النظام السوري يعوّل على روسيا التي لم تعرف الإعمار قط

يعوّل النظام السوري على الدور الذي سيلعبه الفاعل الروسي في سورية بعد انتهاء الصراع بالشكل الذي يخدم النظام وداعميه، وقد سبق لبشار الأسد دعوة روسيا بمؤسساتها وشركاتها ورجال الأعمال للمشاركة في إعادة الإعمار أثناء زيارته إلى موسكو مطلع شهر أكتوبر/تشرين الأول العام الماضي، علمًا أن روسيا لم تعد تحتاج لدعوة إلى الأراضي السورية فهي متواجدة في قواعد عسكرية لها بعدتها وعتادها.
العديد من المؤسسات الدولية فككت أحجية إعادة إعمار سورية وصدّرت دراسات وأرقام، بعضها جاء فلكيًا، إذ ناهز 200 مليار دولار من شأنها أن تعيد قولبة الاقتصاد السوري وضخ الحياة فيه من جديد.
لن ننشغل هنا بما يتعلق بالعملية وتكاليفها وآلياتها وما لف لفيفها، بل سنجعل محل انشغل المقال، في البحث في أمرين مِفصليين، الأول: يتعلق بمدى قدرة روسيا ممثلة بالدولة والمؤسسات على النهوض في عملية إعادة إعمار سورية كما يأمل النظام السوري على الأقل، آخذين في الاعتبار الظروف الصعبة التي تعصف بالاقتصاد الروسي. والأمر الآخر: الأطماع الحقيقية للروس في سورية، فيما إذا كانت تستهدف الدخول في إعادة الإعمار أم لا! أم أن هناك أهدافًا أكبر تسعى روسيا لضمانها في الجغرافية السورية.
روسيا تهدِم لا تُعمّر
أن يترافق مفهوم إعادة الإعمار مع دولة مثل روسيا؛ أمرٌ يثير التعجب ويطرح استفهامات!، فهي وإن فعلت ذلك ستكون سابقة من نوعها في تاريخها القديم والحديث، فتاريخها يتحدث أنها سطرت خلال العقود الخالية، الحروب والتدمير والتهجير بحق دول وشعوب دون أن تنظر للوراء. كما حصل مع دول عديدة عانت الويلات من بطش روسيا القديمة والحديثة، في جورجيا والشيشان والقوقاز، وتفعل اليوم في سورية.
ما يحدث في سورية من تدمير وتهجير قسري لأهالي البلدات والمدن (درايا مؤخرًا) بتخطيط روسي وتنفيذ النظام السوري، الذي ركز همه على إخراج المدن الخارجة عن سيطرته من دائرة الصراع، حدث مع الشركس والتتار المسلمون في القرن الثامن عشر، حيث تم تهجير الشركس من القوقاز أيام روسيا القيصرية بين عامي 1763 – 1864. فالقوقاز تعد منطقة بالغة الأهمية بالنسبة لروسيا شكلت صلة الوصل بين وسط آسيا وأوروبا فضلًا عن كونها أرضًا غنية بالثروات الطبيعية.
وبعد انتصار الروس على الشركس في العام 1864 اتبعوا سياسة التغيير الديمغرافي في المنطقة، فهجّرت مليون ونصف شركسي من مناطقهم في مدن سوتشي وتوابسي وسخومي المطلة على البحر الأسود باتجاه دول عديدة كتركيا وبلغاريا وسورية والأردن، قضى منهم نحو نصف مليون شخص بسبب الظروف السيئة والأوبئة والجوع.
كذلك تعرض التتار المسلمون للتهجير من شبه جزيرة القرم في العام 1944 باتجاه سيبيريا ودول وسط آسيا وصودرت أملاكهم وأراضيهم ووزعت على الروس، حيث يروي التاريخ عن تهجير ربع مليون تتري خلال ثلاثة أيام قضى منهم 46.2% نتيجة المرض والجوع والظروف المعيشية السيئة. وغير بعيد عن ذلك العام شهد أيضًا تهجير الأتراك من جورجيا إلى جمهوريات وسط آسيا، لاقى ما يقرب من 20 ألفًا منهم حتفه بسبب ظروف التهجير القاسية.
لم تنسى شعوب تلك المناطق أراضيها المغتصبة من قبل الروس، فالشركس حتى اليوم لازالوا يطالبون روسيا بالاعتذار والاعتراف بيوم 21 مايو/أيار بأنه يرمز إلى الإبادة الجماعية وتهجيرهم من أراضيهم. سوى أن روسيا لم تعتذر حتى الآن. ولو اعتذرت عن قتل المدنيين في سوريا فإنها ستعتذر للشركس وللشعوب الأخرى. ولكن هيهات!.
التهجير القسري لأهالي وثوار داريا من المدينة إلى إدلب
أما في سوريا، فقد أوغل الروس في التدمير والقتل والتهجير فهو الراعي الرسمي لتفريغ المدنيين والثوار من داريا والمعظمية، فالمندوب الروسي كان حاضرًا في جلسات التفاوض بين النظام وأهل المدينة. ومن ثم جيء بسكان شيعة من العراق ومناطق أخرى أسكنوهم فيها بهدف تغيير معالم المدينة وطمس هويتها التاريخية والجغرافية. وهو الذي لا تهدأ طائراته عن القصف والتدمير باستخدام كل أنواع الأسلحة واستهدف المدنيين والمنشآت المدنية بدون استثناء.
وبالعودة إلى الإعمار فإن من يريد الضلوع بهذه المهمة، فإما أنه يملك احتياطيات نقدية فائضة، يستطيع استثمارها على المدى البعيد خارج البلاد دون أن يتأثر اقتصاده المحلي، أو أنه يملك رأس مال عيني من معدات وآلات صناعية وأدوات لإعادة الحياة للقاعدة الإنتاجية الواسعة والمتنوعة في البلاد.
وروسيا ليست قادرة على العمل بكلا الخيارين، بل إنها باتت مثقلة من تكاليف الحرب التي تخوضها في سورية، فمطلع العام الجاري سجلت الميزانية الروسية عجزًا قدره 30 مليار دولار.
مشاكل روسيا الاقتصادية
تعاني روسيا من اعتماد ميزانيتها على إيرادات الطاقة الناضبة بشكل كبير، وهو يعد اقتصادًا ريعيًا إذ تمول ثلاثة أرباع الميزانية من بيع النفط والغاز والفحم وهذه مشكلة هيكلية في الاقتصاد الروسي عرّضته لصدمات خلال العامين الماضيين بعد انخفاض أسعار النفط دون خمسين دولار للبرميل.
ففي العام 2014 صدرت روسيا نفط خام بنسبة 35% وبنسبة 20% نفط مكرر، وغاز طبيعي بنحو 8% لتصبح مجموع الصادرات في مجال الطاقة نحو 63% من الصادرات الكلية ويضاف إليها صادرات الفحم الحجري.
لذا سعت للتخفيف من وطأة المشكلة والأزمة التي تقبل عليها من خلال تقليص الإيرادات العامة وتشديد الإجراءات التقشفية بالضغط على الإنفاق العام والبدء في خصخصة شركات عملاقة تمتلكها الحكومة بلغ عددها ألف مؤسسة عاملة في مختلف المجالات، لعل أبرزها شركة “روس نفط”، و”روس تيليكوم”، و”إيروفلوت”، و”روس نانو” وغيرها.
أما الاحتياطي النقدي الأجنبي في روسيا فقد هبط بسبب السحوبات المستمرة لتغطية العجز وتكاليف الحروب التي تخوضها روسيا خارج حدودها، ليبلغ حسب آخر بيانات المركزي الروسي 396.4 مليار دولار في الفترة بين 29 يوليو /تموز و 5 آب/ أغسطس، بعدما كان في العام 2013 بالقرب من 524 مليار دولار وعلى حد وصف وزير المالية الروسي، هناك خشية من ازدياد تآكل احتياطات البلاد من النقد الأجنبي، حيث حذر أن الاحتياطي قد ينفذ كليًا بحلول عام 2017.
في حين بلغت المواد المصنعة نسبة 19.3% فقط من مجموع الصادرات واستوردت مواد مصنعة بنسبة وصلت إلى 75.3% من مجموع الواردات من أدوية وسيارات وأجهزة كهربائية وإلكترونيات ومعدات، حتى أنها اعتمدت على استيراد تقنيات استخراج النفط من البحر من شركات أجنبية مثل “إكسون موبيل” و”بريتش بتروليوم” و”توتال”.
أضف لذلك، السياسة غير الرشيدة ممثلة في زيادة إنتاج النفط في العقدين الماضيين بهدف زيادة الإيرادات، حتى بعد هبوط الأسعار ما عرضها لانتقادات واسعة. “هيرمان غريف” رئيس أكبر المصارف الروسية “سبير” قال في أحد المنتديات الاقتصادية في روسيا، أن روسيا بسبب هذه السياسة قد تتحول إلى دولة فاشلة اقتصاديًا مع اقتراب عصر النفط من نهايته، والارتهان إلى تقلبات الأسواق النفطية مشددًا على أن المستقبل سيكون لقطاع المعلومات والتقنية العالية.
لذا وبسبب ما يمر به الاقتصاد الروسي من مرحلة حرجة، فهو لا يحتمل منح هبات ضخمة أو قروض كبيرة بفوائد ميسرة لسد احتياجات إعادة الإعمار التي تقدر بـمئات المليارات. كما أن المنتجات التكنولوجية والهندسية الروسية لا تتمتع بحظ وافر أمام المنتجات الأوروبية والأمريكية وهذا يعني فتح المجال أمام الشركات الأمريكية والأوروبية في سورية بدلًا عن روسيا التي لا تزال متأخرة في هذا المجال.
ما يمكن لروسيا أن تقوم به قد يقتصر على الدور الفني في العملية؛ القائم على حيازة المعلومات الوافية حول الاقتصاد السوري وهو بعد مهم جدًا في إعادة الإعمار. حيث يمكن لروسيا إمداد السوريين بخرائطها المساحية والجيولوجية المتعلقة بالموارد الطبيعية وتوزعها لاستغلالها.
تعاني روسيا من مشاكل هيكلية في الاقتصاد لا طاقة لها على حلها، وأزمات مالية تحتاج لفترة زمنية طويلة حتى تعود للاستقرار، فكيف بها تستلم دفة اقتصاد يحتاج لإعادة بناء في كل القطاعات بدون استثناء.
وكما القوقاز منطقة مهمة بالنسبة لروسيا، كذلك الأمر في سورية فهي منفذها الوحيد على المياه الدافئة، وممر استرتيجي لأي خطوط غاز في المستقبل، لذا لا يمكن التخلي عنها، وستفعل المستحيل لضمان مصالحها هناك.
بوتين لم يرسل قواته العسكرية إلى سورية، خوفًا على حياة بشار الأسد وللحوؤل دون سقوطه، بالقدر الذي يدرك فيه أهمية سورية كبلد سيحدد ممرات الطاقة مستقبلًا، فما يؤرق بوتين هو من سيصدر الغاز؟ ومن أي؟ وإلى أين؟ وليس إعادة إعمار الحجر والبشر في سورية بعد انتهاء الصراع!.
ففي الوقت الذي تحاول فيه أوروبا الانعتاق من الغاز الروسي تحاول موسكو أن تفرض كلمتها في منطقة الغاز الناشئة حديثًا في شرق المتوسط التي تشمل قبرص واسرائيل ولبنان وتركيا وسورية، ومن هذا الباب تحرص ألا ينافسها أحد في تصدير الغاز من شرق المتوسط إلى أوروبا.
وفي النهاية تعويل النظام السوري على روسيا في نقطة إعادة الإعمار بعد انتهاء الصراع، خاسر لا محالة. فروسيا بارعة في انتهاكات حقوق الإنسان وأساليب تفريغ المدن من ساكنيها… بارعة في التدمير الممنهج والقصف العشوائي على الأحياء والمدن… بارعة في استهدف المدنيين وقصف المشافي. هذا ما يُعول على روسيا به!. أما إعادة الإعمار فالأحرى بروسيا أن تصلح اقتصادها أولًا قبل التفكير بإصلاح اقتصاديات غيرها. ففاقد الشيء لا يعطيه.