في ظل الأخبار اليومية عن سيول الديون التي تجتاح مصر في الآونة الأخيرة، والتي جعلت البلاد شبه غارقة في الديون سواء الداخلية أو الخارجية، تذكرت قول الرسول – صلى الله عليه وسلم – “إن فلانًا مأسورٌ بدينه عن الجنة فإن شئتم فافدوه وإن شئتم اسلموه إلى عذاب الله”، هكذا رأيت وضع الاقتصاد المصري، فهو مأسور بالديون عن الانتعاش الاقتصادي وعن التحسن ولو قليل، مأسور ولا يجد من ينقذه من هذه الدوامة المخيفة، بل إن دور الحكومة بات مقصورًا على تيسير مزيد من الديون، حتى أصبحت القروض موضع تفاخر وليس خزي وحزن.
هناك مثل شعبي شهير يقول “يوم السداد عيد” لكن الحكومة المصرية فهمت هذا المثل بشكل خاطئ، حيث إنها تطبق مثل جديد يقول “يوم الاقتراض عيد”، فبحسب وزير التخطيط أشرف العربي، الذي قال محتفلاً إن مصر أصبحت على الطريق الصحيح بعد الاتفاق مع البعثة الفنية لصندوق النقد الدولي الذى بمقتضاه تحصل مصر على 21 مليار دولار خلال الـ 18 شهرًا القادمة.
وأضاف العربي، في تصريحات صحفية، أن الاتفاق تضمن حصول مصر على 12 مليار دولار من صندوق النقد الدولي و9 مليارات من البنك الدولي والمؤسسات المالية الدولية، موضحًا، أن الاقتصاد المصري في حاجة إلى هذه الأموال لاستعادة قوته، وهو ما يؤكد أن مصر تسير حاليًا في الطريق الاقتصادي الصحيح.
لا أعرف كيف برهن الوزير على أن الاقتصاد المصري يسير في الطريق الصحيح من خلال الاتفاق على جملة هذه القروض، التي اعترف الغرب والشرق أنها عبء كبير على الاقتصاد المصري، لكن ربما يقصد الوزير أنها ستساعد البلاد على المرور من الأزمة الاقتصادية الحالية! للأسف حديث الوزير لم ينته عند هذا الحد الذي قد يجعلنا نفرض أنه يقصد أن دور القروض عامل مساعد وليست هي كل شيء، حيث أشار إلى أنه بعد ضخ نحو 21 مليار دولار في خزينة الدولة المصرية خلال الـ18 شهر القادمة؛ سيتحسن المستوى الائتماني لمصر، وسيتحسن الاقتصاد، ووقتها لن يكون هناك مضاربة في العملات التي يشهدها السوق المصري حاليًا، بالطبع نسي الوزير أن كل هذا يتوقف على العمل وعودة الاقتصاد إلى الإنتاج، فالديون وحدها آفة ستأكل الاقتصاد المصري بدون إنتاج.
وزير المالية عمرو الجارحي، كان أيضًا له حديث قبل تصريحات العربي تدور حول الديون، حيث أشار إلى ارتفاع ديون الحكومة إلى أكثر من 100% من الناتج المحلي الإجمالي، وقال إن قرض صندوق النقد الدولي المقدر بنحو 12 مليار دولار يحتاج إلى قروض من مصادر أخرى تتراوح بين 5 و6 مليارات دولار.
حديث الجارحي كشف عن حجم الأزمة التي تعشيها البلاد، فهي تقترض لتسهيل الحصول على مزيد من القروض، وهو الأمر الذي أصبح في غاية الخطورة، ولن أقول إنه يهدد بإفلاس مصر كما يروج البعض، ولكن هو عبء كبير جدًا ستتحمله الأجيال القادمة، حيث إن مصر تمر بأزمات اقتصادية متعددة، ولعل دعم دول الخليج أهم ما جعل الاقتصاد يتماسك حتى الآن.
الدعم الخليجي المجاني لم يعد موجودًا، لذا يجب على الحكومة أن تبحث عن طرق أخرى لعلاج الأزمات الاقتصادية، فالدين الخارجي ارتفع إلى 54 مليار دولار، وخلال 18 شهرًا
لن نسرد جملة القروض التي تتفاوض عليها الحكومة سواء القديمة أو الجديدة كالذي أعلنه وزير المالية المصري، عمرو الجارحي، من مفاوضات تجريها بلاده مع السعودية للحصول منها على تمويل تتراوح قيمته ما بين 2 و3 مليارات دولار، ولكن يجب أن نعلم أن الدعم الخليجي المجاني لم يعد موجودًا، لذا يجب على الحكومة أن تبحث عن طرق أخرى لعلاج الأزمات الاقتصادية، فالدين الخارجي ارتفع إلى 54 مليار دولار، وخلال 18 شهرًا سيقترب من 80 مليار دولار، فيما بلغ الدين الداخلي نحو 2.49 تريليون جنيه بنهاية مارس 2016.
الاقتصاد المصري يعاني من انتكاسة إصابة الدواعم الأساسية للاقتصاد سواء الصناعة أو الزراعة أو السياحة، وذلك في ظل حالة التدهور وعدم الاستقرار التي يعيش فيها الاقتصاد وسط تخبط إداري غير مسبوق، كل هذه المشاكل تصر الحكومة على مواجهتها من خلال الديون فقط.
الأزمة تكمن في أن سياسة الديون التي تتبعها الحكومة خلال العامين الماضيين، هي مجرد مسكنات لن تلبس أن تصبح آفات قاتلة للأجيال القادمة التي ستتحمل الفاتورة باهظة، لأن هذه القروض لا تذهب إلى المشاريع الإنتاجية التي تساعد على تعافي الاقتصاد، بل تتجه إلى سد عجز الميزانية العامة للدولة.
وللعلم فالاقتراض من المنظور الاقتصادي ليس وحشًا مفترسًا كما يتصور البعض، ولكنه في الأساس فرصه جديدة ومنحة للحصول على الأفضل في المستقبل ولكن بشرط الإجابة على سؤال “لماذا نقترض”؟! فإذا كنا نقترض من أجل دعم عجلة الإنتاج والتنمية وتشغيل الشباب وإنشاء المشروعات الصناعية وتطوير البنية التحتية والعمل على مستقبل أفضل للأجيال القادمة، فستكون نتائج الاقتراض إيجابية، حيث إن عوائد القروض ستكون أعلى كثيرًا من سعر الفائدة الذي قد ندفعه.
ولكن إذا كنا نقترض من أجل سد عجز الحكومة وتغطية فشلها في إعادة موارد البلاد إلى ماضيها على الأقل، ومن أجل تغطية فاتورة الاستيراد، وتحسين صورة الحكومة وفقط، دون أي عائد يذكر على المواطن المصري المنوط به سداد هذه القروض فإن هذه السياسة سيدفع المصريون ثمنها باهظًا.
عمومًا فإن منحنى الديون في “جمهورية الديون المصرية” وصل إلى مرحلة خطيرة، حيث بلغت تقديرات إجمالي فوائد خدمة الدين العام المطلوب سدادها عن القروض المحلية والأجنبية في الموازنة العامة للدولة للعام المالي 2016 / 2017 نحو 292.520 مليار جنيه، أي ما يقدر بـ 9% من الناتج المحلي الإجمالي مقابل 244.044 مليار جنيه بموزانة العامة الماضي، بزيادة قدرها 19.9%، وهذه الأرقام قبل إضافة مجموعة القروض التي تتفاوض عليها الحكومة حاليًا.
من ناحية أخرى تعتبر الديون الخارجية من أخطر القضايا التي تواجهها الدول النامية كمصر والتي تقف في طريق سعيها نحو تحقيق التنمية والخروج من بوتقة التخلف الاقتصادي والاجتماعي والسياسي واللحاق بركب الدول المتقدمة، فهي تضع البلاد في دائرة مغلقة تقترض لتنتج ثم تنتج لسد فوائد القروض فتفشل، ثم تلجأ للاقتراض مرة أخرى، فيما تعتبر هذه المشكلة المالية سببًا في تغيير العلاقات وتوجيهها وفق ما تمليه المصلحة العامة للدول الدائنة.
أخيرًا، إذ لم تنجح مصر في التحرر من أسر هذه الديون، فإنها ستظل في موقف التابع والخادم لأعباء هذا الدين وفوائده، حيث إن الفوائد المدفوعة على هذه القروض تستنزف اقتصاد البلاد وتجعلها خادمة للدول المقرضة، وكل من يتحدث عن نهضة اقتصادية معتمدة على هذه الديون، بالتأكيد لا يتكلم عن الواقع بل يغرد بعيدًا عما تعيشه مصر.