هل قابلت من قبل مشهد الموظفين وهم مستغرقين في النوم على مكاتبهم، في بداية دوام العمل في الصباح الباكر، حيث يتنافس المديرون على تبكير مواعيد الدوام قدر الإمكان، فهناك من يبدأ في تمام الثامنة، وهناك من يبدأ في الثامنة والنصف، وآخر من يظن نفسه متأخرًا في تنظيم مواعيد الدوام، فيبدأ في تمام التاسعة، ولأن العالم الذي نعيش فيه أصبح أكثر مدنية وحضارة عن ذي قبل، فليس بالضروري أن يقطن المرء سكنًا يقترب من موقع عمله، وهو ما يحتم على أغلب الموظفين الاستيقاظ ساعتين أبكر على الأقل قبل بداية الدوام.
بدأت ثقافة عمل الثماني ساعات منذ التاسعة صباحًا وحتى الخامسة مساءً مع الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر، وهو النظام الذي طبقه أصحاب المصانع في ذلك الوقت، من أجل المزيد من الإنتاجية، والزيادة في الكميات المنتجة، وهو ما كان له أثره البالغ بالفعل على الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في بدايات القرن التاسع عشر.
استمر العالم على هذا النظام الروتيني ليس لعقود فحسب بل لقرون، وعلى الرغم من بعض اعتراضات العاملين به بأنه نظام مرهق للجسد وللصحة النفسية كذلك، إلا أنه استمر بنفس الوتيرة، مع بعض من التعديلات التي أضافتها بعض الشركات، مثل فترة العمل الليلية، ومن ثم إضافة ساعة الراحة في منتصف الدوام إلى آخره، إلا أن أغلبية موظفي العالم اليوم، يعملون طبقًا لدوام عمل الثماني ساعات، من التاسعة في الصباح وحتى الخامسة وأحيانًا السادسة مساءً.
أثبتت دراسات حدثية أن نظام العمل في تلك الأوقات هو صورة من صور التعذيب النفسي والجسدي للإنسان، حيث أثبتت بالتجارب البحثية أنه لا يستطيع طفل في سن العاشرة أن يقوم بالتركيز العقلي الكامل قبل الساعة الثامنة والنصف في الصباح، أما في حالة طالب في سن السادسة عشر، فلا يعمل عقله بإمكانياته الطبيعية إلا بعد مرور الساعة العاشرة في الصباح، أما بالنسبة لطالب الجامعة، فالساعة الحادية عشر تبدو الساعة المثالية لكي يبدأ في التركيز ويبدأ عقله في الإنتاجية.
قام البروفيسور باول كيلي من جامعة أوكسفورد بتجربة ما سبق على طلاب في المرحلة الابتدائية، وقام بتأخير بداية الدوام الدراسي حتى الساعة العاشرة في الصباح بدلًا من الثامنة، ليجد أن تقييم العلامات في الاختبارات الشهرية ارتفع بنسبة 19% عن ذي قبل، ليجد أن قدرة الطلاب على التركيز من بعد العاشرة أفضل بكثير من كونها في الساعة الثامنة في الصباح، ليرى البروفيسور كيلي بأن هذا ما ينطبق بالنسبة لمديري العمل تجاه موظفيهم، فهم يقومون بالتأثير على إنتاجيتهم اليومية بإجبارهم على العمل في ساعات مبكرة من النهار.
“نحن مجتمع يعاني من حرمان من النوم”
يرى كيلي بأننا مجتمع محروم من النوم، حيث لا يستطيع عقل الإنسان التركيز والإنتاج من الساعة التاسعة في الصباح إلا من بعد عمر الخامسة والخمسين، لذا فعمليًا، نحن نقوم بتعذيب أجيال متتابعة من الموظفين منذ بداية انخراطهم في مجال العمل وحتى تقاعدهم، بإجبارهم يوميًا على العمل في أوقات لا يستطيع عقلهم التركيز فيها.
“هذا لا يدمر صحتنا فقط، بل يدمر الصحة النفسية والعاطفية للإنسان، الكل يعاني من ذلك، رغن أنهم ليسوا مجبورين عليه”
تثبت الدراسة أن لهذا علاقة وطيدة بزيادة معدل الإجازات المرضية التي يقتطعها الموظفون من أيام دوامهم الشهري، بالإضافة إلى صلته الوثيقة بإنفاق البلايين من الدولارات حول العالم على شراء القهوة في الصباح، فكان نصيب الأمريكان من ذلك 40 بليون دولار مهدرة على شراء القهوة الصباحية، والتي تكون بمعدل من 3 أكواب تقريبًا للشخص الواحد يوميًا.
هذا لا ينطبق فقط على مكاتب العمل أو المدارس والجامعات، بل ينطبق كذلك على السجون والمستشفيات، فهم يعمدون إلى إيقاظ الجميع في ميعاد مبكر للغاية، وإطعامهم وجبات صباحية لا يحبون أن يتناولوها، فهذا يعد أيضًا نوعًا من أنواع الحرمان من النوم، والحرمان من النوم لا يمكن وصفه إلا بأنه صورة من صور التعذيب للبشرية.
يؤثر النوم لأقل من 6 ساعات يوميًا على الصحة الجسدية والنفسية للإنسان، كما تم إثبات أن قلة النوم تؤثر على عمل الجينات الخاصة بالإنسان، وهو ما يسبب المرض المفاجئ في كثير من الأحيان، كما تؤثر قلة النوم على التركيز والانتباه، وتسبب ضعفًا في الذاكرة على المدى الطويل، كما تشجع على استخدام المخدرات والإفراط في شرب الكحوليات، كما تحفز قلة النوم على الغضب السريع، والإصابة بالقلق المستمر، والتوتر، وتحوّل سلوك الإنسان مع الآخرين من الهادئ إلى العدواني، كما من الممكن أن يتطور الأمر إلى زيادة مفرطة في الوزن، ومن ثم إلى الضغط العصبي، وأحيانًا إلى أمراض عقلية.
“يمكنك بتأخير الدوام لساعتين فقط أن تحافظ على الصحة العقلية والنفسية لأجيال كاملة”
على الرغم من أن الحرمان من النوم مشكلة خطيرة تواجه العالم كله الآن، إلا أن الفرصة مازلت بأيدينا، فيمكننا وقف المشاكل المجتمعية الناتجة عن الحرمان من النوم، وهو ما سيؤثر بالإيجاب على سلوكياتنا الحياتية، وهي الفرصة التي سيستفيد منها ملايين البشر حول العالم.