حينما تجد مواطني “سلة الغذاء في العالم”، وأكبر مخزن للثروة الحيوانية في إفريقيا يبحثون خلال عيد الأضحى عن أضاحي بأسعار زهيدة ومناسبة، حتمًا ستعلم أن هناك خطأ ما في إدارة هذه الموارد.
إهمال وتهميش
لم يكن ارتفاع أسعار الماشية غير المعتاد خلال الفترة الأخيرة في السودان، في ظل تزايد الأعباء المعيشية سوى مؤشر خطر عن الوضع الذي باتت فيه البلاد، بسبب السياسة الخاطئة في إدارة الثروة الحيوانية وغياب مشروعات التنمية، واستمرار الإهمال والتهميش الحكومي في البرامج الإحصائية، وعمليات التصدير بشكل مخالف إلى السعودية ومصر، وانفصال الجنوب، وأزمة إقليم دارفو، الأمر الذي دفع بنك “أم درمان الوطني” لطرح مشروعات لتقسيط وتمويل الأضاحي، كي يتمكن 50 ألف عمال في الوزارات والمؤسسات السودانية من شراء الأضحية.
انفصال الجنوب
من المعروف أن أفضل مقياس شائع يتم الاستشهاد به لقياس أهمية أي قطاع اقتصادي أو صناعي هو حجم مساهمته في إجمالي الناتج القومي، من هذا المنطلق تبدو أزمة الثروة الحيوانية بالسودان جلية وواضحة، حيث تكشف الإحصاءات الرسمية بالسودان قبل انفصال الجنوب عنه، عن أن الثروة الحيوانية وحتى وقت قريب كانت تسهم بأكثر من 60% من القيمة المقدرة المضافة للقطاع الزراعي، مقارنة بالمحاصيل الزراعية، إذا أين المشكلة؟
قبيل التاسع من يوليو 2011، تاريخ انفصال دولة الجنوب عن السودان، لم تكن الثروة الحيوانية السودانية في أفضل حالاتها، وإن كانت تأثيرات سوء الإدارة وغيرها ليست بالمشكلة الكبيرة مثل تلك التي خلفها الانفصال، فقبل الانفصال كانت هناك العديد من المشاكل والمعوقات التي تعترض تقدم وتنمية الثروة الحيوانية، أهمها ضعف الميزانيات، والأسبقية المتدنية من حيث الإنفاق على القطاع بواسطة الدولة، وهو ما ظهر جليًا في الميزانيات السنوية للدولة وخططها الخمسية، والتي كان آخرها الخطة الخمسية للعام 2005/2010، والتي أهملت تمامًا الاستثمار بالقطاع، وتدني الإنتاج والإنتاجية وضعف القدرة التنافسية في الخارج علاوة على موسمية الإنتاج والتسويق، وعدم الاهتمام بإنسان القطاع الرعوي والتقليدي الذي أرهقته كثرة وثقل الرسوم والجبايات على القطاع، بجانب اعتماد النظم التقليدية في إدارة الإنتاج والتسويق، والتدهور البيئي المستمر، وأثره على القطاع من ضعف وتدهور البنيات التحتية الرعوية والجفاف والتصحر، وأثر الهجرة من الريف للمدن الذي صاحبه ضعف بنيات النقل والترحيل والتخزين والتسويق والخدمات والصادر، بجانب الافتقار إلى تسهيلات التمويل متوسط وطويل المدى، وضعف الدعم المقدم وغياب الأطر والتشريعات القومية المشجعة على تطوير الثروة الحيوانية، وعدم الاستفادة من الإمكانية العلمية والتقنية في الإنتاج الحيواني، والنزاعات الرعوية بسبب الصراع على الموارد التي ظلت العامل الأساسي في تبديد إمكانات القطاع، والتي أبرزتها مشكلة دارفور، والتي بدأت بسبب النزاع بين الرعاة والمزارعين.
تدهور المراعي
بالرغم من كل تلك المشاكل إلا أن قطاع الثروة الحيوانية ظل محتفظًا ببعض إمكانياته للمساهمة بميزانية الدولة، لكن مع انفصال الجنوب، وفقدان الدولة لأكثر من 25% من مساحتها الجغرافية، وما تبعه من تقسيم للثروات الطبيعية والمائية، وفقدان جزء من المرعى الصيفي؛ انعكس الوضع على آلية توفير ما يلزم للمراعي التي يقوم عليها القطيع القومي، وضاعف من هذا الأثر افتقار الحكومة السودانية لمنظومة تخطيط للإمكانات الإدارية والتسويقية، كما أوضحنا.
يكفي هنا نظرة بسيطة على التقرير الصادر عن المنظمة العربية للتنمية الزراعية في أكتوبر من عام 2013، أي بعد عامين تقريبًا من الانفصال، والذي أكد أن الوطن العربي فقد أكثر من 41 مليون رأس من الماشية جراء انفصال جنوب السودان عن السودان.
ورصد التقرير حال الثروة الحيوانية بالسودان قبل العام 2011 ، وهو العام الذي شهد واقعة انفصال الجنوب، حيث كان القطاع الحيواني يلعب دورًا كبيرًا في الاقتصاد، ويساهم بنسبة 20% من إجمالي الناتج المحلي، وبنسبة 23.1% من إجمالي دخل البلاد من النقد الأجنبي، ويشكل 40% من مساهمات القطاع الزراعي بشقيه، وما يفوق 25% من مجموع عائدات الصادرات السودانية التي تقدر بنحو 800 مليون دولار سنويًا، وكانت الثروة الحيوانية تغطي الاستهلاك المحلي من اللحوم الحمراء الذي يقدر بنصف مليون طن سنويًا، وتبلغ قيمتها حوالى 700 مليون دولار، وتساهم في كفاية الاستهلاك المحلي من الألبان وتوفير الخام للصناعات الجلدية.
أزمة دارفور
أما أزمة إقليم دارفور فأثرت هي الأخرى على حرفة الرعي التي تعد من أهم الحرف التي يقوم بها أهالي الإقليم، ويعتبرونها مصدر دخلهم، فولايات الإقليم كانت تنتج ثروة حيوانية مميزة بالجودة عن باقي أنحاء السودان، والإقليم وحده يمتلك نحو 23% من الإبل السودانية، و30% من قطعان الأبقار، و29% من الضأن، و33% من الماعز، لكن أزمة الإقليم تسببت في نزوح معظم السكان، لتترك المراعي بدون رعاة، كما حدث افتقار شبه كامل للقطاع الزراعي، وأصبحت المراعي في الإقليم تعاني من التهميش والإهمال؛ مما أدي إلى ضعف في الناتج القومي، بعدما كان يساهم في الناتج القومي من الثروة الحيوانية بحوالي 60% من إجمالي إنتاج السودان من الثروة الحيوانية.
المشكلة الأكبر التي تضاف إلى كم المشكلات السابقة هي غياب الخطط المستقبلية والإحصاءات اللازمة للثروة الحيوانية في البلاد، بالإضافة لتوقف وانعدام الاستثمارات في هذا المجال، فالدولة التي تحصد مليار دولار سنويًا من ثروتها الحيوانية، لازالت تعتمد على إحصاء قديم مر عليه أربعين عامًا (كان خلال عام 1977)، الأمر الذي يمنع أية محاولات لتحقيق برامج التنمية، كما أن الحكومة السودانية التي تنتهج سياسيات اقتصادية تقليدية، عجزت عن توفير الأعلاف والتغذية التكميلية التي تؤدي إلى زيادة الإنتاجية، مما أدى إلى تدهور أوضاع المراعي الطبيعية.
تصدير عشوائي
مشكلة تدهور المراعي أثرت سلبًا على توافر الأعلاف اللازمة لتربية الماشية لدى المربين، ما ساهم في ارتفاع وتيرة تصدير الماشية الصغيرة والإناث، لعدم توافر الأعلاف التي تحتاجها الإنتاجات الجديدة، حيث تُصدر السودان أكثر من 20 ألف رأس من الماشية يوميًّا إلى السعودية عبر البحر، معظمها أغنام صغيرة يقل وزنها عن 30 كيلوجرامًا، بالإضافة للإناث التي زاد تصديرها خلال السنوات الماضية؛ بسبب عدم وضع سياسات وقوانين تضبط عمليات التصدير، وغياب الأجهزة الرقابية الحكومية على عمليات التصدير والشحن، الأمر الذي يشكل خطرًا على الثروة الحيوانية، ويعني انخفاضًا كبيرًا في نسبة التكاثر.