من الطبيعي جدًا في اللعبة الديمقراطية – كما يسمونها – أن تفرض الكتلة المنتخبة شعبيًا أيدلوجيتها ورجالها على مفاصل السلطة، ذلك لأنها تحمل أجندة سواء كانت يمينية أو يسارية، وتريد أن تطبقها أملاً في الوصول لرفعة البلاد وراحة العباد، ولو حتى وفق منظورها بغض النظر عن كونه صوابًا أو خطأ.
وعموما ستنجلي الأمور بعد حين، والمحاسبة الشعبية ستكون عسيرة، وربما لاحقت أذرع القضاء هذه الرموز المنتخبة حتى ولو بعد تركها لكراسي السلطة، وكم سمعنا – في الغرب خاصة – عن محاكمة رئيس دولة أو رئيس وزارة بعد فترات طويلة من تركه منصبه بتهم فساد أو استغلال منصبه.
من هذا المنطلق كان في الأمر سعة، وكان التوجه الحكومي لا غضاضة فيه، وبات معلومًا لدي المختصين والمثقفين أن الأخونة أو العسكرة – كما في النموذج المصري – ليست عيبًا أو تهمة أو رذيلة كما صورها الإعلام المأجور إبان تولي الرئيس الإخواني محمد مرسي.
لقد صور الإعلام وقتها الأخونة كارثة ستأتي على البلاد والعباد، في حين هو الآن يغض الطرف عن العسكرة ولا يراها إلا حل منطقي باعتبار أن رجال المؤسسة العسكرية مشهود لهم بالضبط والربط كما يقولون، رغم أن التحقيقات لم تثبت أي تهمة فساد للإخوان، ولم تكشف عن حادثة رذيلة لإخواني واحد من عهد الرئيس السابق محمد مرسي، وكل تهم الفساد كانت لمحسوبين على نظام مبارك الذين عادوا بقوة بعد الإطاحة بمرسي.
عمومًا هذه الفسيفساء الوزارية التي تتولى مهام الأمور تجمع في طياتها تناقضات مقلقة للغاية، فرئيس الوزراء مدني والوزراء يتنوعون بين المدني والعسكري، وهذا يثير تساؤلات حول طبيعة العلاقة بين من يحكم من، وهل الجنرال العسكري سيكون بنفس الطواعية لقرارات رئيس الوزراء المدني، بل هل من الممكن أن يستدعي مجلس الشعب الوزير الجنرال ويقوم باستجوابه، وهل سيجرؤ الإعلام على رصد سقطات الجنرال الوزير، وأخيرًا في حالة تورطه بفساد هل سيحاكم أمام محكمة عسكرية أم مدنية.
وإن كانت الأيدلوجية القائمة على انضباط المؤسسة العسكرية ونزاهتها، فلماذا لا تكون الحكومة كلها من رئيس وزراء ووزراء عسكريين ونخرج من المأزق الاقتصادي الذي تمر به البلاد، خاصة وأن المواطن البسيط لا يهمه سوى الإنجازات وهدوء الأحوال المعيشية، لكن أن تكون وزارة مدنية كلما سقط منها وزير في براثن الفساد أو الفشل استبدلناه بوزير عسكري فتلك سياسة ترقيعية ستطيل أمد الإصلاحات.
كل هذا الطرح السابق كان من وجهة نظر المنظومة الديمقراطية، لكن قواعد الدين والخلق والعقل والمنطق والتاريخ والتجربة لها وجهة نظر أخرى.
فشرط العدالة ركيزة فيمن يتولى أمر العباد على كافة المستويات، العدالة في الدين والخلق، والعدالة في حسن السيرة والسريرة، والعدالة في نبوغه في تخصصه.
فلا خير فيمن لا يقيم حق الله في سلوكه وخاصة نفسه، ولا خير فيمن لا رجاحة في عقله ودماثة في خلقه، ولا خير فيمن كان فظًا غليظًا، ولا خير فيمن لا يحسن التخصص الذي سيتولى أمره.
قال تعالى: {وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ}[الأعراف:142]، {إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ}[يونس:81]، {وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}[المائدة:64]، {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}[الأعراف:103].
وانظر إلى قول العبد الصالح النبي شعيب عليه السلام لقومه: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}[هود:88]
إن الحل لا في الأخونة ولا في العسكرة، الحل يبدأ برد المظالم، وأداء الحقوق قبل سؤال الغلابة عن الواجبات، ونشر العدل بين الناس حاكميهم قبل محكوميهم، وتبني الكفاءات العدول، وتوقير العلماء وإقصاء السفهاء.
متى يعلم الجميع أن إقصاء سنن الله تعالى في خلقه نوعًا من العبث والجنون، متى يدرك الجميع أن الدماء البريئة التي أريقت، والحشود القابعة في السجون عقبة كئود أمام الإصلاح.
متى يتفطن الكل أننا أبناء وطن واحد لا فضل لأحد إلا بالتقوى والعمل الصالح، وأن شيطنة فصيل على حساب فصيل يجرنا للخراب، متى نفهم أن النهضة معجون متماسك بين الشعوب وقادتها، متى نجد مخلصون يرثون لحالنا، وينتصرون للحق مع من كان.