كشفت صحيفة “ميدل إيست آي” البريطانية عن مجموعة من التسجيلات المسربة تؤكد تورط سلاح الجو الإماراتي في تنفيذ ضربات جوية بليبيا دعما للجنرال المنشق خليفة حفتر “ضد الجماعات المسلحة المنافسة له في شرق ليبيا”.
وأكدت الصحيفة البريطانية في التقرير الذي أعده كريم البار، مشاركة طيارين عسكريين إماراتيين في العملية الدولية التي تشارك فيها أيضاً قوات بريطانية وفرنسية وأمريكية دعماً للجنرال الليبي المنشق خليفة حفتر ضد الجماعات المسلحة المنافسة له في شرق ليبيا، وذلك بحسب ما تؤكده تسجيلات مسربة من هيئة رقابة الملاحة الجوية حصلت عليها صحيفة “ميدل إيست آي”.
وكانت الصحيفة البريطانية قد نشرت من قبل تقريراً نشره نون بوست بالعربية أكدت فيه وجود عناصر إماراتية ضمن غرفة العمليات الدولية في قاعة بنينا الجوية داخل بنغازي التي تخضع لسيطرة حفتر. إلا أن الأشرطة الجديدة تشتمل على معلومات تؤكد للمرة الأولى – إضافة إلى ذلك – قيام طياري هذه الدولة الخليجية بتنفيذ طلعات في أجواء ليبيا.
يمكن في أحد المقاطع الصوتية سماع صوت طيار إماراتي يبلغ بعض الإحداثيات إلى ضابط ليبي داخل غرفة العمليات. ثم لا يلبث الطيار أن يُطلب منه “التأكد من وجود حركة” لأنهم لا يريدون “إهدار أي قنابل”.
جاءت هذه المعلومات الحصرية في الوقت الذي وردت فيه تقارير تفيد باستيلاء قوات حفتر على موقع نفطي ثالث في شرق البلاد وذلك بالنيابة عن مجلس النواب الذي يتخذ من طبرق مقراً له، وهو البرلمان الذي يشكل سلطة منافسة لحكومة الوفاق الوطني التي تدعمها الأمم المتحدة في طرابلس.
وقد سارعت كل من الولايات المتحدة وفرنسا والمملكة المتحدة وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا إلى التنديد بتقدم قوات حفتر وطالبت في بيان صادر عنها إلى وقف فوري لإطلاق النار.
ولكن يمكن في المجموعة الأخيرة من التسجيلات سماع طيارين وعاملين في مقر الرقابة الجوية يتحدثون باللغة العربية وكذلك سماع حديث باللغة الإنجليزية لأفراد أمريكيين وبريطانيين وفرنسيين وإيطاليين، كما هو واضح من لهجاتهم، بما يؤكد طبيعة العمليات الجوية التي تجري دعماً لحملة حفتر بهدف السيطرة على مناطق شرق ليبيا وانتزاعها من المجموعات التي ينعتها بأنها “متطرفة”.
بينما كانت صحيفة “ميدل إيست آي” قد كشفت النقاب في شهر تموز/ يوليو عن مشاركة طيارين أمريكيين وبريطانيين في العمليات، تسلط المجموعة الأخيرة من التسجيلات الضوء على مشاركة دولة الإمارات العربية المتحدة بطيارين إماراتيين يستخدمون كلمات سر فيما بينهم مثل “حسن”، و”شهاب 11″، و”شهاب 12”.
ويظهر جلياً في أحد المقاطع الصوتية توجيه طيار إماراتي نحو “هدف” بعينه، حيث يخاطبه متحدث من داخل غرفة العمليات قائلاً له: “سوف يكون دخولك من الأمام، وهذا سيكون مباشرة عند استدارتك إلى اليمين، توجه يميناً … مفهوم … ابق متوجهاً نحو ذلك الهدف، وانتظر المزيد من التعليمات”.
ثم يسمع الطيار الإماراتي يبلغ الضابط الليبي في غرفة العمليات بالإحداثيات، قبل أن يقول له هذا الأخير: “ابق متوجهاً نحو الهدف، ودعنا فقط نتأكد من الأمر لأننا لا نريد أن نهدر أي قنابل، نريد التأكد من وجود حركة في الموقع المستهدف … تفحص الموقع لترى إن كانت هناك أي حركة، وإذا لم توجد حركة فلن نفعل”.
ثم تجري محادثة بين الرجلين يقوم خلالها الطيار بإبلاغ الطرف المقابل مزيداً من الإحداثيات.
وفي ملف صوتي آخر يُسمع صوت طيار إماراتي وهو يطلب إذناً بالهبوط في بنينا، والتي تعتبر المرفق العسكري الأهم الخاضع لسيطرة حفتر.
تبدو الكثير من هذه المقاطع الصوتية كما لو كانت اتصالات اعتيادية بين الطيارين وغرفة التحكم بالملاحة الجوية – هناك ذكر لأعداد، ولكلمات سر، وحديث عن شكاوى حول أعطل في أجهزة الإرسال، وتأكيدات متبادلة.
من خلال تجميع بعض التفاصيل وتركيب المعلومات بعضها على بعض، مثل النطق بصوت مرتفع في التسريبات الصوتية بقياسات درجة الحرارة، تعتقد صحيفة “ميدل إيست آي” أن الطلعات الجوية حصلت في الفترة ما بين آذار/ مارس وأيار/ مايو من هذا العام ما بين الساعة العاشرة مساء والخامسة فجراً.
كما كانت تنطلق رحلات من إل جي إس إيه، وهي قاعدة جوية تابعة لحلف شمال الأطلسي في جزيرة تشانيا اليونانية إلى الشمال من ليبيا.
في شهر تموز/ يوليو كشفت صحيفة “ميدل إيست آي” كيف استهدفت هجمات جوية شُنت دعماً لحفتر سوقاً للسمك في بنغازي ومجموعة تعرف باسم مجلس شورى ثوار بنغازي، وهي تجمع لعدة منظمات إسلامية مسلحة.
إلا هذه المجموعة ليست متحالفة مع تنظيم الدولة، ولذلك يبدو أن الحملة الجوية التي تنطلق من بنينا موجهة بالدرجة الأولى ضد خصوم حفتر ومنافسيه وليس ضد تنظيم الدولة التي تسيطر على منطقة في وسط ليبيا.
ولطالما حامت شكوك حول مشاركة دولة الإمارات العربية المتحدة في العمليات العسكرية داخل ليبيا كجزء من سياستها الخارجية التي تعتمد التدخل، وبشكل متزايد، في مختلف أقطار الشرق الأوسط.
لا مفاجآت
يقول خبير الشؤون الليبية ماتيا توالدو، والذي يعمل باحثاً في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية: “لا يفاجئني ذلك لأن دولة الإمارات العربية المتحدة شاركت في القيام بهجمات جوية على طرابلس في عام 2014. وقد ترددت شائعات عديدة بشأن الضربات الجوية التي نفذت مؤخراً في غانفوده داخل بنغازي”.
في شهر آب/ أغسطس من عام 2014 وُجهت لدولة الإمارات العربية المتحدة اتهامات بقصف طرابلس مما تسبب في مقتل ما لا يقل عن ثمانية عشر مسلحاً كانوا يقتتلون في سبيل السيطرة على طرابلس. عندها تصنعت الإمارات بالاندهاش، رغم الاعتقاد بأن الطائرات المهاجمة انطلقت من قاعدة عسكرية مصرية في “سوى” وهي واحة صحراوية قريبة من الحدود بين مصر وليبيا.
يقول توالدو عن ذلك: “كانت مشاركة الإمارات دائماً بارزة، سواء في ميدان القتال نفسه أو من خلال توريد الأسلحة”.
لقد انشغل الإماراتيون في السنوات الأخيرة بتسليح أنفسهم. فما بين عام 2006 وعام 2010 استوردت الإمارات ما نسبته 3.9 بالمائة من مشتريات السلاح في العالم – ثم ما لبث حجم المستوردات أن ارتفع بنسبة 4.6 بالمائة ما بين عام 2011 وعام 2015. وفي العام الماضي، شكلت مشتريات دولة الإمارات العربية المتحدة ما نسبته 8 بالمائة من صادرات السلاح الأمريكية.
في شهر نيسان/ أبريل الماضي تبرعت دولة الإمارات العربية المتحدة بعدد من ناقلات الجنود المصفحة إلى الحكومة المنبثقة عن مجلس النواب الذي يتخذ من طبرق مقراً له وإلى جناحها العسكري المسمى الجيش الوطني الليبي الذي يقوده حفتر.
كان حفتر أحد أبرز القادة العسكريين في جيش القذافي، إلا أنه نُفي إلى الولايات المتحدة الأمريكية ولم يعد إلا أثناء ثورة عام 2011 سعياً منه للإطاحة بالزعيم الذي حكم البلاد لما يقل عن ثلاثة عقود. اتهم حفتر بأن له ارتباطات بالمخابرات الأمريكية (السي آي إيه) وبأن لديه طموحات بأن يتقلد منصب الرئيس في ليبيا، هذا بالإضافة إلى أنه يعتبر، كما ذكرت مجلة الإيكونوميست، “مفسداً للجهود التي تبذل لتوحيد البلاد”.
يقول كريستوفر دافيدسون، مؤلف كتاب “ما بعد الشيوخ: الانهيار الوشيك لممالك الخليج”، وأستاذ سياسات الشرق الأوسط في جامعة درهام، متحدثاً عن حفتر: “إنه شخص مثير للخلاف والشقاق ومن المستبعد أن تقبل به أي من الجماعات الليبية المشاركة في المفاوضات حول سبل توحيد البلاد. ولذلك يعتبر من وجهة نظر دولة الإمارات العربية المتحدة الشخص المثالي الذي يستحق الدعم والتأييد”.
تضر هذه التسريبات الصوتية المتكررة بشكل خاص بالأطراف الدولية المشاركة وذلك بسبب رفض حفتر تأييد حكومة الوحدة المدعومة من قبل الأمم المتحدة في طرابلس، ولأنه ما فتئ يقاتل الجماعات التي لا تنتمي إلى تنظيم الدولة ولا تعتبر متحالفة معها.
وتماماً كما استغل تنظيم الدولة حالة الفوضى لتعزيز وجودها داخل ليبيا – محولة مسقط رأس القذافي، مدينة سرت، إلى معسكر لتدريب عناصرها – يبدو أن حفتر استغل القلق الدولي بشأن التنظيم لكي يضمن الحصول على الدعم الخارجي.
وكان حفتر قد أطلق قبل عامين عملية الكرامة، والتي تتركز بشكل أساسي حول مدينة بنغازي. ثم ما لبث أن تحالف مع حكومة مجلس النواب. وبالرغم من زعمه بأنه “حرر” بنغازي في مطلع عام 2016 إلا أن العنف فيها وحولها لم يتوقف.
منذ انطلاق عملية الكرامة تواترت التقارير بتلقيه الدعم من قوى خارجية، وبشكل خاص من مصر ومن دولة الإمارات العربية المتحدة، واللتين يعتقد بمسؤوليتهما عن الضربات الجوية الليلية على مواقع تسيطر عليها فصائل مسلحة إسلامية.
دور المفسد
في مقالة مع صحيفة “ميدل إيست آي”، قال دافيدسون: “علينا الحذر لئلا نقع في فخ افتراض أن دولاً مثل الإمارات العربية المتحدة، وحتى دولة قطر في هذا المجال، تنهج سياسات خارجية مستقلة ومعبرة عن إراداتها الذاتية … هذه الدول هي من أهم حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة”.
وزعم أن وجود حكومة ليبية وطنية موحدة قد لا يكون بالضرورة مصلحة أمريكية، مؤكداً أن الحكومة المركزية القوية “قد لا تفتح على سبيل المثال اقتصادها ونفطها بالطريقة التي تنسجم مع رغبة الولايات المتحدة الأمريكية”.
وأضاف دافيدسون: “وقد يكون من الأفضل، إذا لم تتمكن حكومة موالية للغرب من التشكل في طرابلس، أن تبقى الدولة مجزأة، ولعل هذا ما يفسر أننا نرى على الأرض شركاء مثل حفتر بما له من قوات برية وفي الأجواء شركاء مثل دولة الإمارات العربية المتحدة كل ما يقومون به فعلياً هو اقتطاع جزء يصبح في نهاية المطاف جيباً مواليا للولايات المتحدة في شرق ليبيا”.
إلا أن توالدو عارض ذلك الرأي وخالفه تماماً قائلاً: “إن مصداقية الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية بشكل خاص على المحك، وإذا ما أخفقت الحكومة التي تساندها الأمم المتحدة فإن ذلك يعتبر فشلاً لسياسة هذه الدول”.
من جهته، قلل دافيدسون من أهمية ما يقال عن وجود تنافس خليجي في ليبيا ما بين الإمارات العربية المتحدة وقطر قائلاً: “يبالغ الناس كثيراً في هذا الأمر من حيث اعتبار هذه الدول مستقلة واعتبار أن كل واحدة منها تدعم جهات مختلفة”.
وأضاف: “لدينا معسكران رجعيان ومناهضان للثورة في المنطقة. وفي الحالة الليبية يوجد لدينا نموذجان حيان ومفعمان بالنشاط، حيث يتواجد حليفان مدعومان من قبل الولايات المتحدة يقومان بدور الوكيل الإقليمي في الخنادق المختلفة لنفس الصراع. وبالطبع كلاهما في نهاية المطاف يساهم في تقويض فرص قيام دولة ليبية متماسكة وفاعلة وقادرة على تمثيل جميع الناس في البلاد”.
الحليف الآخر المدعوم أمريكياً الذي كان يشير إليه دافيدسون هي دولة قطر، إلا أن توالدو يعتقد بوجود اختلاف واضح في دوافع وأهداف المشاركة القطرية والمشاركة الإماراتية في ليبيا.
يقول توالدو: “تقوم قطر بتزويد الطرف الآخر ببعض الأسلحة، إلا أن دورها لا يمكن أن يقارن بالدور الإماراتي أو الدور المصري المساند لحفتر. كثيراً ما يلجأ المرء إلى استنتاج وجود نوع من التماثل على افتراض أن أحد الجانبين مدعوم من قبل مصر والإمارات العربية المتحدة بينما الطرف الآخر مدعوم من قبل تركيا وقطر. إلا أنه لا وجود لمثل هذا التماثل، فنحن لم نر سفناً محملة تنقل السلاح إلى حلفاء قطر في ليبيا بينما رأينا سفناً محملة تنقل السلاح إلى حفتر من الإمارات العربية المتحدة ومن مصر. لا يوجد تشابه إطلاقاً بين ذلك وبين ما تقوم به قطر أو ما تقوم به تركيا”.
وكمثال على تورط الإمارات العربية المتحدة العميق في ليبيا يشير الخبيران إلى الفضيحة المتعلقة بمبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا بيرناردينو ليون، والذي كان في العام الماضي يتراسل مع أبو ظبي أثناء انشغاله بمحاولة التوسط لإنهاء الحرب الأهلية في ليبيا، ويتضح مما تسرب من مراسلاته عبر الإيميل أنه كان منحازاً إلى الموقف الإماراتي على الرغم مما يتطلبه دوره من حيادية.
كما نشرت صحيفة ذي غارديان البريطانية تقريراً يفيد بأن ليون كان حينها على وشكل تقلد منصب مدير أكاديمية الإمارات الدبلوماسية براتب شهري قدره 46 ألف دولار أمريكي.
يقول دافيدسون عن التورط الإماراتي في ليبيا: “بحسب ما أراه، هم يمارسون دور المفسد المعطل لتشكل الدولة الليبية”.
المصدر: عربي 21