ليس هناك من لم يسمع بدورة الألعاب الأولمبية الصيفية أو الأولمبياد، والتي احتضنت مدينة ريو دي جانيرو البرازيلية فعاليات دورتها الأخيرة قبل نحو شهر من الآن، ولكن قلةً من الناس سمعوا عن دورة الألعاب البارالمبية، أو (البارالمبياد)، والتي تستضيف مدينة ريو البرازيلية هذه الأيام فعاليات النسخة الـ 15 منه، بمشاركة 4300 رياضي ورياضية، يمثلون 161 دولةً حول العالم.
فماذا عن ماهية وتاريخ هذا الحدث الرياضي الذي يعد ثاني أكبر تجمع رياضي عالمي بعد الأولمبياد؟ ومن هم الرياضيون المشاركون ضمن فعالياته الرياضية المتنوعة؟ وما الرياضات والمسابقات المعتمدة ضمن المنهاج البارالمبي؟ وكيف أصبحت البارالمبياد مصدر أمل وإلهام لأصحاب الاحتياجات الخاصة حول العالم؟
نبدأ بشرح معنى مصطلح Paralympic Games، وهو مزيج من كلمتي Paraplegic وتعني (المصاب بداء الشلل أو الكساح)، وOlympic أي الأولمبي، وبالتالي يقصد بالمصطلح دورة الألعاب الأولمبية الخاصة بأصحاب الإعاقات الحركية كالشلل والكساح، ولو أن هناك شرحًا آخر يربط كلمة Para بحرف الجر اليوناني الذي يعني (مع)، ليصبح المصطلح يفيد معنى: (مع الأولمبياد) أو (بجانب الأولمبياد)، وقد ظهر هذا الشرح ليتلاءم مع واقع الدورات البارالمبية الحالية، التي لم تعد المشاركة فيها مقتصرةً على المصابين بالشلل أو الكساح فقط، بل أصبحت تشمل مختلف الإعاقات الجسدية.
وتُعتبر الأهلة الـ 3 ذات الألوان: الأحمر والأزرق والأخضر، هي العلامة المعتمدة للراية البارالمبية الدولية منذ عام 2003، كما يُعتبر رمز Agito، ومعناه (الروح في الحركة)، هو الرمز الرسمي للبارالمبياد، الذي يتخذ من (نشيد المستقبل) الذي ألفه البريطاني تيري دارنيس، نشيدًا رسميًا له منذ عام 1996.
ويقام هذا الحدث العالمي كل 4 سنوات، عقب كل دورة ألعاب أولمبية صيفية، تحت رعاية وإشراف اللجنة البارالمبية الدولية، والتي تشرف أيضًا على تنظيم دورات أخرى خاصة بالرياضيين المعاقين، كدورة الألعاب البارالمبية الشتوية، ودورة الألعاب الخاصة بأصحاب الإعاقات الذهنية، ودورة ألعاب الصم، إضافةً للعديد من الدورات والبطولات لفئات الشباب والناشئين.
الطبيب البريطاني لودفيك جوتمان صاحب فكرة الألعاب البارالمبية
ويعود تاريخ إقامة أول تجمع رياضي خاص بالمعاقين إلى صيف عام 1948، حين قرر طبيب بريطاني ألماني المولد يُدعى لودفيج جوتمان، بالتعاون مع أحد المشافي البريطانية المتخصصة بعلاج المصابين بمشاكل في الحبل الشوكي من محاربي الحرب العالمية الثانية، ويدعى (مشفى ستوك مانديفيل)، تنظيم بطولة رياضية صغيرة خاصة بنزلاء المشفى، وذلك بالتزامن مع دورة الألعاب الأولمبية الصيفية التي كانت تقام في العاصمة البريطانية لندن حينها، وقد لاقت الفكرة أصداءً إيجابيةً وترحيبًا شعبيًا حارًا، نظرًا لما حملته من جانب إنساني، مما حدا بالقائمين على المشفى إلى إعادة تنظيم البطولة ذاتها بعد 4 سنوات، تحت اسم (دورة ألعاب ستوك مانديفيل)، التي أقيمت بالتزامن مع أولمبياد هلسنكي صيف عام 1952، بمشاركة أوسع شملت رياضيين من هولندا وبريطانيا.
وبعد 8 سنوات بالتمام والكمال، اختمرت الفكرة في رأس القائمين على اللجنة الأولمبية الدولية، فشرعوا بتنظيم دورات الألعاب البارالمبية بشكل رسمي، بالتزامن مع دورات الألعاب الأولمبية الصيفية، حيث استضافت العاصمة الإيطالية روما عام 1960، فعاليات الدورة البارالمبية الأولى بمشاركة 400 رياضي من 23 دولة، وتبعها 3 دورات بارالمبية أخرى أقيمت بالتزامن مع الدورات الأولمبية أعوام 1964 و1968 و1972، علمًا بأن الرياضيين المشاركين في تلك الدورات، كانوا من أصحاب الإعاقات الحركية التي تتطلب استخدام الكراسي المدولبة حصرًا.
وشهد عام 1976 حدثين بارزين على مستوى الدورات البارالمبية، حيث تم توسيع قاعدة المشاركين في البارالمبياد لتشمل المصابين بجميع الإعاقات الجسدية، ليصل عدد المشاركين في دورة تورونتو الصيفية إلى 1600 رياضي من 40 دولة، كما تم تدشين أول دورة بارالمبية خاصة بالألعاب الشتوية، وذلك في مدينة أورنشولدسفيك بالسويد أواخر العام ذاته.
وبقيت الدورات تقام كل 4 سنوات في مدن مختلفة حتى عام 1988، حيث تم الاتفاق بين اللجنتين الأولمبية والبارالمبية، على إقامة الدورات البارالمبية عقب الدورات الأولمبية مباشرةً وعلى المنشآت ذاتها، ليرتفع عدد الرياضيين المشاركين في بارالمبياد سيؤول صيف عام 1988 إلى 3057 رياضيًا من 61 دولة، ويستمر بالارتفاع في الدورات التالية حتى بلغ 4302 رياضيًا من 164 دولةً خلال بارالمبياد لندن الماضي عام 2012.
واليوم، تشهد بارالمبياد ريو دي جانيرو في البرازيل مشاركة 4300 رياضي يعانون من إعاقات جسدية مختلفة، تم تصنيفها ضمن الفئات الـ 10 التالية:
ضمور القوى العضلية
مشاكل الحركة
عجز الأطراف
اختلاف طول الساقين
التقزم
التوتر العضلي
الرنح
التصلب
إعاقة النمو
ضعف البصر
وقد انطلقت فعاليات بارالمبياد ريو في 7 سبتمبر الجاري حتى الـ 18 منه، ويتنافس المشاركون فيها على 528 ميدالية ذهبية ومثلها من الفضيات والبرونزيات، ضمن 22 رياضة متنوعة تشمل: ألعاب القوى، والسباحة، والفروسية، والرماية، والمبارزة، والجودو، ورفع الأثقال، وقيادة الدراجات، والقوس والنشاب، وسباق القوارب، والتجديف، والإبحار الشراعي، والترياثلون، والرجبي، والتنس، وتنس الطاولة، والكرة الطائرة، وكرة السلة، وكرة القدم بشكليها الخماسية والسباعية، وجميعها من الرياضات الأوليمبية المعروفة، مع إضافة بضعة تعديلات تتناسب وطبيعة المشاركين، حيث تُخصَص منافسات التنس والرجبي وكرة السلة والمبارزة لأصحاب الكراسي المتحركة حصرًا، كما تتواجد رياضتان لا مثيل لهما في الألعاب الأوليمبية العادية هما: كرة الهدف والبوتشيا، حيث تُخصص الأولى للمصابين بضعف البصر الشديد، وتعتمد على كرة بداخلها جرس يصدر صوتًا، أما اللعبة الثانية فهي شبيهة برياضة البولو، ويمارسها أصحاب الكراسي المدولبة.
وهكذا، تحولت فكرة رائعة ولفتة إنسانية دارت بخلد طبيب بريطاني قبل أكثر من 68 عامًا، إلى ثاني أكبر حدث متعدد الرياضات عبر العالم، وأكبر تجمع عالمي يشمل الرياضيين أصحاب الاحتياجات الخاصة، لتتاح الفرصة لهؤلاء الأشخاص كي يعبروا عن مواهبهم الفذة ويبرزوا قدراتهم الجبارة للعالم أجمع، دون أن تمنعهم إعاقاتهم الجسدية من أن يكونوا أبطالًا قوميين يرفعون رايات بلادهم في المحافل الدولية، وأمثلةً يُحتذى بها في الشجاعة والتصميم وتحدي الواقع الأليم، ومصدر أمل وإلهام لكل من ابتلي بإعاقة عطلت جسده ولكنها لم تعطل روحه، أو أخذت ببصره ولكنها لم تأخذ ببصيرته.