العراق وحروب التقسيم القادمة

ليس بإمكان أحد الجزم بأن العراق باقٍ على وضعه كدولة موحدة، تضم كل أطياف الشعب العراقي، فمعظم المؤشرات تشير إلى أن مستقبل هذا البلد وللأسف الشديد هو التقسيم إلى ثلاث دول على أساس طائفي وقومي بعد أن ظل متماسكا منذ عام 1920 . فساسة عراق ما بعد صدام حسين فشلوا فشلاً ذريعاً في إنشاء الدولة الوطنية التي تذوب فيها كل القوميات لصالح أمة عراقية واحدة، إن السياسات الطائفية والفئوية مازالت تنخر جسد العراق محاولةً تقسيمه لثلاث اجزاء،
جزء شيعي يلقى كل الدعم من الحكومة وإيران، وجزء سني مبتلى بتنظيم عنيف ودموي دمر البنى التحتية لمناطقه كما أنه مهمش بل ومبعد عن المشاركة في عملية صنع القرار السياسي تحت يافطة “الديمقراطية” التي منحت الأغلبية المزعومة التحكم بمصير البلد برمته، وجزء كردي له مشروعه القومي الاستراتيجي في بناء دولته الكردية المنشودة و لايخفون مشروعهم ويصرحون فيه علنا وعلى مختلف الصعد.
بارزاني قال بصريح العبارة أن المنطقة تتغير وأن حدود كردستان تتشكل من جديد و”سترسم بالدم”.
هذه الأجزاء الثلاث في المشهد السياسي العراقي دليل واضح على أن حكام العراق متأسلمين وعلمانيين فشلوا فشلاً ذريعاً في تحقيق وحدة العراق.
امام العراقيين ثلاثة خيارات: إما الاستمرار في حالة الاقتتال والصراع المسلح ذو الصبغة المذهبية و القومية والذي سيؤدي في نهاية المطاف الى “الحرب الطائفية”، أو التقسيم السيادي الكامل، أو التقسيم الإداري الفيدرالي الإيجابي. كل المؤشرات تشير الى أن العراق بكافة قومياته يتجه لحرب أهلية تجر البلاد لمستقبل مظلم، لعنة الحرب لن تصيب السنة والشيعة فقط، بل ستضرب جميع مكونات هذا البلد الذي يئن من حربه المستعرة منذ اعوام، قد نشهد حرباً بين جماعات الشيعة والسنة، والكرد قد يدخلون طرفا فيها وضمن مساحات جغرافية محددة، لأنهم حرروا بالدم مناطق شاسعة من ديالى ونينوى وصلاح الدين وكركوك، وهم غير مستعدين لتسليمها لحكومة بغداد المحسوبة على الشيعة.
في الانبار والتي كانت كبريات مدنها كالفلوجة والرمادي، مثالاً لتمدد تنظيم الدولة، يدور نوع آخر من الصراعات والتجاذبات، تصفية الحسابات بين الاطراف المتصارعة بدت واضحة، فالعشائر السنية عقدت العزم على تنقية أفرادها ومحاسبة مراهقيها الذين ساندوا مسلحي “الخلافة الداعشية”، لكنها تدرك أن عليها مجابهة تمدد من نوع آخر، إنه تمدد “حماة الاعراض”، الحشد المقدس ومن خلفه إيران “الشيعوإسلامية”، شكل هذا التمدد قائمٌ على التحرير ثم التدمير ولك أن تشاهد ما تلتقطه كاميرات هواتف “تيجان الرؤوس” و هي تنقل مشاهد التفجير والتكبير، هم لم يكتفوا بتدمير تلك المدن التي دخلوها بعد ان قصفوها بصواريخ “نمر النمر” و “صاحب الزمان” بل عمدوا الى تدمير حتى شوراعها.
و بيجي والرمادي مدينتي “الاطلال و الركام” كما تصفهما الصحافة الامريكية، خير شاهد، ناهيك عن الاعدامات و الخطف والاختفاء القسري لـ الالاف من ابنائها و ابناء أخواتهما من المدن في الانبار وصلاح الدين وديالى و كركوك ونينوى.
لا أريد أن استعرض ما ليس بجديد، فالكل يعرف ما حدث و كيف حدث، ما اريده هو كتابة تصوراتي لمستقبل العراق “المنتهي عمليا الباقي نظرياً” والذي يسير على سكة الحرب الاهلية. عشرات الآلاف من المقاتلين المذهبيين غير النظاميين يشكلون ميليشيات مسلحة وقوية لدرجة أن قادتها يعطون الاوامر بالعمليات العسكرية وحظر التجوال والاستعراضات العسكرية الضخمة، فضلا عن قرارات عودة النازحين لمناطقهم. تلك الميليشيات ليست راية واحدة، بل عشرات “الرايات المنتقمة” والمسلحة والمدربة إيرانياً، ولا تخضع لسلطة الحكومة التي بدت أكثر ذوبانا بالصراعات خصوصا بعد دخولها بدوامة سحب الثقة عن وزير الدفاع خالد العبيدي، والتي نجم عنها صراعٌ سياسيٌ عميق، حتى أن رئيس الوزراء حيدر العبادي عجز عن تكوين أي توافق إستراتيجي حول الاصلاح خصوصا في الوزارات الامنية المهمة،
فوحدات الجيش أصبحت مستقلة ولها أجندات خاصة بها، وبالتالي فإن قوات التحالف خاصة أميركا أصبحت تعتمد على كيانات أو وحدات مستقلة في قتال الموصل، مثل الأكراد أو العشائر السنية التي اتجهت لتسليحهما بشكل متصاعد، والنتيجة هي جيش ضعيف وشرطة هزيلة وحشد شيعي قوي و عشائر سنية مفجوعة و تنتظر التسليح وبيشمركة مسلحة وشبه نظامية.
إن الصراعات المسلحة المتنقلة عبر مناطق العراق تؤكد الضرر البالغ الذي لحق بوحدة المجتمع العراقي شديد التنوّع، وهو ضرر يتجّه نحو بلوغ درجة الانفجار بفعل ما هو قائم من فوضى السلاح، وكثرة الأجسام شبه عسكرية وغير النظامية، فضلا عن وفرة عوامل التوتر من عداء طائفي وعرقي ومن تدخلات إقليمية تترجم حجم المطامع في العراق الضعيف. إذ يعتبر المهتمون بالشأن العراقي أنّ شبح الحرب الطائفية والعرقية أمراً متوقعاً ومؤشرٌ خطرٌ على صراع مذهبي عرقي تغذيه المطامع الإقليمية، وقد يكون عنوان مرحلة ما بعد الحرب على داعش في العراق بما أفرزته من تغوّل قوات غير نظامية منفلتة من رقابة الدولة، في مقابل تراجع مكانة القوات المسلّحة العراقية وسقوط هيبتها.
أن الحرب المستقبلية المبنية على أسس طائفية وعرقية في بعض مدن العراق المتنوعة عرقيا وطائفيا في مرحلة ما بعد داعش باتت تلوح بالافق، والذي ساعد على ذلك الوهن الذي قد يؤدي إلى تمزيق العراق والعملية السياسية القائمة على المحاصصة الحزبية والعرقية والطائفية، وما السجال حول معركة الموصل إلا مؤشرٌ على أنّ الحرب على داعش في العراق قد لن تكون المرحلة النهائية في الصراعات المسلّحة بالعراق، بل ربما تكون مقدمة لحروب أهلية مركبة ذات طابع قومي وطائفي كل هذه المعطيات تقودنا الى نتيجة مفادها ان الحرب ضد “داعش” هي حرب صغيرة ستسبق الحرب الأهلية الكبرى، والتي ستكون أسوأ من مثيلاتها في لبنان وافغانستان.