ترجمة وتحرير نون بوست
إن ارتفاع أسعار الحج في المملكة العربية السعودية من 4 آلاف دولار في سنة 2010 إلى 12 ألف دولار حاليًا، قد يُضعف قدرة العديد من الراغبين في أداء هذه الفريضة.
فمن الصعب أن نصدق أن مكة كانت في السابق مدينة صحراوية بسيطة في العصور الغابرة، فعندما نشاهد ناطحات السحاب والفنادق الفاخرة والأنيقة ومراكز التسوق الكثيرة، نلاحظ أن التحول الباهر الذي شهدته البنية التحتية السعودية على مدى العقود القليلة الماضية كان سريعًا وجذريًا.
وعلى الرغم من التحول الذي عرفته هذه البلاد، إلا أننا رأينا خلال موسم الحج السنوي الحالي، الذي بدأ الأسبوع الماضي كلاً من مظاهر الفقر والبذخ، حيث شُوهد جموع من الحجاج من جميع أنحاء العالم نائمين ممدين على أرضية الفناء خارج المسجد الرئيسي.
كما توجد العديد من العائلات الإفريقية التي نامت مع جميع أمتعتهم عند الأبواب الأمامية لمراكز التسوق والفنادق المجاورة للمسجد الحرام، كما شوهد الآلاف من قبيلة بانهاندليرس الذين يقيمون معسكرًا كل سنة في مدينة الخيام مينا، لبيع الأوشحة، والنعال ولعب الأطفال على أمل أن يتعاطف معهم الحجاج الأجانب.
في الواقع، إن مدينة مكة المكرمة كانت ولا زالت ملجأً للملايين من الحجاج كل سنة ولكن تكمن أماكن الراحة البسيطة لأولئك الحجاج الفقراء في الظلال الطويلة التي تدلي بها الأبراج والفنادق، والتي لا يمكن لهم أن يتمتعوا بها في المناطق المحيطة بالمسجد الحرام.
ويعتبر الحج فريضة لها طقوس معينة تسمى مناسك الحج، وهي واجبة لمرة واحدة في العمر لكل بالغ من المسلمين، وعلى الرغم من ذلك، فقد شهدت أقدس مدينة في الإسلام تحولاً غير مسبوق، حيث أصبحت فيه فريضة الحج تخدم مصالح قطاع السياحة والضيافة السعودي، والتي على ما يبدو تفوق الاحتياجات الروحية للكثيرين، وهذا يعني أن رحلة الحج التي تهدف إلى التقرب من الله والتزهد عن أهواء النفس البشرية أصبحت “تجربة” لا يقدر عليها إلاّ الأغنياء الذين لهم القدرة على تحمل التكاليف الباهظة للحج.
ووفقًا للمدير التنفيذي لمؤسسة أبحاث التراث الإسلامي في مكة المكرمة، أحمد العلاوي، فإن كل أبنية الفنادق الفخمة سواء منها القديمة والجديدة جاءت إثر هدم قلعة أجياد الحجرية، في سنة 2002، وهي القلعة المترامية الأطراف التي بنيت في العهد العثماني، حيث اعتبر وزير الثقافة التركي هذا الهدم “مذبحة ثقافية”، أما في سنة 1984، فقد تمّ هدم بيت زوجة النبي، خديجة وذلك من أجل إفساح المجال لبناء المراحيض العامة.
وقد أكد الدكتور العلاوي أنه لن تجد إجراءات مماثلة في روما، أو الفاتيكان، كما تساءل عن أسباب بناء فنادق وحمامات سباحة كما لو كنت بجانب الشاطئ، مشيرًا بذلك إلى الفنادق الفاخرة الموجودة بالفعل خارج المسجد الحرام، كما أضاف أنه يشعر بالقلق إزاء هذه المشاريع الضخمة التوسعية مثل أبراج كدي التي هي في طور الإنجاز حاليًا، حيث يعتقد أنها لن تكون مجرد منتجعات سياحية، ولكن ربما ستكون بمثابة الذريعة لمحو مكة المكرمة وتراث المدينة المنورة.
ويعتبر مشروع بناء أكبر فندق في العالم الذي وصلت كلفته إلى قرابة 3.5 بليون دولار في المناطق المجاورة للمسجد الحرام أكبر دليل على ذلك؛ فسوف تتضمن أبراج كدي 12 برجًا، 10 آلاف غرفة، 70 مطعمًا وأربعة مهابط لطائرات الهليكوبتر، ومن المتوقع أن تغطي هذه الأبراج 15 مليون قدم مربع، يُبنى فيها حوالي 45 طابقًا.
وتمثل الحاجة لاستيعاب النمو الهائل في عدد الحجاج الذي كان 1.2 مليون سنة 1997 وأصبح 2.9 مليون سنة 2011، هو السبب وراء قرار بناء أبراج كدي، ولكن نظرًا إلى أن معظم الحجاج قادمين من البلدان النامية، فإن ارتفاع أسعار الغرف الفندقية التي تقدر تكلفتها بين 1800 دولار وصولاً إلى 2500 دولار في الليلة سيسبّب مشكلة ونقصًا حادًا في الغرف.
ويعتقد بعض المراقبين أن كل الجهود التي تبذلها الرياض ترمي إلى خلق نموذج خاص واستثنائي، وفي هذا السياق، يقول أستاذ الضيافة والسياحة في جامعة بوسطن، طارق دوغرو، إنه يعتقد أن الحكومة السعودية تريد أن تجعل من الحج تجربة لا تنسى.
كما أضاف أنه على الرغم من تواجد العديد من الفنادق الفاخرة الأخرى حول المسجد الحرام لمدة عشر سنوات تقريبًا، إلا أن تواجد فندقا بهذا الحجم من المحتمل أن يحدث تغييرا جذريا في صورة مكة المكرمة كوجهة سياحية.
وأشار إلى أن الحكومة السعودية تريد أن تلبي عروض الطلب التي تلقّتها، كما أنها تريد أن تسد النقص الذي تشهده، وبذلك سيصبح توفير فندق بهذه الضخامة تجربةً سيرغب الكثير من الناس في خوضها، كما سيكونون على استعداد لدفع أي ثمن نظرًا لأن الحج هو تجربة تحصل لمرة واحدة في العمر.
وقد يكون بناء مدينة نابضة بالحياة تهدف لاستقطاب المسافرين الأثرياء وسيلة تعتمدها المملكة العربية السعودية للخروج من مشاكلها الاقتصادية حيث تعتمد الرياض على مبيعات النفط التي تقدر بأكثر من 90% من جملة عائداتها، ولكن عندما انخفضت أسعار النفط من 100 دولار للبرميل الواحد إلى 30 دولارًا هذا العام وانهارت عائدات النفط، خسرت المملكة قرابة 390 بليون دولار من الأرباح المتوقعة، مما جعلها تعاني الآن عجزًا ماليًا يقدر بحوالي 100 بليون دولار.
ونظرًا للعائدات الهائلة المتأتية من الحج في السعودية والتي تصل إلى قرابة 18 بليون دولار في السنة، فإنه ليس من المستغرب أن الرياض ستتحول نحو سياسة سياحة الحج، التي ستكون فرصة كبيرة له لتحويل الملايين من الزوار إلى أصول مالية، وفي هذا الصدد، يعتقد دوغرو أن أبراج كدي ستعطي صورة مختلفة عن المملكة العربية السعودية إلى العالم فضلاً عن صورة مالكة أكبر احتياطيات النفط حيث يمكن أن يكون هذا الفندق مركزًا سيستقطب العديد من المستثمرين الذين تربطهم مصالح كثيرة في هذه المنطقة.
وأضاف دوغرو أن “النمو في عدد أماكن الإقامة الفاخرة لا ينبغي أن يؤثر على الأعمال التجارية للفنادق الصغيرة والمتوسطة الحجم لأن هذه الفنادق تعتبر وجهة لمختلف فئات الزوار من مختلف مستويات الدخل، ومع ذلك، أتوقع أن صناعة السياحة ستشهد تحولاً إيجابيًا سيخدم هذه المدينة”.
ولكن بعض النقاد يقولون إن الحملة الشاسعة لبناء وتطوير المدينة على مدى العقدين الماضيين ستكلف الحكومة مبالغ باهظة، وفي هذا السياق، يقول الفنان السعودي أحمد ماطر، في فيلم وثائقي حول التحول الحضري التي تشهده مدينة مكة، “إن التطور التجاري السريع سيكون له تأثير حقيقي على الصحة العقلية والروحية والجسدية للجالية المسلمة في جميع أنحاء العالم، لأن الذهاب إلى مكة المكرمة يعدّ رحلة في نهاية المطاف من حياتك، ففي السابق، كان المقبل على هذه الرحلة يقوم بكتابة وصيته قبل أن يذهب، ولكن على ما يبدو قد تتغير الكثير من الأشياء بعد هذا التحول”.
ولكن توجد العديد من المخاوف المتعلقة بمدى استدامة مشاريع التنمية الجديدة لأنه منذ انخفاض أسعار النفط تعرضت مشاريع بناء أبراج كدي وعدة مشاريع أخرى إلى العديد من العراقيل والعوائق حيث قامت في وقت سابق من هذا العام شركة البناء السعودية الأقرب إلى الحكومة، مجموعة “بن لادن” بعزل الآلاف من عمالها لتجنب وقوع كارثة مالية، كما احتج العديد من العمال في كل من جدة ومكة المكرمة والرياض علنًا، على عدم حصولهم على رواتبهم لعدة أشهر، وتقدر أحد التقارير أن جميع مشاريع التنمية تكلف أكثر من 26 بليون دولار بما في ذلك 35 بليون دولار لقطاع العقارات وحده.
وتجدر الإشارة إلى أن الحجاج الأجانب سيشعرون بالفرق الشاسع الذي ستشهده هذه المدينة سواء من حيث تكلفة هذه الرحلة التي ستصل إلى قرابة 12 ألف دولار بالنسبة للمسلم الذي سيسافر من المملكة المتحدة إلى مكة المكرمة والتي كانت تبلغ قرابة 4 آلاف دولار في سنة 2010.
وفي هذا الإطار، صرّح الدكتور علاوي “عندما يتم الانتهاء من أبراج كدي وغيرها من فنادق سبع نجوم، سترتفع تكلفة الإقامة في الفنادق القريبة بشكل ملحوظ وسوف يحتاج الحجاج من الطبقة المتوسطة إلى الإقامة في نزل تبعد بين 3 و4 كيلومترات من المسجد الحرام واستقلال سيارات الأجرة التي ستستغل بدورها موسم الحج لجني أرباح مضاعفة”.
وأضاف أنه “يقترح بناء فنادق أربع أو خمس نجوم بأسعار معقولة مثل فندق هيلتون، وفندق هوليداي وذلك لاستيعاب الأعداد المتزايدة من الحجاج التي كانت متواجدة بكثرة منذ 20 سنة، لكن هدمت الكثير منها لصالح الفنادق الفاخرة، والتي يملك كثير من الأمراء السعوديين أسهما فيها”.
أما دوغرو فقد أفاد أن الاستثمارات التي قامت بها الحكومة السعودية ستجعل منها مدينة مزدهرة ووجهة سياحية رائعة تلقى إعجاب الكثيرين، كما أنه يعتقد أن هذه التطورات تليق بمكة المكرمة والكعبة المشرفة، مسقط رأس النبي محمد.
ولكن بعض المواطنين السعوديين انتقدوا هذا البهرج والطابع الفخم التي ستكتسيه هذه المدينة واعتبروا أن هذه التنمية ستقوم بتدمير جانب ثقافي هام، كما أعلنوا أن التغيير الذي ستشهده هذه المدينة لا يعكس قدسيتها باعتبارها مركز أكبر الأديان في العالم ومسقط رأس نبي المسلمين الذين كان يدعو إلى إتباع نمط حياة متواضع.
ومن ناحية أخرى يقول الدكتور علاوي، إن مدينة مكة المكرمة قد فقدت ذلك الطابع القدسي الروحاني باعتبارها بيت الله الحرام، لأنه عندما زار المسجد الحرام ورأى تلك الرافعات والأبراج كان يُخيل إليه أنه في مانهاتن وليس في مكة المكرمة.
وفي هذا السياق، أفادت محامية من كاليفورنيا سافرت للحج هذه السنة، تدعى شاندو حنا، أن التغيرات الجارية في مكة المكرمة ليست سيئة إلى حد ما، لكن من وجهة نظرها لا تخدم أهداف الحج الحقيقية، ولأنها تعيش في أمريكا، فهي تريد أن تبتعد عن كل مظاهر الاستهلاك وتتفرغ فقط للعبادة، إلا أنها وجدت نفسها في مكان يعزز هذه النزعة الاستهلاكية.
المصدر: ميدل إيست آي