يغير الله على قلب عبده أن يتعلق بسواه من متاع ومتع الدنيا الواهيّة الواهنة؛ وغيرته تعالى جزء من كلٍّ يخصه، عز وجل، ليست كتلك التي نعرفها في الحياة الدنيا؛ أو التي تتبادر إلى الأذهان التي أقرت فيها هذه الحياة القليلة البقاء غير صحيح المفاهيم.
يغير رب العزة على قلوب العباد الذين يريد وصلهم دائماً به؛ غيّره كمثله سبحانه تندرج تحت (ليس كمثله شىء)، أما ماهيّة هذه الغيرة، كما يُمكن لعقولنا الواهنة القاصرة أن تستوعبها؛ حتى حين نلقاه تعالى فنفهم عنه مراده الكامل؛ وفي رحلتك مع رب العزة؛ وفي طريقك إليه؛ يمكنك مع تقصيرك وذنوبك أن ترتضي بالمفاهيم الصحيحة؛ وإن لم تكن كاملة؛ فتروح تكملها ثانية بعد أخرى؛ عبر مراقبتك البشر والحياة؛ وتحولاتهما وتقلبهما ..
وبالتالي اختيار الأخيرة لعشاقها منهم كي تبادرهم بعرض المحاسن؛ وفيهم ومنهم .. من المحيطين بك وأحياناً اللصيقين الذي يختار الانحياز إلى الدنيا ..تلك التي تغير أثوابها وعشاقها لمئات السنوات . . وما تزال “كعاباً” برأي أمير الشعراء “أحمد شوقي” رحمه الله.
يحيط قدرة خالقك بك من جميع جوانبك؛ فيما لا تكاد تحيط بنفسك، في ألمك تتعجب من مقدار هذا الارهاق الذي لا تدري له حدوداً، وفي مراقبتك لتحولات الأفراد والجماعات والدول؛ وتعجبك من أمر اعتقادك الثبات في كون ما خلق إلا متغيراً، وزادت الفتن من مقدار ديمومة تغيراته.
في الفترات العصيبة من حياة الأمم والجماعات والدول بل الأفراد من حولك إن لم تتحسس معيّة الله في قلبك “ضعت” و”تهت” ولم يبق من تكوينك إلا أعضاء جسد تعمل..فيما العقل عنها بعيد .
ووفق معادلة محسوبة بما أهو أدق بمراحل من “الفيمتو ثانية”؛ وأكثر دقة وتوازناً من “نواة الذرة” بما لا يعد من المرات.. فإنك جئتَ الحياة وتقبلك الوجود فلم تغادره حتى الآن محبة من خالقه وخالقك.. وإن ابتعدتْ .. وإن لم تدر!
ولأن خالقك وخالق الكون فقد قدّر فعلم؛ وخلق وأوجد السبيلين: الهداية والضلال؛ وأحبك قبل أن تحب نفسك فهداك إلى الطريق الواضح الحق؛ ولكن هذه الدنيا لدى أعين “قاصرة” مينعة. تجدد خداعها كل حين .. وليست يانعة فقط، بل حلوة خضراء تتوه الأرواح النيّرة الصافية أحياناً في اختباراتها؛ وقد تلبس الدنيا ثياباً محببة إلى النفس فتألفها الأخيرة ولا تكاد تستغني عنها.
قال بعض العارفين إن سيدنا “إبراهيم”، عليه السلام، لما بُشرَ بسيدنا “إسماعيل”؛ على كبر في السن، واشتعال في شعر الرأس، ووهن في العظم؛ وانحناء في الظهر، والأهم شبه يأس من حدوث الأمر.
تعلق قلب “إبراهيم”، أبي الأنبياء بسيدنا “إسماعيل” وليداً في المهد؛ حتى إن قلبه (لكأنه) انشغل عن محبة ربه تعالى.. وما كان سبحانه ليترك قلب خليله يتم تحولاً، لاقدر الله .. ومن هنا جاءت محنة أبي الأنبياء مع سيدنا “إسماعيل” الأولى؛ إذ يجيء الأمر الإلهي بتركه مع أمه في الصحراء بلا مؤونة من زرع أو ماء.
تسير السيدة “هاجر” وراء زوجها مؤمنة محتسبة حتى يأتيا الصحراء وانقطاع الحياة تماماً؛ وهي تعرف في أعماق روحها أنه نبي فلا تسأل.. ولا تعترض على الرحلة الطويلة من فلسطين إلى مكة، ولا تقول أن الوليد تعب .. ولكن الأمر الأشد غرابة ..لديها.. أن سيدنا “إبراهيم” يريد العودة وتركها مع الوليد الذي ظل يشتهيه طوال العمر.
وتسأل وتعيد السؤال؛ ولكأنها تدرك أن زوجها (كأنه) يتحاشى النظر إليها وإلى رضيعها .. ويلهمها إيمانها:
ـ آالله أمرك بهذا؟! ..إذن فلن يضيعنا ..
في الصحراء الموحشة؛ وبلا أنيس أو رفيق؛ أو متاع أو صديق؛ عرضة لجميع أنواع الأخطار .. ولكنها تعلم أن (الله) معها فتترك زوجها يمضي عنها.. فما بالنا نهتز لأحداث الحياة مما هو أقل بما لا يعد من مليارات المراحل؟
هناك بين الصفا والمروة ليس الهدف أن نهرول فحسب .. بل نوقن أن الله معنا .. مهما ارتاعت قلوبنا واشتدت علينا اختبارات الحياة، وأن هذه الاختبارات مهما عظمت في ظاهرها العذاب وباطنها فيه الرحمة.
فإن الله يريد للقلوب ألا تتعلق بمتع وزينة الدنيا وتتعلق به؛ وإن كان التحول والتعلق دون أن تدري القلوب؛ أو تشعر العقول؛ أو تدري الأنفس؛ لكن رب العزة يريد دائماً منا نقاء الأرواح السائرة إليه .. فلنعم السير ولنعم السائر والمُسير إليه .
ومن بعد يلقى سيدنا “إبراهيم” ابنه “إسماعيل” فتىً يانعاً فتتجدد في القلب المحبة؛ وتأنس النفس الكثيرة النسيان؛ أو لكأنها؛ وتعجز الروح عن المقاومة أو لكأنها.. ويتجدد التحذير الإلهي؛ فإن الذي يكاد أو يوشك أو لكأنه سينسى هو (الخليل) .. وهل يترك رب العزة خليله من البشر؟
اذبحه..
ماذا فلذة الكبد ومهجة القلب؟
درة زينة الدنيا؛ ذلك الذي افتقده سنيّ العمر الطويلة قبل أن يجيء، وسنوات ليست بالقليلة أخرى؛ وكان العثور عليه والاهتداء إليه أحب من شرب الماء على الظمأ المقارب للموت .. أشد حباً منه بمراحل
تتكرر الرؤية .. ورؤيا الأنبياء حق .. اذبحه ..
وهل تكون وفاة الابن بيد أبيه؟
اذبحه..
لم يبق للروح سوى ان تفعل.. فالأمر عالٍ وإلهي .. والمأمور لا يعرف له سبباً؛ درس قاسٍ ثانٍ .. ما تراه في الكون والوجود اختبار بالغ القسوة يكاد يزلزل نفسك ..ربما كانت الرحمة مخبأة فيه .. وأنت لا تدري!
مجرد الامتثال للأمر .. هو ما كان يريده تعالى، ولعل قلب خليله بل روحه فهمتا .. لا تتعلق به .. توشك أن تغادر الذي تتعلق به أو يغادرك!
ومن بعد كل عام نذهب؛ ما استطعنا إلى هذا سبيلاً إلى بيت الله الحرام؛ إلى حيث وضع قواعده سيدنا “إبراهيم” و”إسماعيل”؛ عليهما السلام؛ بعد الاختبار ..
نذهب عرايا إلا من ملابس هي أقرب إلى الكفن.. نزور الكعبة ونسعى بين الصفا والروة .. ونقف بعرفات عرايا كما ولدتنا أمهاتنا إلا مما يستر العورة؛ يقول رب العزة لنا بلسان أكثر إفهاماً لو ندري:
لا تتعلقوا بالدنيا .. فلن تدوم لكم حياة .. والحياة الطبيعية الطويلة الممتدة في القرب مني .. كما فعل “إبراهيم” و”إسماعيل” .. وبَلغ سيدنا “محمد”، صلى الله عليهم وسلم جميعاً ..
ابتليتكم بهذه الحياة كما ابتليتهم .. فليست الراحة فيها من مكوناتها .. فلا تركنوا إليها، وانظروا إلى متاعبها وبلاياها على أنها جزء من الطريق إليّ.. فسيروا كما صارت “هاجر” وركضت وسعت .. وتعبت ورهقت من أجل أداء الرسالة؛ وأطيعوا كما أطاع “إبراهيم” على محبته لـ”إسماعيل”؛ وكونوا عند العهد كما كان الأخيرين ..
ولئن عدتم من بعدها إلى بلادكم سالمين فتذكروا أن الحياة وُهبتْ لكم من جديد؛ وإن لم يتيسر الحج لكم فتذكروا أن دروسه لا ينبغي أن تنسوها ..
لا تجعل قلبك يتعلق بغير الله من الأغيار .. مما لا يدوم لك ولا تدوم له ..وجد في المسير إلى الذي لا ينساك .. وإن نسيته حتى حين..!