لم يُسافر العقّاد في حياته إلا ثلاثة مرّات، مرّة إلى الحج شأنه شأن كُل مُسلم ومرّة إلى السودان هاربًا، بعد أن اتخذ موقفًا مُعاديًا من الحركة النازيّة في الحرب العالمية الثانية واُعلن عن اسمه من بين المطلوبين للعقوبة. وما إن بدأت القوات النازية من الإقتراب من مصر عام 1943 حتى هرب ولم يعد إلا بإنتهاء الحرب، ولم يُسافر بعد هذه الرحلة إلا إلى فلسطين وذلك قبل النكبة بثلاثة أعوام، تحديدًا في عام 1945، وقد دوّن شيئًا من تفاصيل رحلته هذه في سيرته الذاتية «حياة قلم».
لم ينبهر العقّاد من شيء في فلسطين كما انبهر بمناخها الذي راح يتأمله حتى رأى فيه حكاية من حكايات الحريّة والفأل الحسن للحرية القومية كما رأى فيه شيء من ملامح الصراع المُحتدم بين يافا وتل ابيب.
وكأديب لا يرى فرقًا بين عشق الأدب وعشق العلوم الطبيعة فكلاهما بحث عن «سر الحياة» كما يعتقد، فقد راح يتأمل الطقس في فلسطين ويقول:” أنكم تملكون اختيار الأجواء والأهوية في كل فصل من فصول السنة، وترجعون إلى حسابكم أنتم لا إلى حساب الأفلاك والكواكب لتخرجوا من الصيف وتدخلوا في الشتاء.. فنحن في مصر ننتظر ثلاثة أشهر أو أربعة لنشيع الصيف ونستقبل الشتاء، ولكنكم هنا لا تحتاجون الى هذا الإنتظار الطويل، لأن ساعة واحدة تنقلكم من حرارة يوليو الى برودة نوفمبر أو يناير!”، وهذا كما يقول العقاد ” فأل حسن وبشارة صادقة بنعمة أخرى.. هي نعمة الحرية .. الحرية القومية”.
الصراع .. في يافا
ورغم هذا الفأل الحسن، فلم يكن صيف 1945 طبيعيًا على حد قوله، فقد قضى معظم أيام رحلته على الشواطئ حيث بلغت الحرارة والرطوبة أقصى درجاتها على خلاف المألوف في السنوات التي سبقت، ولكنه يؤكد أنه لم يندم على ذلك، فقد رأى في شدّة الطقس شدّة الصراع بين يافا وتل ابيب، وهو “أعجب صراع بين مدينتين متجاورتين في تاريخ المشرق أو في تاريخ العالم بأسره” كما يقول.
ولم تشغل العقّاد مدينة فلسطينية كما «يافا»، فهي بنت الثلاثين قرنًا وهي التي تغنّى بها شعراء اليونان يوم كانت الاسكندريّة جنينًا في الغيب كما أنه لم ير مدينة في الشرق عُرض لها من تعاقب السعود والنحوس ما عُرض ليافا، فراح يصف نضالها المستميت وصبرها الأليم وهي تفجع في كُل مواردها، فبضائعها من موالح وثمرات وجلود وصابون لم تعد تلقى ترحيبًا في الأسواق بعد أن زاحمتها عليها تل ابيب، بل إن ميناء يافا العريق فقد أهميته بتحول السفن عنه إلى ميناء حيفا وإلى ميناء تل ابيب الجديد!
الفتاة اللعوب .. تل ابيب
لم يجد العقّاد شيئًا يصف به فتنة تل ابيب إلا وصفُها بالفتاة الماكرة اللعوب التي تتدلل على يافا الشّيخة الصبور، وكأديب لم يتزوّج في حياته لم ينبهر العقّاد من هذه الفتاة التي كان يلوذ الناس بها كُلما ارادوا النُزهة في المدينة الحديثة التي لم تكن قد بلغت “فعليا”ً إلا اثنين وعشرين عامًا مع انها أُسست قبل ذلك بكثير، في عام 1906، ولكنها لم تتطور كمدينة إلا بعد الحرب العالمية الاولى، وصارت فيها حدائق زاهرة وميناء وكورنيش مثل كورنيش الاسكندرية، وهو ما اثار العقاد حيث وجد أن الكُورنيش فيها ليس إلا نسخةً ومُحاكاة عن كورنيش الاسكندرية، بل أنه يؤكد أن “الأذرة الشامية” التي تُباع على زوايا الكورنيش هي نفسها.
لم يرتح العقّاد لتل ابيب، فمن جهة كان يتأمل حركة المارة التي لا تنقطع من ساعات الصباح إلى العشاء فلا يرى انسانًا يومئ إلى آخر بالتحية ولا حتى أثر للسعادة والظفر وفوق هذا لم ير شيئًا من دلائل الأخوة الروحانية بين اليهود هناك، وفوق هذا يؤكد العقّاد أن “تل الربيع” لم تعد تلك الروضة البريئة التي يقصدها اليافيين ليستمتعوا بنفحات غروبها ونسمات ربيعها، بل راح يؤكد أن يافا لن تقوى على الصراع وحدها ولا بُد لها من عون كالذي تحظى به تل ابيب.
نصيحة أخيرة!
ومع أن فلسطين ويافا قد انتكبت بعد زيارة العقاد بثلاثة أعوام فقط، إلا أن ما كتبه يستحق القراءة مرّة ومرتين بلا شك، وإن كان لا بُد من أن ننقل نصيحة من نصائحه التي لا زال العرب والفلسطينيين بحاجة ماسة إليها فهي قوله: “لا فائدة من تعظيم خطر الصهيونية والإرتفاع به الى ما وراء طاقة الجهود البشرية، ولكن لا فائدة كذلك من تهوين هذا الخطر إذا لم يقترن تهوينه بالشروع في العمل المفيد”، كما أن العقاد كان مُتفائلاً رغم كُل شيء وكان مُتأكدًا من أن التفاؤل المحمود هو الذي يقنعك بأن العمل ممكن وأنه مع إمكانه مفيد!
وشتّان شتّان بين زيارة هكذا مُفكّر مصري لتل ابيب قبل احتلال فلسطين.. وبين ثلّة من الكُتاب المصريين المأجورين الذين باتوا يزورون تل ابيب في ايامنا هذه، ويكتبون لنا عنها كما لو كانوا يكتبون عن الجنّة التي يجهلها العرب والمسلمين.