هل تذكرون ذاك اليوم الصادم من أوائل حزيران/ يونيو 2014، يومها أطل باسم يوسف على خشبة مسرح راديو للمرة الأخيرة مع لافتة ضخمة صريحة البيان: “النهاية”، كان ذلك يومًا مؤسفًا ولا شك، بعيدًا عن الإعجاب بيوسف أو عدمه، كثيرون منا أشفقوا على مصر أن تكون الدولة التي يهزها “برنامج”، اعترانا الفضول قليلًا نتيجة الستائر السميكة التي أسدلت على الحدث.
تسابقت كل محطة عربية وعالمية إلى استضافة يوسف والتحقيق معه حول ماضي “البرنامج” وحاضره ومستقبله، ولم يزدد يوسف في تلك المقابلات إلا جمودًا وبرودًا، مسلحًا بديبلوماسية وزئبقية أزعجت أكبر معجبيه، “المناضل” أصبح فجأة استسلاميًا وغير مبال حتى الملل، مع جمل قصيرة مملوءة بمفرادت: الضغوطات، الوضع الحالي، السلامة الشخصية.
حوارات فارغة بلا موقف ولاعزاء ولا تفسير ولا وعود، “هل ستستمر”؟ يقول: “لا أعرف بعد”. “هل الضغط سياسي أم إعلامي”؟ يرد: “لا أستطيع القول”، “هل ستكمل البرنامج مع محطة أخرى غير مصرية”؟ يجيب: “لن أقبل بتصوير البرنامج خارج مصر”.
هل كانت جرعة من الوطنية المثالية الفارغة وحسب؟ أم كانت محاولة ذكية للتهرب؟ في الحالتين سقط يوسف بضربة قاضية أنهت مستقبله العلمي والإعلامي معًا، وتحول من دجاجة تبيض ذهبًا إلى مجرد تمثال نلقي عليه نظرة بين الفترة والأخرى، بهت الحدث وتراجعت الأضواء، وأصبحت تقتصر على ظهور هنا أو لقاء هناك، نسيناه أو ربما نسينا هو، لا فرق.
هذا المشهد – رغم سواده – يبدو لي أهون الشرين، كان لكل منا رأيه وتوقعاته وتطلعاته تجاه يوسف “الظاهرة” وحضوره الطاغي على الشاشة، وكان لكل ذكرياته عن زمن حرية الإعلام آنذاك، كان ذلك حتى شهر مضى، إذ عاد يوسف بعد عامين من الغياب عودة مفاجئة ومخيبة للآمال في آن معًا.
عبر شبكة فيوجن الأمريكية، وضمن سلسلة مقاطع قصيرة بعنوان “كتيب الديمقراطية“، ظهر يوسف بلباس آخر مختلف تمامًا، متخليًا عن جمهوره المستهدف وعن سوقه المعتاد وبعيدًا عن الشرق الأوسط كله، لم يحمل معه من مصر وهمومها وقضاياها سوى بطاقة (كنت جون ستيوارت بتاع مصر وهربت من البلد)، هكذا يقدم يوسف برنامجه الساخر الجديد استعدادًا لاصطحاب المشاهدين في رحلته من الشرق الأوسط “المتخلف” إلى “بلاد الحريات والتعدد”.
بما أن هذا الموضوع طرق عشرات المرات في العالم كله تقريبًا حد التخمة، يجدر بنا توقع مقاربة أكثر عصرنة أو أشد إضحاكًا أو أحد ذكاءً، وهو الأمر الذي لم يكن موجودًا على الإطلاق، على العكس كانت السخرية في أفضل حالاتها سخيفة، ولم ينقذها على الإطلاق إضافة ترجمة مصرية “متحذلقة” زادت الوضع سوءًا، كما هو متوقع، لم يحقق البرنامج أي ترتيب ملحوظ في سوق المشاهدة العربية ولا الأمريكية، قلة من الحلقات كسرت حاجز 200 ألف مشاهدة، أي عشرة في المئة مما حصدته أي حلقة من حلقات “البرنامج”، بغض النظر عن تضاعف جمهوره المستهدف أربعة أضعاف على الأقل.
في عشر الحلقات التي نشرتها شبكة فيوجن، ما من مقطع واحد يخلو من التنميط الفج للشرق الأوسط عمومًا تحت بنود التخلف والإرهاب، يبني يوسف دعواه على أنه – هو القادم من جحيم التخلف والإرهاب العربي الإسلامي – لم يجد ما هو أفضل في الولايات المتحدة، يوسف إذ يسخر من الأمريكيين ومن فهمهم الأعرج للديمقراطية، لا ينسى أن يعرج في كل مرة على المقارنة بالمكان الذي أتى منه على أنه قاع الحضارة البشرية، ولا بد إذًا أن تنتهي كل حلقة بعبارة من مثل: “لم يكن هناك داع لأن أغادر بلادي إذًا” أو في أفضل الأحوال: “ربما عليكم أن تأتوا إلى الشرق الأوسط”.
برنامج يوسف الذي كان يفترض به أن يرصد الحياة الأمريكية، يكاد يكون أسوأ من أي آراء فردية ينشرها المواطنون الأمريكيون في فضاء الشبكات الاجتماعية، بل إن الإسفاف الذي يلف اليوم كلا الحزبين الحاكمين وكلا الحملتين الرئاسيتين (وهو موضع نقاش وجدل طويلين في الساحة الإعلامية الأمريكية) لم يجد طريقه إلى برنامج يفترض به أنه يشرّح العملية الديمقراطية برمتها، لقد اكتفى يوسف بمهاجمة ترامب وحده، والأسوأ من ذلك هو أن أيًا من مناصري ترامب ومحبيه لن يجد عونًا أفضل مما قدمه يوسف، ثمة تكريس وتمرير لنفس الخطاب العنصري ضد العرب والمسلمين في ثنايا ما حمله يوسف إلى الإعلام الأمريكي المتخم به أصلًا.
من رأيي الشخصي، كم أتمنى لو أن الستار أسدل على حكاية يوسف في ذلك اليوم الصادم من أوائل حزيران/ يونيو 2014، يومها أطل باسم يوسف على خشبة مسرح راديو للمرة الأخيرة مع لافتة ضخمة صريحة البيان: “النهاية”، أما الآن، فهل هي بداية جديدة؟ إذا كان الأمر كذلك، فيبدو لي أشبه بنكتة سمجة، لا ينقصها سوى تتمة من باسم يوسف يهاجم فيها أولئك المهاجرين الذين يأتون من بلاد الهمجية والخراب ويكدرون صفو “وطنه”.