على متن قارب بين السد العالي وخزان أسوان، وقف مواطن نوبي يدعى الحاج عمر مشيرا إلى المكان القديم لمعبد فيلة.
وبعد اكتمال بناء خزان أسوان عام 2002، تعرض الموقع بشكل دائم لمياه الفيضان، ولذلك تم نقل المعبد في ستينيات القرن المنصرم قطعة تلو قطعة إلى أرض أكثر ارتفاعا.
وأشار عمر إلى منزل جده الذي لم يتم نقله، وأصبح تحت المياه.
شعب النوبة ينحدر من حضارة إفريقية قديمة حكمت ذات يوم إمبراطورية واسعة، تضمنت كافة أنحاء مصر لفترة وجيزة. وعلى مدى آلاف السنين، عاش النوبيون على ضفاف نهر النيل، من جنوب مصر إلى شمال السودان.
اخترقت المسيحية المنطقة في القرن الرابع، لكن معظم النوبيين اعتنقوا الإسلام في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، بعد أن أصبحوا تحت سيطرة السلطات العربية. وعندما انفصلت السودان عن مصر عام 1956، انقسم المجتمع النوبي بين الدولتين.
وبالرغم من جهود إنقاذ آثار النوبة، لكن الكثير من هذا التاريخ الثري تم مسحه إثر إنشاء سلسلة من السدود، بلغت ذروتها ببناء السد العالي عام 1970.
معظم أراضي النوبيين الأصلية تغرق الآن تحت بحيرة ناصر. عشرات الآلاف من النوبيين أعيد توطينهم بشكل قسري. ومنذ ذلك الحين، تعرضوا للتهميش، سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، بحسب ماجا جانيمر من جامعة بيرجن النرويجية.
قضية النوبة تجيش على مدى عقود دون تحقيق الكثير من التقدم، لسبب جزئي منبعه الخوف من أن تؤدي الاحتجاجات إلى مزيد من القمع. بيد أن جيلا جديدا من النوبيين، تجرأ بسبب ثورة 2011، أصبح أكثر تأكيدا في الضغط من أجل تحقيق المطالب المرجوة، أبرزها حقهم في العودة إلى المنطقة المحيطة بمنازل أجدادهم.
وفي منتصف ستينيات القرن المنصرم، جرى إعادة توطين نحو 50 ألف نوبي حول كوم أمبو، التي تبعد عن شمال أسوان حوالي 50 كم، وتبتعد عن النيل بنحو 25 كم. وتضخم عدد النوبيين ليبلغ حوالي 90 ألف نسمة، بحسب أحد التقديرات.
القليل من النوبيين يشعرون بالرضا من أوضاع وطنهم الجديد، حيث يشتكي القريون من تداعي المنازل التي شيدتها الحكومة، وعدم ملاءمة التعويضات. لكن وجه الاعتراض الرئيسي يتعلق بموقع الوطن الجديد، حيث عبر عمر عن ذلك قائلا: “عندما تأخذ النوبي بعيدا عن النيل، لا يستطيع العيش”. وبدا في الأفق نقطة تحول عام 2014، عندما أعيدت صياغة دستور ما بعد الثورة بمساعدة الروائي النوبي المُقدّر حجاج أدول.
وشهد الدستور أول اعتراف رسمي بالوطن الأصلي للنوبة، محددا هدف تطوير المنطقة خلال 10 سنوات بالاستعانة بتمويل محلي. وحظر الدستور كذلك التمييز، ونصت المادة 236 على حق النوبيين في العودة.
ورغم ذلك، لم يتغير إلا القليل، حيث قال محمد عزمي، رئيس مجموعة الضغط المسماة بـ ” الاتحاد النوبي العام”: “منذ التصديق على الدستور، تماطل الدولة في حقوقنا”. وأشار إلى اختفاء مشروع قانون حول إعادة توطين النوبيين لأرض أجدادهم.
وفي ذات الأثناء، أصدر السيسي قرارا وافق عليه البرلمان في يناير، يصنف العديد من الأراضي التي يأمل النوبيون في العودة إليها تحت خانة اللامسموح، ويضعها تحت سيطرة الجيش.
ويخشى المسؤولون أن يطلب النوبيون يوما ما الاستقلال، رغم وجود القليل من العلامات على ذلك، إلا أن الحكومة تغذي مشاعر الاستياء.
العديد من النوبيين الآن يتوجسون من أن المادة 236 كانت ببساطة مجرد سبيل للحصول على دعمهم للدستور.
مشاعر التشكك تملكت من أديل نفسه أحد واضعي الدستور حيث قال: “المؤسسات المصرية الفاسدة تعمل لمنع النوبيين من العودة للاستيلاء على أراضيهم واستغلالها لمصالحهم”.
البعض يعتقد أن ثمة جهودا رسمية، بدأت بالتهجير، لمسح الثقافة النوبية. أما الدولة دائما ما تزرع هوية عربية وحيدة، حتى أن التعداد السكاني على سبيل المثال لا يحصي المعلومات العرقية.
ولأن النوبيين اقتلعوا من أرضهم وانتشروا في أماكن أخرى، فقد العديد منهم الاتصال بالإرث النوبي. القليل منهم من الذين ولدوا بالقاهرة والإسكندرية والسويس يستطيع التحدث باللهجة النوبية.
أديل حذر قائلا: “إذا لم نعد قريبا إلى وطننا، سنضحى نوبيين بلون بشرتنا فقط”. ومع مساعدة الإنترنت، وعبر الأدب والموسيقي، يحاول شباب النوبيين إعادة تنشيط ثفافتهم، كما نظموا احتجاجات وأقاموا دعاوى قضائية ضد قرار السيسي.
أدى ذلك إلى إحداث حالة من التوتر داخل المجتمع النوبي نفسه، فسره عزمي قائلا: “الجيل القديم أكثر توافقا مع الدولة وأكثر شعورا بالوطنية” حيث دعم العديد منهم بناء السد ظنا منهم أنه سيصب في صالح مصر، إلا أنهم لم يأخذوا إلا القليل مقابلها.
أقل ما تستطيع الحكومة فعله هو السماح للنوبيين بالعودة إلى وطنهم.
المصدر: إيكونوميست– ترجمة: مصر العربية