اللافت في التفاعل العربي مع ما يحدث في تركيا هو أن كل التساؤلات باتت تتمحور حول موقف الجيش التركي وإمكانية أن يتدخل الجيش وينقلب على أردوغان كما فعل الجيش المصري والجنرال عبد الفتاح السيسي مع الرئيس محمد مرسي، وهو الأمر الذي يدل على أمرين، الأول هو سوء فهم للواقع التركي ولحقيقة الأزمة، والثاني هو أن البعض بات يعتقد أن الانقلاب في مصر قد نجح وأصبح جاهزا لينفذ في دول أخرى، وهذا غير صحيح.
والحقيقة تدحض هذا، فالانقلاب في مصر فشل مرة أولى داخل مصر عبر عجزه، إلى الآن، في السيطرة على البلاد أو على الأقل في الإطاحة بخصومه، وهنا أسوق مثالا من التاريخ، ففي أيام انقلاب عبد الناصر، ومن دلائل نجاحه في الإطاحة بخصومه، كانت المظاهرات المليونية تَخرج لنصرته وتأييد حكمه وأما اليوم فلا وجود لأنصار الانقلاب في الشارع، ويوما بعد يوم يتزايد عدد الرافضين له وتتسع خارطة انتماءاتهم حتى باتت تطول شريحة كبيرة ممن دعوا إليه.
وفَشَلَ انقلاب 3 يوليو مرة ثانية خارج مصر، وهو ما أعلنه رئيس الجمهورية التونسية، المنصف المرزوقي، بصفة رسمية في تصريحه الذي قال فيه بأن الدولة التونسية أفشلت عملية انقلابية دبرت ونفذت في صيف 2013، بعد عملية اغتيال البرلماني محمد البراهمي، أي مباشرة بعد انقلاب مصر، وهنا يطرح سؤال، هل ينجح “الانقلاب” في تركيا بعد عقد من حكم أردوغان، وقد فشل في بيئة سياسية هشّة مثل تونس، وقد فشل في إخماد ثورة مصر بالرغم من كل ما سخر له من جيش وشرطة وإعلام وقضاء وبلطجية؟.
وبواقعية، ليس بإمكان أردوغان نفسه أن يجزم إذا ما كان هناك قادة في الجيش يخططون للانقلاب، وبواقعية أيضا نعلم أن لجماعة أردوغان نفوذ داخل الجيش والشرطة والقضاء وفي الاقتصاد وفي الإعلام، ولجماعة الانقلابيين نفوذ داخل الجيش والشرطة والقضاء وفي الاقتصاد وفي الإعلام، وهذا يحقق نوعا من التوازن بين القوى يجعل كلا الطرفين يحتكمون إلى الديمقراطية، مع قليل من التلاعب بقوانينها.
وذلك خلافا لما حدث في مصر، حيث شعر قادة الجيش بأن الدولة ملك يمينهم، جيشا وشرطة وقضاء واقتصادا وإعلاما، وكذلك شعروا بأن الشعب “ارتد عن الحرية” وأصبح مهيئا للعودة إلى ما قبل الربيع، وهنا اختلاف آخر بين الواقع التركي والواقع العربي.
فالمأساة التي تعيشها مصر اليوم، عاشها الأتراك منذ الثمانينات على يدي الجنرال كنعان افران الذي قتل وسجن وعذب قرابة نصف مليون تركي من مختلف الانتماءات السياسية والفكرية، و”علّم” الأتراك معنى “حكم العسكر” وجعل نجم الدين أربكان يفضل الاستقالة في سنة 1997 على الاصطدام مع الجيش، وجعل خصوم الإسلاميين يفضلون، على مضض، حكم أردوغان على حدوث انقلاب يعلمون أنه سيرجع تركيا إلى نقطة الصفر.
وأما ما يحدث في تركيا خلال هذه الأيام، وكما ذكر في مقالات سابقة، فإنه يأتي في إطار خطة محكمة تهدف بالأساس إلى تشويه صورة حزب العدالة والتنمية ورئيس الوزراء، رجب طيب أردوغان، عبر ضرب الاقتصاد واتهام شخصيات كبيرة من حزبه في قضايا ستستغرق سنوات حتى يفصل القضاء في صحتها من عدمه، سنوات ستقام خلالها الانتخابات البلدية والتشريعية والرئاسية، وسيتم خلالها التأثير على الناخب من خلال الأزمات الاقتصادية من جهة ومن خلال تركيز إعلامي على تورط شخصيات بارزة في الحزب في قضايا فساد وتهريب وإرهاب، بغض النظر عن براءة أو إدانة المتهمين.
وحتى الانتهاء من الانتخابات، البلدية والتشريعية والرئاسية، يفترض أن تستمر المواجهة بين حكومة أردوغان وحزبه ومناصريه من جهة، وجماعة فتح الله كولن ومناصريه وحزب الشعب الجمهوري وحلفائهم في الخارج والداخل من جهة أخرى، ولن يحسم الأمر إلا بصناديق الانتخاب، وهو ما كرره أردوغان عشرات المرات في الأيام القليلة الماضية.