قبل الحرب العالمية الأولى (1914- 1918)، لم تكن السينما الألمانية على نفس الدرجة من التطور الذي حققته السينما في فرنسا وإنجلترا وأمريكا، وعلى الرغم من أن الأخوين “سكلادانوفسكي” قد قاما بعرض بعض الأفلام البدائية بآلة العرض “بيوسكوب” في حديقة الشتاء ببرلين في نوفمبر 1895، في نفس الوقت تقريبًا الذي ظهرت فيه آلة عرض الأخوين” لوميير” في فرنسا، إلا أن صناعة السينما الألمانية فشلت على نحو ما في النمو خلال السنوات الخمس عشرة التالية.
بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى واختفاء الأفلام المستوردة من دور العرض الألمانية، حاول الألمان زيادة كم وكيف الإنتاج المحلي، فكانت الخطوة الأولى هي إنشاء شركة مساهمة وطنية – شركة أوفا – بعد إصدار قرار حكومي بذلك في عام 1917، لصناعة وتسويق الأفلام الألمانية ذات المستوى الراقي، ولتحسين صورة ألمانيا في الداخل والخارج على السواء، وقد أنشئت لهذا الغرض استوديوهات جديدة ضخمة بالقرب من برلين، وعادة ما يقال إن السينما الألمانية قد ولدت كشكل فني مع تأسيس “أوفا” التي أصبحت في السنوات التالية أعظم وأكبر استوديو في أوروبا قبل الحرب العالمية الثانية.
لقد كانت “أوفا” باستخدام تعبير المؤرخ السينمائي كراكاور، مجرد أداة ساعدت على ولادة السينما الألمانية، التي كانت تمتد جذورها الحقيقية في حركة البعث الجديد التي سادت كل ألمانيا عشية الحرب الأولى، واتسمت بنزعة ثقافية ثورية، فقد أدت هزيمة ألمانيا السابقة إلى رفض كامل للماضي من قبل المثقفين، وانتشر الحماس لنزعة تقدمية وتجريبية، وتأسست جمهورية ديموقراطية ليبرالية في فايمار، لقد كان ذلك هو المناخ الذي ظهرت فيه المدرسة التعبيرية وأصبحت هي السائدة بين المدارس المختلفة، وهى حركة فنية تحاول أن تصور المشاعر الذاتية للفنان، ولكي تحقق ذلك فإنها تستخدم تقنيات غير واقعية مثل الرمزية والتجريد والتشويه المتعمد للإدراك “بتحريف وتضخيم اللون والكتلة والشخصية والديكور”، والموقف التعبيري مناهض للرومانسي، فالألوان صارخة وخادعة وفظة، والزوايا والمنظورات محرفة، والأشكال التي تصورها ذات مظاهر وأحجام غير مألوفة وشاذة، وكل ذلك بغرض خلق صدمة سيكولوجية في نفس المشاهد وانتزاعه من المظاهر المألوفة والتقليدية، والنفاذ إلى الجوهر الحقيقي للأشياء المخفي تحت السطح الظاهر.
التعبيرية: سينما القلق
مقصورة الدكتور كاليجارى/ ألمانيا عام 1919
يعد من أهم الأفلام في تاريخ السينما، وهو أول أسلاف السينما التعبيرية ونموذجها الذي تحتذيه، وهو فيلم يعرض عالم من الرعب والتشوش وعدم الفهم، حيث يظهر العالم هنا كمصح عقلي لا نعرف على وجه اليقين من هم المرضى ومن هم الأطباء.
إن “فرانسيس” الطالب الشاب بطل الفيلم يحكي قصة المشعوذ “كاليجاري”، الذي يسيطر على شاب منوم مغناطيسيًا يدعى “سيزار”، ويدفعه إلى ارتكاب عدة جرائم قتل، ويقوم فرانسيس بمطاردة كاليجاري ليجده في مصحة أمراض عقلية، ويعمل كمدير للمصحة وإن سيزار هو أحد مرضاه أو ضحاياه، لكن ما كنا نعتبره واقع وحقيقة طوال الفيلم يتضح في النهاية أنه مجرد تخيلات رجل مجنون.
إن الفيلم الذي ألفه التشيكي هانز يانوفيتش والنمساوي كارل ماير يحمل في مضمونه نزعة واضحة ضد كل أشكال السلطة، حيث يوازى بين السلطة والجنون، تلك السلطة التي ألقت بالشباب في جحيم الحرب الأولى دون منطق، لقد كان التعبيريون الألمان يحاولون التعبير عن الواقع الداخلي باستخدام وسائل الواقع الخارجي، لذا تعاقد مخرج الفيلم “روبرت فاينه” من أجل تحقيق هذا الغرض مع ثلاثة من الفنانين التعبيريين البارزين لتصميم ورسم ديكورات الفيلم، والتي تجسد حالة العذاب والقلق التي يعيشها راوي القصة.
كان إنتاج كاليجارى علامة على بداية عقد سوف تزدهر فيه السينما الألمانية، حيث ظهرت أفلام ألمانية عديدة بين عامي 1919 – 1924 تحاول أن تحاكي كاليجاري، وكان أغلب هذه الأفلام التي تعتمد على مزج الخيال والرعب تستخدم قصصًا تدور في أجواء مرعبة وديكورات تعبيرية، لكي تجسد فكرة الروح الإنسانية وهي تبحث عن ذاتها، ومن أهم هذه الأفلام “وجه يانوس” 1920 من إخراج مورناو، وفيلم “الجوليم” 1920 من إخراج بول فيجنير، و”متحف الشمع” 1924م من إخراج بول لينى.
لكن ما يبقى من هذه الموجة من الأفلام، فيلمان تميزا بلمسة فنية خاصة تعود إلى المخرجين اللذين سوف يصبحان من أهم المخرجين في السينما الغربية، كان الفيلم الأول هو” الموت الكئيب” 1921 لفريتز لانج، أما الفيلم الثاني فهو “نوسفيراتو” 1922 من إخراج مورناو.
فريتز لانج
أفلام لانج لا تبدو أفلامًا ذهنية خالصة على طريقة كاليجاري، لكنها تحتوى على تأثير تشكيلي جارف، يشد الانتباه إلى براعة تصميم الديكور واستخدامه دراميًا، في فيلمه “دكتور مابوزه المقامر” 1922، نرى معاجة تعبيرية لقصة “كاليجارية” تدور حول قاتل يخطط لتحطيم مجتمع ما بعد الحرب، وهو المجتمع الذي يحمل في طياته بذور التحلل والانهيار مما يجعله جديرًا بالدمار.
فيلم متروبوليس
أما اشهر أفلام لانج الصامتة فكان فيلمه “متروبوليس” 1927 الذي يعد أول فيلم خيال علمي عظيم، إن بعض الأفلام المبكرة احتوت على مشاهد تدور في المستقبل، لكن أي منها لم يتمتع بمثل تلك القوة والحيوية التي غمرت فيلم متروبوليس، والتي تثير الذهول حتى اليوم، فقد تم إحياء المستقبل، ليس فقط من خلال المناظر رهيبة الضخامة للمدينة، لكن في التفاصيل بالغة الصغر، لقد خلق “متروبوليس” معادلات بصرية للكثير من الأفكار العظيمة في الخيال العلمي كالبشر الذين يصبحون أقزامًا بجانب الآلات العملاقة الدوارة التي لا ترحم، والتى يخضعون لها تمامًا، إن من النادر وجود فيلم خيال علمي، لا يدين بفضل ما إلى متروبوليس منذ تاريخه وحتى الآن.
ف. و. مورناو
هو ثاني الشخصيات المهمة التي خرجت من أعطاف الحركة التعبيرية، وكان الفيلم الذي وصل به إلى ذروة مرحلته التعبيرية هو فيلم “نوسفيراتو”، الذي يعد من وجهة نظر العديدين المعالجة الأكثر خلودًا لرواية دراكيولا لـ “برام ستوكر”.
فيلم نوسفيراتو
إن فيلم نوسفيراتو يقف على رأس طابور أفلام رعب نهاية العالم، فيلم يخبرنا أن العادى والطبيعى والمألوف ليس هو القاعدة، بل إنه قد ينهزم أمام قوى القمع والمرض واليأس والعنف، وأن وداعة حياتنا شىء هش جدًا لدرجة مرعبة، وكانت رسالة الفيلم مناسبة تمامًا لجهورية فايمار.
أما فيلم “الضحكة الأخيرة” الذي أخرجه مورناو عام 1924، فقد كان فيلمًا متميزًا في كل عناصره، وكان أول فيلم في تاريخ السينما ينجح في تحريك الكاميرا في كل الاتجاهات في مشاهد تستغرق زمنًا طويلاً، وكان هذا إبداعًا حقيقيًا في مجال السرد السينمائى، لذا كان تأثير هذا الفيلم على السينما المعاصرة تأثيرًا عميقًا، ومارس تأثيرًا هائلاً على تقنيات السينما الأمريكية أكثر من أي فيلم أجنبي آخر في تاريخ السينما.
الطريق إلى النهاية
استمرت السينما الألمانية في تقديم العديد من الافلام المهمة في عقد العشرينات من القرن الماضي، رغم هجرة العديد من أهم مواهبها من مخرجين وكتاب وممثلين ومديري تصوير إلى الولايات المتحدة، فقد أنتجت ألمانيا ثلاثة من أهم الأفلام الناطقة الأولى، والتى نالت شهرة عالمية واسعة وتعد من علامات السينما الباقية إلى الآن: “الملاك الأزرق” 1930 للمخرج جوزيف فون سترنبرج مع النجمة مارلين ديتريش والنجم إيميل جانينجس و”إم” 1931 لفريتز لانج و”الجبهة الغربية” 1930 لبابيست، وهو آخر الروائع التي ختمت بها السينما الألمانية عصرها الذهبي الأول والذي انتهى رسميًا مع وصول الحزب النازي للسلطة فى ألمانيا عام1933.