيعة المجتمع التونسي، مسائل الاستراتيجيا والتكتيك الثوري، كتابات لينين وماوتسي تونغ، ربما لم تكن ادعاءاتنا خلية من الكذب فعلاً، ربما كنا نكذب على أنفسنا في المقام الأول.
إن كان الاغتراب والهروب من الواقع ومحاولة تغييره هي العوامل التي جمعت هؤلاء الرفاق ووحدت مصيرهم فإنها لم تصمد أمام الخلافات المتكررة لتولد صراعًا داميًا بين “الإخوة الأعداء” وهي فترة ينقلها علي مصباح بكثير من الأسى لأنها حقبة الانقسامات والانشقاقات والكره والحقد، “برزت أحقاد لا ندري أين كنا نخبئها، الكراهية والعداوة التي كنا نشحذ سكاكينها معًا ضد خصوم خارجيين كنا نسميهم أعداء انقلبت علينا الآن.
هي بداية النهاية بالنسبة لجيل بأكمله استيقظ من أحلامه ليصطدم بالواقع وليشهد على انهيار الإيديولوجيا، وعندما تتبخر كل الإيديولوجيات وتمحى آثار الثورات بثورات أخرى مناقضة تنقرض بدورها، لن يبقى غير هذا العمل، مشروع العمر يا صاحبي”.
مصباح والأدب النيشوي
يسهل على القارئ – بعد الانتهاء من هذه الرواية – رصد أهم الإشارات النيتشوية المبثوثة في كامل النص والتي تبرز تأثر الكاتب بفيلسوف المطرقة (الذي ترجم جل أعماله)، فالشخصيات الرئيسية وخاصة البطل تطلب التغيير وتنشده، ذلك التغيير الجذري الذي يهدم كل تجربة سابقة ويعيد البناء من جديد.
كأن علي صباح يكتب أدبًا نيتشويًا، يعود من خلاله ليقف على ذكريات جيلٍ – يبدو مثاليًا في أعين الكثيرين – ليهوي عليها “بقلمه – المطرقة” فاضحًا هيناته ومحطمًا كل ثوابته، وهذا بمثابة تحذير للأجيال القادمة لكي لا تقع في نفس الأخطاء، فالتغيير هو الحل “فعلى الثعبان أن يغير جلدته بالكامل”.