ترجمة وتحرير نون بوست
سهّلت المنظمة الدولية للهجرة في السنوات القليلة الماضية، العودة الطوعية للآلاف من المهاجرين من ليبيا إلى بلدانهم الأصلية. حيث قدم كثير من هؤلاء المهاجرين أو معظمهم من جنوب صحراء أفريقيا الكبرى إلى أوروبا، لينتهي بهم المطاف في مراكز الاحتجاز الليبية.
وقد تمكنت المنظمة الدولية للهجرة، بعد اندلاع الحرب الأهلية في ليبيا، في فبراير/شباط 2011، من إعادة أكثر من 200 ألف مهاجر فروا من العنف الدائر في ليبيا، في إطار أكبر عمليات الإخلاء تعقيدا التي كانت تهدف إلى إعادة اللاجئين إلى أوطانهم.
وفي هذا السياق، يروي مهاجر من السينغال يدعى “لمين” إلى مستشارة المنظمة الدولية للهجرة، سيسيليا مان، قصة رحلته المؤلمة إلى أوروبا قائلا: “لقد حلمت بالذهاب إلى أوروبا منذ أن كنت أشاهد أفلاما عنها وأستمع إلى الأغاني التي تمجدها وأسمع حكايات من الأصدقاء وأفراد الأسرة الذين قد وصلوا إلى أرض الميعاد. لقد حلمت منذ ذلك الوقت ببناء حياتي هناك أنا وعائلتي وأنعم بالراحة والنجاح الذي لطالما طمحت في تحقيقهما”.
وأضاف: “اسمي لمين وأبلغ من العمر 24 سنة، قدمت من مدينة تامباكوندا، أكبر مدينة في شرق السنغال وأكبر منطقة في البلاد تحمل نفس الاسم. ولكني الآن أجلس هنا، في مطار ليوبولد سيدار–سنغور في داكار، بعد رحلة دامت 14 شهرا”.
وأشار أنه “بمجرد إكمالي تدريبي المهني في البناء، سرعان ما وجدت العمل، وبحلول شهر فبراير/ شباط من عام 2015، كنت قد تمكنت من توفير قرابة 800 ألف فرنك غرب أفريقي، أي ما يعادل 1400 دولار وذلك استعدادا لتحقيق هدفي والوصول إلى أوروبا”.
مضيفا: “ومفعما بالأمل، وضعت حقيبتي الصغيرة على كتفي، قبّلت أمي وودّعتها، واعدا إياها بإرسال المال إليها والبقاء على اتصال دائم معها. ورفقة خمسة من أصدقاء الطفولة، توجهت إلى المجهول وبالتحديد إلى مالي. حيث كانت رحلتنا إلى مالي سهلة وغير شاقة مما جعلنا نشعر بمزيد من التفاؤل والحماس. ومن ضمن العوامل التي ساعدت على تسهيل الوصول هناك هو إتباع القواعد البسيطة التي تتمثل في الامتثال لتعليمات نقاط التفتيش العشرين التابعة للشرطة والمسؤولة على الطريق المؤدي إلى بوركينا فاسو. حيث كان علينا، في كل نقطة تفتيش، دفع قرابة 5 آلاف فرنك غرب أفريقي أي ما يعادل 9 دولارات. أما إذا رفضت الدفع، ستتعرض للتفتيش ومصادرة جميع ممتلكاتك وأموالك، وإذا كنت محظوظا سيقومون بإرجاعك إلى بلادك فقط ، أما إذا كنت غير محظوظ، ستتعرض للسجن أو ما هو أسوأ منه. ولهذا فقد فضّلنا الامتثال للقواعد وقد استطعنا بذلك عبور الحدود إلى بوركينا فاسو، بعد سفر دام بضعة أيام فقط”.
وأوضح لمين أنه “عند وصولنا إلى بوركينا فاسو، قامت السلطات باعتقالنا وقاموا بوضعنا في مركز للاحتجاز مع مئات من مهاجرين آخرين. لم يقدموا لنا الطعام ولا الماء وكانت الروائح مقززة جدا في ذلك المكان. وفي اليوم الثاني، تعرض رجل غامبي، كنت قد تعرفت عليه في ذلك السجن، للضرب والاعتداء حتى الموت”.
ولهذا قرر لمين الهرب خوفا من مواجهة نفس ذلك المصير الذي لاقاه الرجل الغامبي. وفي تلك الليلة كانت الرياح قوية والأمطار تهطل بغزارة شديدة. وعلى الرغم من ذلك، وعلى الساعة الرابعة صباحا تقريبا، قام رفقة 10 أشخاص آخرين، بالهرب من النافدة والركض حتى ابتعدوا عن ذلك المكان.
ومن ثم مشوا قرابة 133 كيلومترا على الأقدام لدرجة أنهم أتلفوا أحذيتهم نتيجة طول المسافة التي قطعوها، حيث عبروا حدود بوركينا فاسو ليصل لمين إلى النيجر حافي الأقدام.
وقال لمين أنه “أثناء هذه الرحلة، أصيب اثنان من مجموعتنا بالهذيان بسبب التهاب أقدامهما وشعورهما بالعطش الشديد ولذلك كان علينا حملهما. فضلا عن أنه قد كلّفنا عبور الحدود نحو النيجر قرابة 130ألف فرنك غرب أفريقي، أي حوالي 225 دولار أمريكي، ولكن واجهتنا مشكلة في التواصل بسبب اختلاف اللغة مع السلطات في النيجر”.
وبمرور الوقت، استنزف لمين كل ما كان بحوزته من مال في الفترة التي قضاها في النيجر، ومع ذلك فقد تمكن من التواصل مع والدته ليطمئنها عن أحواله وإخبارها أنه سيرسل لها المال قريبا. وبالفعل تمكن لمين، لحسن الحظ، من العثور على عمل خلال إقامته لمدة ثلاثة أشهر في نيامي، فقد عمل لساعات طوال أعمالا مرهقة بأجر زهيد أي ما يعادل 4 ألاف أو 5 آلاف فرنك غرب أفريقي . كما وجد مرآبا استطاع اللجوء إليه ليلا للنوم، ليتمكن في الأخير من توفير 150 ألف فرنك غرب أفريقي (حوالي 260 دولار أمريكي)، ويتجه إلى الجزائر، حيث كان عليه العمل لبعض الوقت، قبل التوجه إلى ليبيا.
ولم تكن رحلة عبوره الجزائر بالأمر السهل، فعبور الصحراء ليلا ليس آمنا تماما، فعلى الساعة الثانية صباحا، أقلّتهم حافلة لمسافة 5 كيلومترات تقريبا، ولكن كان عليهم إكمال الطريق وعبور الحدود سيرا على الأقدام.
ثم قرروا الانقسام إلى مجموعتين، إحداهما استطاعت العبور بنجاح، ولكن المجموعة الثانية لم يحالفها الحظ، حيث تم القبض عليها من قبل شرطة الحدود وسرقتها وضربها وتركها في عرض الصحراء بين الحياة والموت.
كان يعاني أحد زملاء لمين في السفر من التهاب حاد في قدمه، وعند وصولهم الجزائر بات واضحا أنه كان غير قادر على مواصلة الطريق في اتجاه ليبيا. ولأوّل مرة في هذه الرحلة عاش لمين حركة نبيلة من رجل ينتمي لطائفة الطوارق، الذي وافق على إعادته إلى النيجر.
وعلم لمين أن بإمكانه الاتصال بالسفارة السنغالية في النيجر والعودة إلى أرض الوطن بالتعاون مع المنظمة الدولية للهجرة. ولكن ذلك لم يكن ضمن رغباته أو الخطة التي رسمها في مخيلته، حيث لم يبقى إلا القليل للوصول إلى أرض الأحلام.
وبين لمين أن ما عاشه في الجزائر لم يكن أفضل من الفترات التي قضاها في مدن أخرى، فقد تعرض للميز العنصري حتى عند اقتناء المياه للشرب في المحلات، وذلك فضلا على تعرضه للسرقة من أطفال مسلحين لم يتجاوز عمرهم 10 أو 11 سنة أو حتى من أشخاص من نفس لونه وعرقه.
كما تعرض لأكبر عمليات الاحتيال والسرقة في هذه البلاد، فعندما تمكن من العثور على عمل في موقع للبناء، طلب من رئيسه في العمل توفير كل راتبه حتى انتهاء عمله معه، وبعد شهرين كان يعتقد أنه يملك ما يكفي من المال لعبور الحدود إلى ليبيا، إلا أنه عندما طلب أجره، رفض رئيسه في العمل تقديمه إياه بتعلة أنه لا يدفع المال للسود، كما هدده بالاتصال بالسلطات وبترحيله فورا من البلاد.
ولحسن الحظ، تمكن لمين من العثور على موقع آخر للعمل في فترة وجيزة. وفي غضون شهر، كان يملك ما يكفي من المال لمغادرة الجزائر التي يعتبر أن السود فيها لا يملكون أي حقوق ويحرمون حتى من المعاملة الإنسانية.
وقال لمين: “كان علينا استئجار دليلا لمدة سبع ساعات للذهاب من مدينة دبداب الجزائرية إلى مدينة غدامس في ليبيا. ومرة أخرى، كان علينا الانقسام إلى مجموعتين تتكون كل واحدة من 50 شخصا. وصلت مجموعتي حوالي الساعة الثامنة صباحا وغادرت على الفور تقريبا إلى مدينة طرابلس. أما المجموعة الثانية فقد وصلت على الساعة العاشرة صباحا، ولكن تم القبض وقتل البعض منهم من قبل شرطة الحدود”.
مضيفا: “كنت أعتقد أن الفترة التي قضيتها في الجزائر سيئة جدا، لكن طرابلس كانت أسوأ بكثير بسب انعدام الأمن في تلك المدينة، حيث كان سائقو السيارات يضربوننا عمدا لأننا كنا من السود. كما تم القبض علي بعد أيام قليلة من وصولي وسجني في مرحاض لمدة خمسة عشر يوما من قبل بعض المهربين من أصول نيجيرية، غانية وليبية أيضا. ولم يقدموا لي غير بعض الماء والبسكويت في بعض الأحيان، طيلة فترة حجزي في ذلك المرحاض المقرف”.
وبعد أسبوعين، تم نقل لمين إلى مركز اعتقال آخر مع المئات من المحتجزين، وفي نفس تلك الليلة، هاجمهم ضباط شرطة ليبيين، الذين قاموا بقتل سبعة منهم. كما أصيب رفيق له بجروح بالغة، ولكن رفضت السلطات توفير العناية الطبية له، ما دفع ببعض أصدقاءه إلى خياطة جرحه وجمع مبلغ ضئيل له لتأمين رجوعه إلى نيجيريا وعودته إلى منزله في بلده غينيا-بيساو.
وفي هذه اللحظة قرر لمين العودة إلى بلاده، قائلا: “لقد تعرضت لخسارة كبيرة خلال هذه الرحلة ورأيت ما يكفي من العذاب والظلم والقهر. وقد علمت بعد ذلك أن ثلاثة من أصدقائي قتلوا في ليبيا والباقين غرقوا وهم في طريقهم إلى إيطاليا”.
وقضى لمين 25 يوما في طرابلس من دون عمل، لكن بفضل تضامن أصدقائه معه تمكن من العودة إلى الجزائر، وهناك علم أن سفارة مالي في الجزائر تسهل عمليات التحويل النقدية، ما شجعه على العمل في الجزائر وإرسال بعض المال لعائلته.
وفي إحدى الليالي، اقتحمت الشرطة المخبأ الذي كان يلجأ إليه ليلا للنوم وقامت بتفتيشه، وعندما عثروا على المال الذي كان بحوزته طُلب منه أن يعلمهم عن مصدره، ولكن عندما مكنهم من اسم مُشغله، أنكر هذا الأخير تشغيله له و ادعى أنه لص، وعلى إثر ذلك صادرت الشرطة المال وقامت باعتقاله.
وبعد فترة وجيزة، تم إطلاق سراحه ليعود إلى العمل. وبعد شهر، تمكن من توفير 60 ألف فرنك غرب أفريقي ومن العودة إلى النيجر. ومرة أخرى استحوذت شرطة الحدود على كل الأموال المتبقية لديه. وعندما بقي وحده، شعر لمين أنه لا يملك أي خيار سوى طلب رحمة ربه التي بإمكانها مساعدته وإنقاذه من هذه المحنة. وللمرة الثانية شهد لمين خلال هذه الرحلة حركة نبيلة من ضابط شرطة من النيجر شعر بالشفقة تجاهه عندما رآه يمشي على الأقدام، ليخبره أن المنظمة الدولية للهجرة في النيجر بإمكانها مساعدته في الحصول على منزل. كما قام بتوفير سيارة أجرة لتُقلّه إلى مكتب الهجرة.
والآن، وبعد مرور 22 يوما، هاهو لمين يجلس في غرفة الانتظار في مطار ليوبولد سيدار-سنغور، للعودة إلى داكار. لم يكن لديه خيار آخر غير الرجوع إلى منزله ومزاولة مهنته كعامل بناء.
وقال لمين بعد هذه الرحلة الخطيرة: “أنا لا أعرف ما إذا كانت أوروبا هي حقا الجنة أم لا. ولكن أنا بت أعلم أن الوصول إلى تلك الجنة يعني فقدان ما فقدت، ومعاناة ما عانيت، ورؤية ما رأيت، وتحمل ما تحملت، ولذلك أنا لا أود إلا الرجوع إلى وطني تامبا كوندا”.
المصدر: هافنغتون بوست