في عيد الأضحى من كل عام، يقوم المسلمون في شتى أنحاء العالم بالتقرب إلى الله بنحر الأضاحي، تيمنًا بنبي الله إبراهيم – عليه السلام – الذي أراد التضحية بابنه إسماعيل – عليه السلام -، إرضاءً لأمر الله، فأفتدى الله إسماعيل بكبش ذُبِح بدلًا منه، يقدم المسلمون سنويًا في هذه الذكرى الأضاحي من الأنعام، بينما يقدم العراق سنويًا الأضاحي البشرية من أبنائه.
العيد هو ذلك الوقت من السنة الذي يشعر فيه الفقير بفقره، واليتيم بيتمه، والمغترب بغربته، والعراق بالسيارات المفخخة.
على الرغم من كون السيارات المفخخة والتفجيرات الانتحارية أمرًا معتادًا في العراق، إلا أن لموسم الأعياد خصوصية، حيث يشهد العراق سنويًا في فترات الأعياد، انفجارات متعددة في الأسواق الشعبية تستهدف المدنيين المقبلين على التبضع استعدادًا لقدوم العيد، فيسقط العشرات من القتلى، والمئات من الجرحى، في ظل انفلات أمني، يعقبه تشديد أمني في الأيام التالية؛ ليُفرض حظر التجول على المدنيين المتبقيين الذين لم يقتلوا بعد.
شهدت الأيام السبعة الماضية، مقتل 193 مدنيًا في العراق، 75 منهم قُتِلوا بتفجيرات انتحارية لسيارات مفخخة في أسواقٍ شعبية في بغداد، بينما قُتِل 50 آخرين بعبوات ناسفة، 193 مدنيًا يعد رقمًا بسيطًا (نسبيًا)، إذا ما قورن بضحايا العيد الماضي الأكثر دموية، حيث سقط فيه 513 مدنيًا.
في الأيام الأخيرة من شهر رمضان المنصرم، فجر انتحاري بسيارة مفخخة نفسه في سوق وسط منطقة الكرادة الشرقية في بغداد، في واحدة من أكثر العمليات الانتحارية ضررًا منذ 2003، خلف وراءه احتراق المحال القريبة والمطاعم، وسقوط 330 قتيلاً و200 جريح، اليوم وبعد مرور شهرين على الحادثة، لا تزال بعض الجثث المتفحمة مجهولة الهوية، ولم يتم التعرف عليها بعد، ولا تزال صور “مفقودين” تملأ صفحات وسائل التواصل الاجتماعي.
كان هذا التفجير واحدًا من 3 تفجيرات حدثت في يوم الأحد الموافق 3/7/2016، جاء الرد الحكومي بتكذيب كون الانفجار الثاني الذي وقع في حي الشعب عملاً إرهابيًا، فجاء تصريح قادة عمليات بغداد بوصف التفجير بأنه “حريق عرّضي” ليتبعه تفجير ثالث استهدف منطقة أبو غريب في بغداد.
جاء تكذيب داعش لرواية الحكومة بأن التفجير الثاني حادث، بتبني التنظيم الانفجارات الثلاثة التي حدثت يومها.
زار السيد رئيس الوزراء حيدر العبادي مكان الحادث صبيحة اليوم التالي، ليستقبله السكان وذوو الضحايا برشق موكبه بالأحذية والحجارة، فعاد وأعلن الحداد في العراق لثلاثة أيام، وهكذا قضى العراقيون أول أيام عيد الفطر بثياب الحداد لا بثياب جديدة.
لم نكد ننسى ضحايا تفجير الكرادة الأول، ليتكرر المشهد ثانية يوم الثلاثاء الماضي 6/9/2016، في منطقة الكرادة أيضًا، حيث استهدف انتحاري بسيارة مفخخة تجمع شباب في منطقة الكرادة، مخلفًا وراءه 18 قتيلاً وعشرات من الجرحى، واحتراق محال تجارية قريبة.
في اليوم التالي لانفجار الكرادة الثاني، عقد السيد رئيس الوزراء حيدر العبادي مؤتمرًا صحفيًا، أعلن فيه أن المعلومات الأولية تستبعد كون التفجير عملًا إرهابيًا موضحًا أن “السيارة التي تم تفجيرها مرخصة ومسجلة لدى المعنيين في محافظة كركوك”، تصريح ساذج لاقى استهجان رواد مواقع التواصل الاجتماعي، وكأنها المرة الأولى التي تسرق فيها سيارة، قبل أن يتم تفجيرها بعد ساعات، هذا على افتراض أن معرفة السلطات لصاحب السيارة سيحدث فرقًا.
لم يمهل تنظيم داعش الحكومة العراقية الكثير من الوقت، قبل أن يُعلن تبنيه للهجمات، لم تُعَقِّب السلطات العراقية على تصريح تنظيم داعش في هذه المرة ونُسي الأمر، تمامًا كما تم نسيان التفجير الذي سبقه.
كما كان تفجير الكرادة الأول واحدًا من سلسلة تفجيرات، ضربت مناطق متفرقة من بغداد في الأيام الأخيرة قبل عيد الفطر، فإن تفجير الكرادة الثاني لم يكن منفردًا.
أعقب تفجير الكرادة الثاني تفجير مزدوج استهدف مدخل “مول النخيل” في بغداد، منتصف ليلة الجمعة 9/9/2016، سيارة مفخخة وعبوة ناسفة انفجرا في مدخل المول.
انتشر مقطع فيديو لبث مباشر صوره أحد المتواجدين في المنطقة وقت الانفجار ولاقى رواجًا كبيرًا في وسائل التواصل الاجتماعي، يظهر السيارة المفخخة والسيارات القريبة منها وهي تحترق، في نهاية التسجيل، يقترب أحد رجال الشرطة من المصور ويأمره بالتوقف عن التصوير ويطلب رؤية هويته، بعد دقائق تناقل ناشطون خبر تعتقال المصور، ولم يؤكد الخبر.
أعلن تنظيم داعش تبنيه للتفجير، وأعلنت قيادة عمليات بغداد عن سقوط 5 قتلى و20 جريحًا فقط، تناقلت وكالات الأنباء لاحقًا أخبارًا متضاربة عن عدد الضحايا، ليستقر العدد في النهاية على 35 قتيلًا و55 جريحًا.
في آخر أيام الأسبوع، حدث انتشار مكثف لعناصر الشرطة، وتكدست الشوارع بالسيارات نتيجة لقطع بعض الطرق الرئيسية وسط هدوء نسبي أعقب عاصفة ويسبق أُخرى.
استنفارٌ أمني يعقب الأعمال الإرهابية ويضيق على الناس كما في كل مرة ليبقى السؤال الأزلي: كيف تمكنت السيارات المفخخة من دخول بغداد وتجاوز المفارز الأمنية التي تنتشر في كافة شوارع العاصمة؟ ومن المسؤول والمستفيد؟
لن يجيبنا أحدٌ على هذه الأسئلة، وقد يبدو المستفيد والمسوؤل غير واضح، إلا أن الخاسر في كل الأحوال هو المواطن العراقي – الذي لم يقتل بعد – الذي بات يواجه خطرًا مضاعفًا مع اقتراب كل عيد، أي تجمع للناس مستهدف، الأسواق والمساجد والحسينيات غير آمنة، وأحيانًا الشوارع العادية.
تُفَرَقُ الأُضحيات على الفقراء في العالم الإسلامي، وتُفرقُ المفخخات على ضحايا الشارع العراقي.