اتسعت رقعة ما سُمي بـ “دولة الخلافة الإسلامية” بما يفوق إمكانيات تنظيمها، وسيطرت على أكبر قدر ممكن من مساحة الأراضي العربية الشرق أوسطية الغارقة في الفوضى، وهو ما يعني ضعف إمكانية السيطرة على هذه المساحة الكبيرة لقدر كبير من الوقت.
يُفسر البعض ما حدث كمؤامرة لصناعة عدو مشترك، ومن ثم إخضاع المنطقة لحسابات حربه، وما يبدو حاليًا أنه يجري حصار داعش تدريجيًا بخنقها حتى الموت، لتتخلى عن الشكل العدائي الجديد وتعود إلى أدراج التنظيم الجهادي التقليدي.
حدود التنظيم باتت تتقلص بسرعة مذهلة، إنه الانفجار القادم من سوريا والعراق وليبيا، وقد وصل لنقطة فارقة، بعدها سينفض الحلفاء عن عدوهم المشترك، ويعود الجميع لتصفية الحسابات الإقليمية مع جيرانهم الجدد من الفواعل المتولدة عن قتال تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”.
تتحضر المنطقة لمعركتين مدعومتين من قوى دولية في مدينتي الرقة السورية، والموصل العراقية لتحريرهما من قبضة تنظيم الدولة، وبهما تسقط الخلافة المزعومة، ولكن في يد من ستسقط، هذا ما ستجيب عليه الحروب المتولدة بعد الفراغ من قتال العدو المشترك.
هذا جزئيًا لأن استراتيجية الفواعل الدولية لهزيمة تنظيم الدولة الإسلامية تعتمد على مجموعة متنوعة من الحلفاء الإقليميين والجماعات المسلحة المحلية التي غالبًا ما تكون على خلاف مع هؤلاء الحلفاء.
وعلى الرغم من أن كل منهم يرى تنظيم الدولة الإسلامية كعدو، معظمهم ينظرون إلى بعضهم البعض كأعداء، أيضًا، فكلما خرج مقاتلو تنظيم الدولة من قطعة أرض، تنبت صراعات أخرى عليها، فالحروب الجديدة تختمر.
حروب جديدة تنتظر المنطقة في مرحلة ما بعد داعش
- الحرب مع بقايا داعش
لا شك وأن الانتهاء من الشكل الحالي لداعش سيولد أشكالًا أخرى أكثر تقليدية، ولكنها ستحمل نفس الخطورة، إذ بدأت بالفعل بقايا التنظيم المطرود من مدن مختلفة في الأراضي التي كان يسيطر عليها في اللجوء إلى المساحات الأكثر تماسكًا في الموصل والرقة استعدادًا للمعارك الفاصلة.
لكن إذا ما انتهت هذه المعارك بفصل جديد من فصول هزيمة التنظيم، فإن بقايا داعش سوف تشكل تحديًا جديدًا في المنطقة، والخلايا التقليدية ذات الخبرة والتدريب العالي ستكون هي الهدف القادم، الذي سينتشر في العديد من البلدان وعلى رأسهم سوريا والعراق وليبيا، مع وجود ترشيحات بإشعال بؤر جديدة للصراع في تونس ومصر وغيرها.
- الحرب بين تركيا – أكراد سوريا
تنظر تركيا إلى أكراد سوريا باعتبارهم امتداد لتنظيم (بي كا كا) الذراع المسلح لحزب العمال الكردستاني المصنف كتجمع إرهابي في تركيا، والمعروف بعدائه التاريخي للدولة التركية، وفي نفس الوقت تعتمد عليهم الولايات المتحدة وروسيا في قتال تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في سوريا، وينتظر أن يكونوا رأس الحربة في معركة الرقة القادمة.
بالفعل بدأت هذه الحرب ومن المنتظر تطورها، مع اقتراب نهاية داعش، خاصة بعدما أطلقت تركيا عملية عسكرية “درع الفرات” في الشمال السوري، لمنع وجود تماسك لأراضي يسيطر عليها أكراد سوريا لتشكيل هلال انفصالي لدولة كردية على حدود تركيا الجنوبية.
- الحرب بين المليشيات الشيعية في العراق – العرب السنة
اتكأت داعش في تمددها في المدن السنية العراقية على مظلومية العرب السنة هناك الآتية من قبل الحكومة العراقية المركزية ببغداد المحاطة بمجموعات طائفية مسلحة مدعومة من دولة إيران.
ما ظهر من تحرير العديد من المدن العراقية من قبضة “داعش” عن طريق القوات العراقية وبمشاركة المليشيات الشيعية الطائفية، من مجازر وإبادة وتطهير مذهبي، يمكن التنبؤ من خلاله بما يمكن أن تكون عليه شكل الحرب القادمة بعد الفراغ من داعش.
إذ يُرجح أن تستمر المظلومية السنية في العراق، وهو ما يرشح ظهور إصدار جديد من داعش في أي وقت من الأوقات، أو اضطرار العرب السنة في العراق إلى الاستناد لظهير إقليمي كالسعودية لتلقي التمويل والسلاح لتشكيل مليشيات مناوئة تخوض حربًا بالوكالة ضد إيران على الأراضي العراقية، وهو سيناريو غير مستبعد، إذا ما استمر الجميع في تجاهل مأسي العرب السنة في العراق.
- الحرب بين كردستان العراق والحكومة المركزية
تتحرك قوات البيشمركة الكردية جنبًا إلى جنب مع القوات الحكومية العراقية والمليشيات الشيعية الطائفية في الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، بل وأثبتت قوات البيشمركة فعالية قتالية جعلت الولايات المتحدة تعول عليها كثيرًا في المعارك الأرضية بغطاء جوء أمريكي أمام داعش.
ترى الحكومة المركزية في بغداد أن لإقليم كردستان العراق الذي يتمتع بالحكم الذاتي مطامع من المشاركة في هذه الحرب، وهي السيطرة على نقاط مختلف عليها بين الحكومة في بغداد، وحكومة كردستان العراق.
حيث صرحت الحكومة العراقية أنها ستستعيد السيطرة تمامًا على المناطق الخاضعة لداعش بعد طرد التنظيم منها تمامًا، بينما تصر حكومة إقليم كردستان العراق على عدم ترك هذه المناطق تفلت من قبضتها بعد تحريرها من داعش.
- حرب ما بعد تحرير سرت ليبيا
واصلت قوات حكومة الوفاق الوطني الليبية المنبثقة عن اتفاق الصخيرات محاربة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في مدينة سرت، في العملية العسكرية المعروفة باسم “البنيان المرصوص” التي بدأت منذ شهر مايو الماضي حتى أعلنت تحرير كامل المدينة، ومحاصرة بعض مقاتلي داعش في أحياء متفرقة.
ولكن ذلك لن يعني وفق تصورات لمراقبين بأي شكل من الأشكال القضاء بالكامل على التنظيم الجهادي لأن مقاتليه من ليبيين و”مهاجرين”، يمكنهم بسهولة أن يتفرقوا ويتخفوا وسط السكان مستغلين الفوضى السياسية والأمنية السائدة في البلد منذ انهيار نظام العقيد معمر القذافي في 2011.
ويتخوف البعض من أن تلقى مدينة سرت نفس المصير الانتقامي الذي لاقته درنة بعد تحريرها من تنظيم داعش، حيث سيطرت عليها قوات ما يعرف بمجلس شورى مجاهدي درنة، وهو فصيل مسلح يتبنى فكر القاعدة.
وكان مندوب ليبيا لدى الأمم المتحدة، إبراهيم الدباشي، حذر من أن تلقى سرت نفس مصير مدينة درنة، خاصة مع عدم معرفة أي خطة خاصة بالمدينة لما بعد التحرير.
من جهة أخرى، يخشى البعض أن يعقب عملية تحرير سرت صدام بين قوات حكومة الوفاق وقوات حكومة الشرق، ومع سعي حكومة الوفاق الوطني لبسط سيطرتها خارج قاعدتها في طرابلس، يبدو حفتر وحلفاؤه غاضبين من عدم إشراكهم في عملية القضاء على تنظيم الدولة.
وتريد حكومة السراج الحالية أن تكون عملية تحرير سرت تحت إمرتها لإضفاء مزيد من الشرعية خاصة محليًا، والتأكيد للغرب على أنها الرهان الوحيد لإعادة الاستقرار إلى هذا البلد، ولكن هذه الرغبة تقف أمامها مسألة عدم حصولها على دعم بقية الأطراف، ويخشى كثيرون من أن استمرار هذا الوضع أن تُوضع البلاد على شفا حرب أهلية.
هذه أبرز الحروب المتوقع أن تجتاح المنطقة بعد الانتهاء من القضاء على الشكل الحالي لداعش، ولكن هذا لا ينفي أن القضايا الكبرى في المنطقة ستظل مشتعلة، كالموقف الدولي والإقليمي من النظام السوري برمته وعلى رأسه بشار الأسد، وكذلك تغول الأدوات الإيرانية في المنطقة في أكثر من بقعة، وغيرها من الصراعات التي من المحتمل أن تطفو على السطح بشكل أكبر بعد إزالة بقعة داعش.