ترجمة وتحرير نون بوست
في سنة 1972، تصدرت صورة مروعة لطفلة صغيرة، تركض هاربة من قنابل النابالم وقد نهشت الحروق جسدها، الصفحات الأولى للصحف العالمية، ساهمت هذه صورة في توضيح الفظائع التي شهدتها حرب فيتنام للعالم وتحويل الرأي العام بخصوص هذا الصراع، ويعود الفضل في ذلك إلى ملتقط هذه الصورة، المصور نيك أوت، تعتبر هذه الصورة جزءًا أساسيًا من تاريخنا الذي يجمعنا ورؤيتنا الواعية التي نتقاسمها، وقد حاول الفيسبوك الأسبوع الماضي فرض رقابته عليها.
دافع الفيسبوك في البداية عن قراره بإزالة الصورة، وذكر أن ظهور الفتاة عارية في هذه الصورة فيه انتهاك لمعايير المجتمع، ولكنه عدل عن قراره بعد ذلك، معترفًا “بالتاريخ والأهمية الدولية التي تملكها هذه الصورة التي وثقت لحظة خاصة جدًا من التاريخ”، ومع ذلك، ساهم هذا الإجراء الذي نفذته إدارة الفيسبوك في إثارة قضايا كبيرة لا يبدو أنها ستحل بسهولة.
مع أن معظم الناس سبق لهم وأن شاهدوا هذه الصورة عديد من المرات، إلا أننا نجد أن قلة قليلة منهم فقط تعرف قصة الفتاة التي ظهرت فيها، لقد أتيحت لي فرصة لقاء ومحاورة الطفلة كيم فوك، محور هذه الصورة الأيقونة، كانت كيم في تلك السنة تبلغ من العمر تسع سنوات، تعيش حياةً هادئة مع عائلتها وأصدقائها في قرية في الفيتنام، كانت كيم تشعر “بالأمان والحب” في تلك القرية وسط أهلها.
ذكرت كيم أنها “لم تخف يومًا من الحرب” وتذكرت لحظة بدء الهجمات التي “لم ولن تنساها”، قالت كيم أنها “شعرت بالخوف للمرة الأولى في حياتها عندما دق الجنود باب منزلهم”، كان ذلك يوم 8 يونيو 1972، وقد كانت عائلة كيم وبقية القرويين مجبورين على الاختباء في معبد القرية، الذي اعتبر مكانًا آمنًا، تنفيذًا للتعليمات الصادرة آنذاك، ولكن المعبد لم يكن أمنًا كما ظنوا، أمر الجنود الأطفال بالهرب عندما سمعوا صوت الطائرات قادمة نحوهم، بدأت قنابل النابالم تملأ الجو نارًا ولحق البعض منها ثياب كيم، اشتعلت ثياب هذه الطفلة نارًا ووصلت إلى جسدها وما كان أمامها إلا تمزيقها وإكمال ركضها.
ذكرت كيم أن مادة النابالم سميكة جدًا وتبلغ شدتها 2200 درجة فهرنهايت، ووصفت شدة الحرق الذي لحقها “بأبشع ألم يمكن للمرء تخيله”، أخذت كيم تركض في الطريق من شدة الألم والخوف، وكانت تلك اللحظة التي التقطها المصور نيك أوت والتي شهدها العالم في اليوم التالي بعد نشرها على الصفحات الأولى للصحف العالمية.
يمتلك المصورون الفوتوغرافيون القدرة على تكوين التأثير العاطفي الذي تعجز الكلمات عن تبليغه بمفردها في الصور التي يلتقطونها، لذلك تعتبر رؤية هذه الطفلة بهذه الحروق التي ملأت جسدها الصغير قراءة مختلفة تمامًا عن القراءة التي تتلخص في ملامح وجهها المذعور وجسدها العاري، نشرت هذه الصورة وشوهدت بشدة سنة 1972، وهذا ما يجب أن يكون مع وجود فضاء إلكتروني يضم ما يربو 1.13 مليار مشترك يوميًا.
انتهت حرب الفيتنام، ولكن معاناة الأطفال التي مزقتها الحروب في مختلف أنحاء العالم لا تزال إلى يومنا هذا، وكذلك تأثير الصورة وأهميتها، صحيح أن فيسبوك تعتبر شركة خاصة ومن حقها القانوني فرض مراقبة على كل ما يتعلق بالمحتوى، ولكن باعتبارها شركة عملاقة تدعي أن مهمتها تتمثل في “منح الناس القدرة على المشاركة وجعل العالم أكثر انفتاحًا واتصالاً”، يصبح فيسبوك أمام مسؤولية أخلاقية تتمثل في تيسير التدفق الحر للمعلومات والأفكار، وخاصةً الأخبار.
ولكن فيسبوك، في المقابل، أصبح يعطي المستخدمين نظرة متلاعبة شديدة الخطورة للحقيقة التي يعرفها العالم، في يناير/ كانون الثاني 2012، على سبيل المثال، قام فيسبوك بالتلاعب، عمدًا، بصفحات ما يربو عن 700 ألف مستخدم فيسبوك، وذلك للتأثير في مشاعرهم وردود أفعالهم والتلاعب بها، إما إيجابيًا أو سلبيًا، ودراسة موقفهم من هذا التلاعب، تعتبر هذه المحاولة، التي استهدفت مشاعر الناس بشكل أساسي غير أخلاقية، خاصةً في زمن أصبحت فيه المشاكل النفسية المتفشية متجاهلة من قبل المجتمع وخاصةً المجتمع الطبي.
بالإضافة إلى ذلك، عمد الفيسبوك إلى تغيير الطريقة التي نحصل بها على الأخبار السياسية، أطلقت صحيفة وول ستريت، في منطلق هذه الصائفة، مشروع “بلو فيد، راد فيد”، الذي يمكن مستخدمي الفيسبوك من قراءة الأخبار على حسب انتمائهم السياسي والحزبي، بطريقة تجعلهم يتلقون أخبارًا مختلفة، وهو ما ساهم في خلق “فجوة” بين أبناء حزب المحافظين والحزب الليبرالي، ساهم التلاعب الذي نفذه الفيسبوك بهذا المشروع في زيادة الاستقطاب السياسي، بدلًا من إعلام الناخبين والمساهمة في تعزيز الديمقراطية.
أصبحت سياسة الفيسبوك التي تهدف إلى مراقبة تاريخنا واضحة أمامنا كما أن لهذه الشركة القدرة على نشر نسخ مزورة عنه، أظهرت الخوارزمية الجديدة “المواضيع الشائعة” قصة تقول أن انفجار البرجين في 11 سبتمبر/ أيلول كانت بسبب قنابل مزروعة، ماذا سيقرر الفيسبوك وخوارزمياته بعد ذلك؟
يعتبر من السهل أن يقوم الفيسبوك بفرض مراقبة على الصور، كالتي التقطت ملامح وحالة الطفل السوري عمران دقنيش في سيارة الإسعاف، ولكن لا ننسى أن هذه الصور ساعدتنا في التفطن لحقيقة ما يربو عن 500 ألف ضحية من الشعب السوري، في ذات الوقت، ما كان سيكون الوضع لو قام الفيسبوك بحظر الفيديو الذي صور مشاهد قتل فيلاندو كاستيل من قبل الشرطة؟ ساهم هذا الفيديو في جلب شهود على هذا الحادث المروع وفي زيادة معرفتنا الجماعية بخصوص العلاقات العرقية ووحشية أعوان الشرطة.
يجب علينا إرسال الفيسبوك للمساءلة، كما فعل رئيس الوزراء النرويجي وأكبر صحيفة في البلد بشأن صورة حرب الفيتنام، إذا أردنا أن نقول إن شركات النفط العملاقة تمتلك التزامًا أخلاقيًا بالمساعدة في مكافحة تغير المناخ وإن ماركات الملابس العالمية تمتلك التزامًا أخلاقيًا بضمان ألا تكون منتجاتهم مصنوعة في المصانع المستغلة للعمال، سيتوجب على شركة فيسبوك، التي تعمل في نشر المعلومات، الاعتراف بمسؤوليتها للمساهمة في تعزيز هذه المهمة، لا التلاعب بها.
تكون الخوارزميات عادةً مسؤولة عن المحتوى الذي يظهر لنا على الفيسبوك والذي لا نراه أيضًا، لذلك يحتاج المستخدمون إلى إدراك حقيقة أن المعلومات الموجودة على حساباتهم ليست كلها موثوقة وأنهم غير قادرين على تصديقها، يجب على مستخدمي الفيسبوك أيضًا تعلم كيفية التفرقة بين الأخبار الصحيحة والمغلوطة، علينا تعليم أبنائنا هذه المهارات لكي يتمكنوا من تمييز المعلومات ومصادرها عن طريق التثبت من المعلومة التي يتلقونها وكيفية الحصول عليها، يمكن دمج هذه المهارة الإعلامية في المناهج الدراسية وفي المعاهد، لأن هذا سيمكنهم أيضًا من تعلم التعمق في البحث للتعرف على خفايا القصص التي تروي ما شاهدوه في الصور أو أشرطة الفيديو.
لم تدمر الحرب روح كيم، على الرغم من الضرر الجسدي والنفسي الذي لحقها من جرائها، وشجعتها لأن تكون ناشطة تدافع عن السلام العالمي، تجوب كيم اليوم العالم في إطار عملها كسفيرة للنوايا الحسنة، تابعة لمنظمة اليونسكو، ذكرت كيم أن هذه الصورة كانت “بمثابة الهدية بالنسبة لها، لأنها تمكنت من استغلالها لأجل السلام”.
وأضافت أنها بدأت في العمل في مؤسسة كيم الدولية، التي تساعد على تضميد الجروح الجسدية والنفسية التي يعاني منها الأطفال، ضحايا الحرب، تسافر كيم لرؤية العديد من هؤلاء الضحايا الأبرياء بهدف إعادة الأمل إلى حياتهم، ولو قليلًا، أكدت كيم أن الطريقة المثلى للتعلم تتمثل في سماع تجارب الغير والتعرف إليها إذا تمكنا من ذلك، وأن ابتعادنا عن القصص والصور والأخبار سيساهم في إيقاعنا في خطر نسيان التاريخ وإعادة ممارسة نفس الجرائم مرة أخرى، الشيء الذي سيؤدي بديمقراطيتنا إلى الانهيار.