ونحن على أبواب عودة مدرسية وجامعية في تونس تأتي في ظروف اجتماعية صعبة، ظروف يتقاسم فيها أغلب التونسيين هم غلاء المعيشة وارتفاع الأسعار، تأتي هذه العودة بعد موسم الصيف المتميز بكثرة الاستهلاك وكثرة المناسبات الاجتماعية من حفلات زواج وغيرها، وأيضًا متزامنة مع عيد الأضحى.
هذه الظروف توحي بأن التونسي قد يركن للتقشف واتباع سياسة استهلاكية تتماشى وقدراته الشرائية إلا أن العكس هو الظاهر.
مفارقة كبيرة قد تتبين من خلال الأرقام التي قدمها السيد وزير الصناعة والتجارة في الأسبوع الماضي حاثًا التونسيين على ترشيد الاستهلاك على غرار استهلاك التونسي لـ 37 كغ سكر سنويًا أي ضعف الاستهلاك العادي في العالم، إضافة لهدر 100 مليار من المليمات من ميزانية الدولة في الفضلات جراء الاستهلاك غير الرشيد للخبز.
المفارقة الأخرى وهي الأبرز تكمن في الإقبال المتزايد من قبل العائلات التونسية على تدريس أبنائهم في المؤسسات التعليمية الخاصة من مدارس وجامعات إلى درجة غزو هذه المؤسسات للأحياء الشعبية خاصة في العاصمة والمدن الكبرى بما يدل على أن الإقبال عليها حاصل من مختلف الفئات الاجتماعية.
الأرقام المتوفرة منذ سنة 2012 تخبر بأن عدد المؤسسات التعليمية الابتدائية الخاصة بلغ حد 128 مؤسسة تؤطر ما يقارب 29000 تلميذ وعدد مؤسسات التعليم العالي الخاص 65 مؤسسة تؤطر 30 ألف طالب تقريبًا.
هذه الأرقام ارتفعت في سنة 2014 ليبلغ عدد المؤسسات الابتدائية والثانوية 216 مؤسسة ويبلغ عدد الدارسين فيها أكثر من 40 ألف تلميذ، أرقام الأكيد أنها تضاعفت في السنتين الأخيرتين، فاليوم في شوارع العاصمة مثلاً أينما تولي وجهك تكون أمام معلقة إشهارية لمؤسسة تعليم خاص.
ما الذي يجعل التونسي يعزف عن المؤسسات العمومية رغم مجانيتها ويقبل على التعليم الخاص رغم ارتفاع كلفته خاصة في هذه الظروف الصعبة؟
المعلوم عن العائلة التونسية استثمارها في التعليم وهي ثقافة ركزتها سياسة الرئيس الراحل بورقيبة منذ بداية الاستقلال وهي من حسنات فترة حكمه، حيث شجع على التعليم بإقرار مجانيته ونشر مؤسساته في مختلف أرجاء البلاد، بورقيبة أيضًا راهن على جودة التعليم ونوعيته حيث علم على المؤسسات العمومية سابقًا تخريجها للكوادر النوعية في البلاد.
هذا المعلوم سابقًا عن السياسة التعليمية في تونس والوضع تغير اليوم، حيث تتوجه الدولة بوضوح نحو التعليم الخاص متعللة بثقل تكلفة التعليم العمومي على ميزانية الدولة، سياسة رافقها تهميش المنظومة العمومية وإخضاع التعليم لقانون السوق ومتطلبات الاستثمار والتنافسية، توجه ضحيته التعليم العمومي بفعل عجزه عن مجارات المؤسسات الخاصة من حيث جودة الخدمات واستقطاب الإطار المدرس الكفء.
من مخرجات هذه السياسات الخاطئة تضخم ما يسمى بالتسرب الدراسي أو الانقطاع المبكر عن مقاعد الدراسة، حيث بلغ عدد الشباب التونسي غير المؤطر من قبل مؤسسات التعليم والتكوين مليون شاب، رقم ضخم قد يفسر ارتفاع نسب استقطاب الشباب التونسي من قبل عصابات الجريمة والإرهاب.
تطور طبيعة عيش المجتمع التونسي من خلال توجه المرأة للعمل والمساهمة في مختلف مجالات الفعل وما سببه من ضعف متابعة الأبناء والاعتناء بهم في فترات الراحة تسبب في عدة مشاكل لتلاميذ المدارس العمومية، مشاكل تتراواح بين ضعف الأداء وارتفاع نسب الفشل الدراسي وتعرضهم للمخاطر، حيث سجلت نسب عمليات خطف الأطفال من أمام المدارس أو تعنيفهم إضافة لتعرض بعضهم لحوادث مرور ارتفاعًا في السنوات الماضية وهو ما جعل الآباء يلجأون للمؤسسات الخاصة التي تقوم بهذا الدور.
الارتفاع غير المعقول لعدد الإضرابات النقابية في قطاع التعليم من قبل المدرسين الذي بلغ حد التهديد بسنة بيضاء في السنة الماضية كان على حساب التحصيل العلمي للدارسين وساهمت في ارتفاع تخوفات الأولياء على مستقبل أبنائهم وبالتالي توجههم للقطاع الخاص
الارتفاع غير المعقول لعدد الإضرابات النقابية في قطاع التعليم من قبل المدرسين الذي بلغ حد التهديد بسنة بيضاء في السنة الماضية كان على حساب التحصيل العلمي للدارسين وساهمت في ارتفاع تخوفات الأولياء على مستقبل أبنائهم وبالتالي توجههم للقطاع الخاص.
أيضًا الاتفاقيات المبرمة بين بعض المؤسسات الجامعية الخاصة والمؤسسات الاقتصادية ساهمت في تشجيع الأولياء على ترسيم أبنائهم في المؤسسات الخاصة، حيث إنه بمقتضى هذه الاتفاقيات توجه المؤسسات الجامعية طلابها للبحث في مجالات تحددها المؤسسات الاقتصادية وتضمن هذه الأخيرة مواطن شغل للطلبة، هذه الاتفاقيات جعلت من نسبة اندماج خريجي إحدى المؤسسات الخاصة في سوق الشغل يبلغ 80%، رقم مغر في زمن ترتفع فيه نسب البطالة يومًا بعد يوم.
سبب آخر نتج عنه حملة في مواقع التواصل الاجتماعي على التعليم العمومي ووزراة التربية في الأسابيع الأخيرة وهو مواصلة الوزير الحالي لسياسة بن علي التغريبية ضمن خطة تجفيف منابع التدين سيئة الذكر واتباع مناهج تعليم تكرس ذلك بخلفية ما أسماه الإصلاح التربوي، سياسة تعليمية جعلت العائلات خاصة المحافظة منهم، علمًا وأن التونسي مهما كان سلوكه ومدى التزامه يحرص على تنشئة أبنائه على تعاليم ديننا الإسلامي وقيمه السمحة، يهرع للمؤسسات الخاصة عله يجد فيها ضالته.
الإقبال على المؤسسات الخاصة علله بعضهم “بمكره أخاك لا بطل”، فوضعية البنية التحتية لمدارسنا وتأخر جامعاتنا في ترتيب المؤسسات الجامعية على مستوى عالمي إلى درجة تذيل ترتيب الجامعات الإفريقية، إضافة إلى السياسات التعليمية الخاطئة جعلت العائلات التونسية رغم محدودية دخلها تخضع لجشع رؤوس الأموال حرصًا منهم على تنشئة أبنائهم في مؤسسات تعليمية تضمن لهم الارتقاء الجيد وضمان مستقبل أفضل.
توجه وإن رأى فيه البعض مصلحة وحل فوجب ألا نغفل عن سلبياته وأهمها سوء تنظيم هذا القطاع الخاص وانتشار الفساد فيه وفق تقرير وزير التعليم العالي الأسبق الذي أحدث أزمة بين الوزارة واتحاد الصناعة والتجارة الذي يمثل أصحاب المؤسسات.
مسألة أخرى وجب الانتباه إليها في ضرب مؤسسات التعليم العمومي هي انعدام المساواة بين أبناء الشعب وتكافؤ الفرص بينهم، بحيث يصبح التميز الذي ينتج عنه الحصول على فرص عمل وتبوء المواقع الهامة في البلاد لأبناء العائلات القادرة على تدريس أبنائهم في المدارس الخاصة أما أبناء العائلات الفقيرة والمناطق الداخلية فمصيرهم البطالة والتهميش.
وهنا يكمن دور الدولة وسلطات الإشراف على التعليم في توعية المجتمع بخطورة ذلك والتوجه لتحسين وضع القطاع العمومي بما يضمن إصلاحه وتجويد مخرجاته بما يحقق تقدم الدولة ونهضة شعبها.