خلف الأخبار واللقطات التي تغطي أنباء التقدم في المعارك بين الأطراف المتورطة في الحروب، وأخبار القصف والقتل والتهجير والتعذيب للمواطنين، تتوارى مشاهد أخرى لا تقل دموية وبشاعة عن صور القتلى في الحروب، ووسط هذه الحروب وأصوات المدفعية والضربات الجوية التي لا تتوقف، هناك أصوات أخرى تهز السماء ،هي صرخات العنف الجنسي ضد الفتيات والسيدات بالدولة المهزومة، أو بالجانب الأضعف من الحرب والصراع، بعد أن أصبحت أجساد النساء جزءًا من الصراعات بين المتحاربين، وتم استبدال أعمال السلب والنهب التي كانت تميز الحروب والنزاعات في قرون سابقة، بالاعتداء الجنسي واغتصاب النساء والفتيات، والبغاء القسري والاتجار بالبشر – خاصة النساء والأطفال – في الحروب الحالية.
العنف الجنسي في الحروب مشكلة متكررة ضحيتها المرأة
العنف الجنسي وإذلال المهزومين
تاريخيا استخدم العنف الجنسي كسلاح حرب في كل الصراعات الكبيرة في عصرنا، بداية من الحرب العالمية الأولى ثم النزاعات البينية في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي، وصولا للحرب العالمية الثانية ثم البوسنة، ورواندا، والكونغو وأفريقيا الوسطى وساحل العاج ومالي، وكولومبيا، والسودان، والشيشان، ونيبال وأفغانستان، والآن سوريا والعراق.
واستخدم العنف الجنسي “الاغتصاب” دائما كتكتيك عسكري متعمد لتحقيق أهداف سياسية، بينها إذلال المعارضين السياسيين، أو لدفع الأقليات العرقية على الخضوع أو المغادرة، أو لترهيب المجتمع وحمله على الإذعان، وفي بعض الصراعات يكون اللجوء للاغتصاب لنقل مرض الإيدز للنساء، أو لإيذائهن بدرجة كبيرة تفقدهن القدرة على الحمل، وبالتالي فإنه من الخطأ الاعتقاد أن هذه الاعتداءات هي مجرد إشباع لحاجات الجنود الجنسية.
ففي كولومبيا مثلا تم اغتصاب وتشويه وقتل الفتيات والنساء في قرى بأكملها، كوسيلة عقابية لتلك الجماعات وفرضًا لسيطرة القوى المنتصرة على تلك المناطق، بينما استخدمت قبائل الجنجويد – بجنوب السودان – الاغتصاب الجماعي لإذلال الجماعات غير العربية في المناطق التي خضعت لسيطرتها بعد عدة نزاعات مسلحة.
جرائم الصرب
واستخدم الاغتصاب كذلك كأداة للتطهير العرقي و”الإبادة” مثل البوسنة والهرسك، بعد سقوط يوغوسلافيا، واتخاذ البوسنة والهرسك قرارًا بالاستقلال، وكان هذا القرار إيذانًا باندلاع حرب مروعة استمرت لأربع سنوات لاحقة، وفي هذه الحرب، لقي 312 ألف شخص مصرعهم، 83% منهم من المدنيين البوشناق، واضطر مليونان من الناس للهجرة، وفقدوا ديارهم، وتم اغتصاب عشرات الآلاف من النساء بشكل ممنهج.
وبين عامي 1992 و 1995، تم استهداف النساء المسلمات بالاغتصاب بأرقام تراوحت بين 20 ألف إلى 50 ألف امرأة مغتصبة على يد الجنود الصرب، في مختلف مراكز الاحتجاز، التي تعرض فيها النساء للاغتصاب بصورة متكررة، ويعد منزل كرمان Karaman’s house “
” أحد أشهر هذه المراكز، ففي هذا المنزل يحتفظ بالفتيات للاغتصاب بشكل مستمر، فالجنود الصرب ورجال الشرطة يأتون لمراكز الاعتقال هذه، ويختار كل منهم واحدة أو اثنين من النساء، ويأخذها ويغتصبها، وتم كل ذلك على مرأى ومسمع من السلطات المحلية الصربية، حتى أن مقولة انتشرت بعد ذلك في نهاية التسعينيات بين النساء البوسنيات تقول ” يا بُنيتي ارحلي إلى كرواتيا، واسألي كل رجل: هل أنت أبي؟! ” كناية عن عدد عمليات الاغتصاب الوحشية التي تعرضت لها الفتيات خلال تلك الفترة.
وهو نفس التكتيك الذي استخدمته القوات الباكستانية المدعومة من الدولة في معارك استقلال بنجلاديش عام 1971.
نساء المتعة
وفي اليابان وخلال الحرب العالمية الثانية بدأ يظهر للعيان مصطلح “نساء المتعة”، وهي صيغة تلطيفية للنساء اللواتي عملن لصالح الجيش الياباني في الحرب العالمية الثانية في اليابان، وكوريا، والصين، والفلبين وغيرها من البلدان الواقعة تحت الاحتلال الياباني.
نساء المتعة الذين تم إستغلالهم من قبل الجيش الياباني
ويقدر المؤرخون أعداد نساء المتعة بحوالي 200 ألف من النساء الشابات، حيث تم توظيفهم لخدمة رغبات الجيش الياباني، معظمهن من كوريا، والصين والفلبين، وتايوان، وتايلند، وفتنام، وسنغافورة واندونيسيا.
لم تتوقف اليابان عند هذا الحد بل نفذت أثناء الحرب العالمية الثانية مجزرة بحق الصينيين بعد دخول القوات اليابانية إلى مدينة نانجنج الصينية ، وبدأت عملية تصفية للجنود الصينيين المختبئين في المدينة، وكانت الحصيلة الأولى اغتصاب 20,000 امرأة من الفتيات أو النساء أو العجائز ، وشرع البعض من الجنود اليابانين بتشويه جسم الفتاة بعد اغتصابها ثم قتلها بوضع حربة أو عصاة خيزران في الأماكن الحساسة من جسمها.
مأساة ألمانيا
ربما كانت فترة الحرب العالمية الثانية فترة انتشار فكرة الاغتصاب للنساء أسرى أو غنائم الحرب، فبعد سقوط الرايخ الثالث في ألمانيا، مارست القوات الأمريكية والسوفيتية عمليات اغتصاب ممنهجة للنساء الألمانيات، وفي فيينا عاصمة النمسا وحدها تم اغتصاب أكثر من 100 ألف امرأة، ووفقًا لاستجواب حدث في الكونجرس الأمريكي يوليو 1945 اعترف الجنرال، آيزنهاور القائد العام لقوات الحلفاء في أوروبا وشمال أفريقيا، أنه عندما دخلت القوات الفرنسية – والتي كان بعضها من الأفارقة- والقوات الأمريكية مدينة شتوتجارت الألمانية ساقوا النساء إلى أنفاق المترو، وتم اغتصابهن جميعًا مرات عديدة، ثم جرى إعدامهن وقد قدر عددهن بنحو ألفي امرأة.
وفي عام 1945 وصلت القوات السوفيتية، إلى مشارف مدينة برلين، وكان عدد سكانها 2,700,000 منهن 1,000,000 من النساء، فانتشر الخوف عبر المدينة وهرعن إلى الأطباء، لكي يقدموا لهن أسرع طريقة للانتحار، ونفذ السم في برلين وأصبح سلعة نادرة تتهافت عليها النساء.
وفي مدينة دانزنج التي اجتاحتها القوات السوفيتية، تم احتجاز جميع نساء المدينة في الكاتدرائية، ثم دخل عليهن الجيش الأحمر واغتصبهن جميعًا، حتى أن بعض الناجيات تحدثن أنهن تم اغتصابهن أكثر من 30 مرة.
وفي مدينة نيسي بمقاطعة سيليسيا تم اغتصاب 182 من الراهبات الكاثوليك، وعندما حاولت بعض الراهبات الدفاع عن أنفسهن تم إطلاق النار عليهن، حتى أحصى ما يزيد على 30 طلقة في أجسادهن.
عسكر الأرجنتين
خلال فترة الحكم العسكري في الأرجنتين ما بين عامي 1976-1983، تم توثيق اختفاء حوالي 30 ألف شخص، ثلثهم من النساء والسيدات، اللاتي تم اختطافهم قسرًا من كافة الشرائح العمرية، خصوصًا الشابات بدعوى القيام بأعمال إرهابية، وتم اغتصابهن داخل أماكن الاحتجاز ومعسكرات الاعتقال السرية.
الاغتصاب، والتحرش، والعنف الجنسي في السجون والمعتقلات السورية انتهاك واضح للمرأة السورية
جحيم السوريات
وفي العصر الحالي وتحديدا في الألفية الجديدة بدأت هذه المصطلحات في الظهور في الوطن العربي، فبدأت بالعراق بعد الاحتلال الأمريكي في 2003، خصوصا مع فضيحة سجن أبو غريب، والآن صارت من الممارسات التلقائية لتنظيم داعش الوحشي الإرهابي منذ دخوله الموصل وشمال العراق، وهي من العمليات الممنهجة التي مارستها قردة التنظيم ضد الإيزيديات، والتي أثارت تعاطفا دوليا وتنديدا ضد جرائم التنظيم، حتى أن الولايات المتحدة جعلت اغتصاب الإيزيديات، إحدى الأسباب التي دفعتها لتشكيل تحالف عالمي لدحر تنظيم داعش، ووقف انتهاكاته ضد المواطنين والنساء.
وفي سوريا مارس كل من النظام والمعارضة المسلحة الأساليب القذرة تجاه بعضهم البعض، وصار الاغتصاب، والتحرش، والعنف الجنسي في السجون والمعتقلات، والتعذيب في أماكن الاحتجاز غير النظامية والتزويج القسري، كلها أشكال للعنف الجنسي الذي تعرضت له المرأة السورية منذ اندلاع الثورة 2011 .
وفي بداية الثورة شكلت ظاهرة الاغتصاب أو العنف الجنسي أهم أدوات السياسة العقابية للنظام السوري على نطاق واسع وممنهج بحق الضحايا من المعتقلين والمعتقلات، وشملت الأساليب المتبعة عوامل شبه مشتركة بين جميع الأفرع الأمنية والعسكرية النظامية منها وغير النظامية، كتجريد الضحية من الملابس بقصد الاغتصاب أو التحرش، وقد تم توثيق أكثر من 12 ألف حالة اغتصاب حتى منتصف 2016 من الطرفين.