ها هو موسم الحج يلملم أوراقه معلنًا رحيل ضيفٍ من أفضل ضيوف العمر كله، فبعد أن منّ الله على أحباءه من عبيده بزيارة بيته الحرام، والتعطر بعبق المناسك المقدسة، والوقوف بين يديه، والتذلل في محراب عبوديته، والبكاء على أبواب رحمته، هاهم يودعون هذا الضيف بعيون الشوق والاشتياق، داعين الله ألا يحرمهم الأجر وأن يعيدهم هذا الشرف أزمنة عديدة.
يبدأ ضيوف الرحمن مغادرة البيت بعدما تنعّموا في كرم ضيافة الملك ساعات هي العمر كله، كل يتوجه إلى أهله وبلده، محملا بنسائم العشق الإلهي، ومفعما بروحانيات أفضل بقاع الأرض وزمانه على الإطلاق، ليعودوا إلى ذويهم وسط فرحة عارمة، واستقبال حافل، وفي هذه الإطلالة نطوف سريعا بين عواصم الدول العربية والإسلامية للوقوف على طقوس استقبال العائدين من رحلة العلاج الروحاني حيث مكة والبيت الحرام، وعرفات وصعيده الطاهر، ومنى وطهر ترابها.
مصر.. الزفّة وتزيين البيت
تعد طقوس استقبال الحجاج في مصر هي الأكثر شهرة بين بلدان العرب والمسلمين، فكما هو معلوم عن المصريين حبهم لبلاد الحرمين، وعشقهم لمكّة المكرمة والمدينة المنورة وما بهما من مقدسات تهفو إليها الأنفس، فضلا عن ولعهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل ماله علاقه به عليه أفضل الصلاة والسلام.
فكما كان المصريون دوما في السبق في توديع ضيوف بيت الله الحرام، هم أيضا كذلك في استقباله، حيث الهرولة إلى مطار القاهرة بصحبة المزمار البلدي، والسيارات المزينة بالأعلام البيضاء من جوانبها الأربعة، فضلا عن الزغاريد التي باتت سمة مميزة لاستقبال الحجيج.
وفي منزل الحج يكون هناك استقبال من نوع آخر، حيث تزيين جدران البيت من الخارج، والنقش عليه برسومات الطائرات والسفن، وكتابة عبارات ” لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك” وغيرها من عبارات الحج المعروفة.
وحين يصل الحاج يتم استقباله من جيرانه وذويه بالزغاريد والورود، والأناشيد التي يقوم أهل البيت بتجهيزها إما على الهواء مباشرة عن طريق بعض منشدي القرية أو البلدة، أن الأناشيد المسجلة عبر أجهزة الصوت المعروفة، وهكذا تتواصل الاحتفالات بالحجيج لعدة أيام.
وليلة وصول الحاج إلى بيته يبدأ في استقبال المهنئين من الأهل والجيران، وتوزيع الهدايا التي تتمحور معظمها في (الطواقي – الغترة – ماء زمزم –سبح) وهكذا على كل من زاره في بيته، ثم يبدأ في سرد نفحات ونسمات وروحانيات تلك الأماكن الطاهرة التي شرف بزيارتها طيلة فترة الحج.
تزيين المنازل احتفاءً بعودة الحجيج
الخليج.. الزينة والأعلام
بالرغم من القرب الجغرافي لدول الخليج إلى مكّة المكرمة، حيث يعتبر الحج لبعضهم ليس أكثر من نزهة لا تستغرق ساعات قليلة، إلا أن طقوس استقبال العودة تتميز بالبهجة والسرور، حتى وإن تراجعت بشكل كبير لكنها لاتزال حاضرة عند البعض.
حين يوشك الحجيج على الانتهاء من أداء المناسك والعودة للأهل والوطن، تتسابق بيوت الحجيج في التعبير عن حفاوة الاستقبال بضيوف بيت الله الحرام، حيث يتم تعليق أعلام على سطح البيت، إلى جانب بعض عبارات الترحيب، فيما نقوم هذه الأيام بإضافة أدوات الزينة الحديثة، وهي عبارة عن مصابيح مضيئة على شكل أهلة أو نجوم، إلى جانب صور للكعبة المشرفة.
إضافة إلى ذلك يقوم الأهل بزيارة الحاج في اليوم التالي لقدومه، وهناك بعض العائلات تقيم بعض الحفلات والولائم وتدعو لها الأهل والجيران، حيث يحكي الحاج تفاصيل رحلته إلى الأراضي المقدسة، وما تعرض له من نسمات وروحانيات خلال أداء لمناسك الحج المختلفة.
الأطفال في استقبال ضيوف بيت الله الحرام بدول الخليج
اليمن.. الطبول والذبائح
وفي اليمن…لطقوس استقبال الحجاج مذاق خاص، فحينما يعلم أهالي القرية أو الحي بمقدم موكب الحجيج الخاص بأقارب وجيران لهم يخرجون إلى مشارف عزلهم وقراهم، أو في المدن إلى المطارات والمنافذ البرية، ويستأجرون سيارات ويصطحبون معهم الطبول والمزامير، وقبلها يقومون بتحضير الأغنام والكباش للذبح، بحيث يتم توزيعها على الفقراء والمحتاجين ويصطف الجميع بما في ذلك الأطفال الذين يتلهفون لرؤية حجاجهم كي ينعموا بالهدايا والحلوى التي سيوزعها عليهم الحجاج فور وصولهم.
كما يتميز اليمنيون بعادات تكافلية تعاونية جميلة، حيث أن النساء يساعدن أهل بيت الحاج في التحضير للمأكولات وتنظيف المنزل، وما أن يبدأ ظهور الحجاج حتى يتم إطلاق الأعيرة النارية والمفرقعات والألعاب النارية، وفي القرى والمناطق البعيدة عن أقسام الشرطة وسيطرة الأجهزة الأمنية يتم إطلاق الرصاص الحي في الهواء بكثافة تعبيراً عن الفرحة بقدوم الحاج.
وما أن ينزل الحاج من السيارة التي تقله إلا وتتناثر عليه ورود وأشعار المهنئين ، ثم يذهب الحاج إلى بيته للسلام على أهله، وبعد ذلك تتوافد جموع المهنئين، حيث يحضر بعضهم كبشاً للحاج الذي يقوم هو الآخر بتوزيع ماء زمزم والتمور والسبح والمصاحف، وتستمر العزائم لمدة شهر والجميع في بهجة وسعادة غامرة.
كما كان للأطفال نصيب من هذه الطقوس، حيث تعد المدرهة “المرجيحة” أبرز طقوس استقبال الحجاج العائدين، مما يسمح للأطفال اللعب والسمر احتفالا بعودة أهليهم مما يضفي البهجة والفرح على جميع أفراد المجتمع، رجال ونساء، كبار وأطفال.
الاحتفالات والأهازيج في استقبال حجيج اليمن
الأردن.. دعوة العشاء
طقوس استقبال الحجيج في الأردن تعد هي الأغرب في الوطن العربي، إلا أنها تحمل بين ثناياها العديد من معاني الود والرحمة والتكافل غير الموجود في كثير من البلدان العربية في هذه المواقف.
فقبل السفر للحج يحرص الأهل والجيران عند القدوم لوداع الحاج، على تقديم هدية له عبارة عن أكياس الأرز أو السكر، كما أنه عند عودته من أداء الفريضة يتسابقون على دعوته للعشاء أو الغداء كنوع من تكريمه، وبالرغم من اندثار هذه العادات والاكتفاء بالزينة والفرح والحفلات والولائم إلا أن هناك بعض القبائل لازال يتمسك بها كأحد أبرز معالم الأردنيين.
أثناء زيارة المهنئين للحاج في الأردن احتفالا بعودته بعد أداء فريضته
سوريا.. سعف النخيل وورقات السرو
عادات السوريين في استقبال الحجيج تتميز بالعراقة والأصالة والتمسك بالتراث، فبالرغم من تطورات الحياة بكل مافيها إلا أن ذلك لم يحول بينهم وبين تراثهم الجميل، فقديما كان التقليد المتبع عند استقبال الحجاج هو تزيين البيوت، من خلال تعليق سعف النخيل وورقات شجرة السرو، حيث يكون اللون الأخضر طاغيا على الزينة، إلى جانب بعض عبارات الترحيب، أما الأن فهناك أدوات الزينة الحديثة وهي عبارة عن مصابيح مضيئة على شكل أهلة أو نجوم إلى جانب صور للكعبة المشرفة.
وفي اليوم الذي يسبق قدوم الحجيج، يجتمع أقرباؤهم وأصدقاؤهم وجيرانهم عند بيوت الحجاج ويساعدونهم في وضع الزينة وترتيب المنزل وصنع بعض الأطباق المخصصة لتلك المناسبات، وعند وصول الحاج إلى مدخل الحي أو الشارع تبدأ مراسم الاستقبال بالتهنئة والزغاريد وبعض الأناشيد التي تعبر عن فرحتهم بعودته، كما يفرح الصغار والكبار بالهدايا التي يحملها الحجاج عند عودتهم.
تزيين البيوت احتفاءَ بعودة الحجيج في سوريا
المغرب.. مواكب السيارات والزهور
كما هو معروف فإن الشعب المغربي شعب يعشق الفرح والسرور، ويبدع دوما في إضفاء البهجة على أفراد المجتمع وجنباته، وتتوقف مظاهر الاحتفاء بعودة الحجاج على مستوى وإمكانيات كل عائلة، فهناك من يبدأ الاحتفالية من مطار محمد الخامس بالدار البيضاء، الذي تكتظ قاعاته طيلة أيام عودة طائرات حملات الحجاج من الديار المقدسة، بمئات الأشخاص طوال ساعات الليل والنهار، بالإضافة إلى تجمع مواكب السيارات المزينة والقادمة من مختلف المناطق المغربية، وبعد الانتهاء من مراسيم الاستقبال في المطار، تأخذ مظاهر الاحتفال شكلا جديدا مع مواكب السيارات التي تطلق أبواقها للتعبير عن الفرح على طول الطريق إلى أن تصل إلى المنزل أحيانا مع ساعات متأخرة من الليل.
وفي المقابل يستقبل آخرون الحاج بباقات من الزهور، ويحرصون على أرشفة المناسبة بتصوير الحاج أو الحاجة باللباس الأبيض، بينما يبالغ البعض، في مظاهر الاستقبال والفرحة، باصطحاب فرقة لتزف الحاج بالطبل والزمر، مع عدم إغفال الزغاريد التي تطلقها النساء في أرجاء قاعة وصول الركاب.
وعندما يعلم سكان المنطقة بوصول الحاج يخرجون لاستقباله، ويتجمعون على مدخل منزله، وينثرون الورود عليه، ثم يبدأ الحاج بمصافحة الجميع، ويكون معه شخص آخر من أقاربه لمساعدته، حيث يقوم بتوزيع هدية الحاج والتي غالبا، ما تكون ”طواقي” أو مسابح وعطور، ثم يذهب الحاج إلى بيته لأخذ قسط من الراحة، قبل أن يعود لاستقبال الوفود الواصلة للتهنئة بمنزله تباعا، كما يقوم بتوزيع ماء زمزم عليهم، وتطرق الأفئدة والألسنة دعائها لله سبحانه بأن يكتب للحاضرين أداء فريضة الحج في الموسم القادم، وتستمر الاستقبالات وإقامة الولائم لمدة شهر تقريبا.
بالعناق والقبلات الحارة.. المغاربة يستقبلون حجيجهم
لا شك أن أداء فريضة الحج، والتلذذ بمناسكها وشعائرها، نعمة لا تضاهيها نعمة على سطح الأرض، لذا كانت وستظل حلم يراود الجميع إلى قيام الساعة، وبالرغم من تباين طقوس الاحتفاء بعودة زوار بيت الله الحرام إلى أراضيهم وبلادهم وأهليهم، إلا أن الفرحة والبهجة هي القاسم المشترك بينها جميعا، فتقبل الله من حجاجه وغفر لهم وجعلهم من أهل الرحمات، وكتب زيارة بيته لكل من حرم واشتاقت نفسه لهذا التكريم والشرف الكبير..