محمد الشعار: حكاية ربيع آخر لم يكتمل
قبل أن يضغط القاتل على زر تفجير العبوة المزروعة في أسواق بيروت في موسم الأعياد، ضغط عمر بكداش، الطالب ابن الستة عشر عاماً على هاتفه يلتقط صورة له هو وأصدقاءه الثلاثة خلال تواجدهم في المكان نفسه. ربما التقط عمر هذه الصورة من باب الترفيه والمشاركة مع أصدقائه، لكنه بالتأكيد لم يكن يعلم أن صورته هذه ستكون آخر صورة التقطت قبل الانفجار، وأنها ستكون أيضاً آخر صورة لزميله “محمد الشعار” وهو في عنفوان مرحه وألقه الشبابي.
الصورة الشخصية التي التقطها الطلاب الأربعة لأنفسهم قبل الانفجار بدقائق
كان ذلك قبل الانفجار. بعد الانفجار، سجلت الكاميرات صورة الفتى ذو السترة الحمراء وهو ملقى على ناصية الشارع. كان شخصا مجهولا بالنسبة لكثيرين؛ وبحسب التقارير الصحفية “لم تعرف عائلته بالأمر. كان بالها مشغولا على حسن، أحد أفراد العائلة الذي يعمل في مبنى ستاركو المحاذي لموقع التفجير. لحظات، وبدأ عارفوه يتداولون الخبر عبر تطبيق «واتس أب» على الهواتف الجوالة”.
اليوم لم يعد الفتى ذو السترة الحمراء التي اختلطت بدمه مجهولاً البتة. لقد أصبحت الصورة كابوساً وحزناً يطارد كل طالب وأم وأب في هذا الوطن.
وجوم يخيم على العائلة. والده لم يستطع التحرك عند سماع خبر وفاته وبدا وهو يتحرك على كرسي محمول؛ فابنهم الذي ذهب ليستمتع في يوم عطلة مشمس بمباراة كرة سلة مع أصدقائه عاد جثة هامدة.
هوس الصورة الشخصية
انتقد العديدون أوباما على الصور التي نشرتها له وكالة فرانس برس وهو يلتقط مع رئيسة وزراء الدانمارك ورئيس الوزراء البريطاني صوراً شخصية لهم عبر الهاتف المحمول. هذا الهوس المعاصر بالتقاط الصور، برز مجدداً، لكن هذه المرة بطابع أكثر جدية، وأكثر مأساوية. فالصورة الشخصية التي التقطها أربعة من طلاب الصف الحادي عشر لأنفسهم، أصبحت اليوم منتشرة كانتشار النار في الهشيم على صفحات التواصل الاجتماعي.والطلاب الأربعة هم: محمد الشعار وعمر بكداش وربيع يوسف وأحمد المغربي، وقد أصيب جميع الأربعة في الانفجار إلا أن جروح الشعار كانت الأبلغ وقد توفي على إثرها صباح اليوم التالي، في حين نجا أصدقاؤه الثلاثة، على الأقل جسدياً، ليستفيقوا مفجوعين بوفاة صديقهم المقرب، محمد.
قبل وبعد: الصور الأسرع اتنشاراً عبر الفايسبوك والواتس أب
صورة أخرى كانت انتشرت لمحمد مباشرة بعد الانفجار، حيث كان جسده ممدداً على الأرض والدم ينزف منه وتبدو إصابته البالغة. كما برزت صورة أخرى لوالده وهو يبكي بحرقة عند مشاهدته للمرة الأولى في موقع الجريمة.
الصورة: والد محمد الشعار عند صوله إلى موقع الجريمة ورؤية ابنه
محمد الشعار ومحمد شطح
لم يكن انفجار بيروت الذي استهدف الوزير السابق محمد شطح، والذي استشهد مباشرة إثر الانفجار، حدثاً غير متوقع؛ خاصة مع “اعتياد” اللبنانيين خلال الفترة الأخيرة على مثل هذه التفجيرات التي عادة ما يذهب ضحيتها أيضاً الكثير من الأبرياء. لكن هذا الانفجار، والذي أتى خلال فترة الأعياد والتحضيرات لسنة جديدة لا تبدو أفضل من سابقاتها للبنانيين، أثار استنكار وغضب غالبية الشعب اللبناني، حزناً على محمد الشعار تحديداً وتعاطفاً مع عائلته؛ إذ رأوا في وفاته رمزية عالية التجسيد لخسارات وطنهم الجسيمة لمستقبل أفضل، يمثله الشباب والطلاب. ولأول مرة ربما، يصبح خبر الاغتيال الأبرز هو أحد الضحايا الأبرياء من غير السياسيين، ليحتل مساحة في الأخبار توازي أو تكاد تفوق المساحة التي احتلها خبر وتداعيات اغتيال الوزير السابق شطح. كما امتلأت صفحات التواصل الاجتماعي بصور محمد الشعار والدعوات له، خلال مكوثه في العناية الفائقة، وقبل إعلان وفاته في وقت لاحق بعد الانفجار بيوم. ويعزى التعاطف الواسع الذي لقيه الفتى إلى أن الكثير من الأهالي رأوا في إصابته -ولاحقاً وفاته- الخطر والقلق الذي يشعرون به تجاه أولادهم وهم يكبرون في هذا الوطن الذي يكاد ينعدم فيه الأمن تماماً؛ كما أثارت وفاته حزن واستنكار الطلاب حول لبنان. ومن المقرر أن تنظم له غداً مسيرة طلابية من مدرسته إلى مكان الانفجار.
الصورة: زملاء محمد في رواق المستشفى يقرأون له القرآن ويدعون له بالشفاء خلال تواجده في غرفة العناية الفائقة
وقد انعكس التعاطف الواسع مع محمد الشعّار اليوم في مسيرة التشييع، حيث شهدت مسيرة تشييع الشاب مشاركة واسعة خاصة من الشباب الذي دعا إلى توسيع المشاركة فيها باعتبارها وسيلة للتعبير عن رفض النظام السياسي اللبناني بجميع أطرافه وتحميلهم مسؤولية وفيات الضحايا الأبرياء المستمرة. ( صفحة تشييع محمد الشعار و صفحة كلنا محمد الشعار).
التشييع
في ظل التعاطف الواسع الذي شعر به اللبنانيون تجاه عائلة الشعار، والحزن على الشاب الراحل، والمشاركة الواسعة في جنازته، لم تخل جنازة الشعار من القلاقل، خاصة في أجواء التوتر وشحن النفوس الذي تشهده الساحة اللبنانية. وقد بدأت الإشكالية عندما حاول مفتي لبنان حضور وإمامة صلاة الجنازة، حيث اعترض المشاركون في التشييع على حضوره ورفضوا الصلاة وراءه وهتفوا مطالبين برحيله؛ وذلك على خلفية موقف المفتي المؤيد لموقف النظام السوري وحزب الله، المتهم الرئيسي في التفجير. وقد اضطر هذا الرفض الواسع المفتي إلى الاختباء في إحدى الغرف داخل المسجد، ولم يستطع الخروج إلا بتدخل الجيش لاحقاً حيث تم إخراجه في ملالة عسكرية. وجرى ضمن هذه الحادثة القاء أحذية وحجارة على موكب المفتي، لكن شهوداً من موقع الحدث يشيرون إلى أن مثل هذه الأفعال كانت مرتّبة من أطراف موالين للنظام السوري، في محاولة لإثارة الفتنة وتحويل المشهد من تشييع إلى فتنة؛ ولعل أكثر ما أثار العجب هو انسحابهم “بسلام” حال انسحاب المفتي، و”علاقتهم الودودة” بحسب الشهود مع رجال الأمن.
وقد استنكر اللبنانيون تحويل مشهد جنازة الشعار، من جنازة وطنية تليق بشباب الوطن وبالحزن العميق على الفتى الذي كلم أمهات لبنان باختلاف طوائفهم ومناطقهم، إلى فتنة شوارع مرتبة مسبقاً من زعران (بلطجية) مع مشاركة المفتي التي وصفت بأنها “المدانة” و”المستهجنة” و”الفجة”.
ولئن كانت جنازة الشعار سارت إلى غير ما كان يتمناه اللبنانيون جميعاً، فإن مشهد رفض الشباب إمامة المفتي لجنازة الفتى، كانت رسالة وموقفا ً لطالما تمناه اللبنانيون، يعكس مدى الغضب الذي بات لدى الشباب اللبناني تجاه استبداد زعماء الطوائف وتجاه تجارة رجال الدين بمناصبهم ومواقفهم السياسية على حساب أبناء شعبهم وأرواحه.
صحيفة النهار اللبنانية: محمد الشعار مات، كيف سينجو أبناؤنا؟